أسواق الكربون.. رهان على تجارة الانبعاثات لمكافحة الاحتباس الحراري

كثر الحديث في السنوات الماضية عن “سوق الكربون”، بوصفه أحد الأدوات الجديدة والمبتكرة للحد من تداعيات أزمة المناخ العالمية، ووُصف بأنه سيكون الحل الأمثل لخفض الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري، وتفادي الآثار الكارثية لارتفاع درجة حرارة الأرض.

ويعتمد هذا المفهوم، على خلق آليات لتسعير ثاني أوكسيد الكربون الذي يفرزه النشاط البشري في الغلاف الجوي، مع إمكانية البيع والشراء عبر نظام خاص. فالشركات والمؤسسات وحتى الدول المنخرطة في هذا النظام مجبرة على تعويض تجاوزها للسقف المحدد من الانبعاثات الملوثة للبيئة، وذلك عبر شراء أرصدة الكربون، بينما تستفيد تلك التي لم تتجاوز سقف الانبعاثات من إمكانية بيع رصيدها الباقي والتكسب من ذلك.

أسواق الكربون عرض وطلب

ظهرت أولى أسواق الكربون في العالم قبل حوالي عقدين من الزمن، وأنشأ الاتحاد الأوروبي أكبرها سنة 2005، لكن هذه الأسواق شهدت زخما أكبر في السنوات الماضية، مع تزايد السياسات الخضراء الرامية إلى تحقيق الحياد الكربوني.

وتتطلب هذه السياسات الخضراء مزيدا من التمويلات خصوصا بالنسبة للدول النامية التي تحتاج إلى ما يقارب 6 تريليونات دولار في أفق 2030، لتحقيق أقل من نصف أهدافها في مجال المناخ. بينما قدرت مكاتب دراسات قيمة تصاريح ثاني أوكسيد الكربون المتداولة في الأسواق العالمية بحوالي 850 مليار دولار سنة 2021، ومعظمها في الاتحاد الأوروبي.

فماذا نعني إذن بسوق الكربون؟ وكيف يمكن أن تساهم في إنقاذ الكوكب من أزمة الاحتباس الحراري؟ وهل هناك إمكانية لتطور هذا السوق أكثر مستقبلا وتحقيق الحياد الكربوني المنشود؟

بروتوكول كيوتو.. نواة تأسيس أسواق الكربون الدولية

بدأ الحديث عن إنشاء أسواق الكربون خلال قمة الأرض التي نظمتها الأمم المتحدة في مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية عام 1992، حيث أقر مبدأ “الدفع مقابل الانبعاثات”. لكن الفكرة ستتجسد مع توقيع بروتوكول كيوتو التاريخي في اليابان سنة 1997. فقد شكل البروتوكول أول خطوة تنفيذية لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن التغير المناخي التي اعتمدت سنة 1992 في نيويورك، ونص بالأساس على خفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بين عامي 2008-2012 بنحو 5% دون مستويات عام 1990.

توقيع بروتوكول “كيوتو” التاريخي في اليابان سنة 1997 شكل أول خطوة تنفيذية لاتفاقية الأمم المتحدة بشأن التغير المناخي

ورغم أن هذا الهدف لم يتحقق، لعدة أسباب من بينها إدمان دول العالم للوقود الأحفوري، وانسحاب الولايات المتحدة ودول أخرى من بروتوكول كيوتو منذ سنة 2001، فإن نص البروتوكول جاء بمجموعة من الأفكار الجديدة والمستحدثة، من بينها خلق آلية لتمكين الدول الأكثر ثراء من تقليل انبعاثاتها بطريقة غير مباشرة، وذلك عبر دفع أموال مقابل تطوير مشاريع منخفضة الكربون في الدول الفقيرة.

وشكلت هذه الفكرة أول نواة لتأسيس أسواق الكربون العالمية، قبل تحسينها وتحديثها في الاتفاقات المناخية اللاحقة، لتتحول إلى إنشاء نظام قائم بذاته لتجارة الكربون في عدد من الدول والاتحادات، يوضع بواسطته حد أقصى لكمية ثاني أوكسيد الكربون المسموح بطرحه في الأجواء، واللجوء في حال تجاوز هذه الحدود إلى شراء تصاريح الكربون.

نظام تداول الانبعاثات.. خطة أوروبية لمكافحة الاحتباس الحراري

كان الاتحاد الأوروبي أول كيان في العالم ينظم سوقا للكربون ويضعها على سكة التفعيل منذ سنة 2005، عبر إقامة نظام لتداول الانبعاثات يغطي حوالي 40% من إجمالي انبعاثات المنطقة. وشكل هذا النظامُ الأداةَ السياسية الرئيسية للتكتل لمكافحة ظاهرة الاحتباس الحراري، وخصوصا خفض صافي انبعاثات الغازات الدفيئة بنسبة 55% بحلول عام 2030، مقارنة بمستويات عام 1990، ثم الوصول إلى الحياد الكربوني بحلول عام 2050.

تعوض الدول الصناعية عن الانبعاثات الزائدة في الكربون بشراء أرصدة الكربون من دول نامية أو غير صناعية

وتعززت تحركات الاتحاد الأوروبي في هذا المجال بعد التوقيع على اتفاق باريس للمناخ عام 2015، وينص صراحة في مادته السادسة على إنشاء ودعم سوق دولية لتعويضات الكربون. وقد توصلت دول التكتل الـ27 نهاية سنة 2022 إلى اتفاق مهم بشأن إصلاح أسواق الكربون، ووصف بالأكبر منذ 2005، رغم أزمة الطاقة غير المسبوقة التي واجهتها القارة العجوز في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا.

وينص الاتفاق الجديد بالأساس على أداء شركات الطيران تعويضات عن الانبعاثات الملوثة لأنشطتها عبر شراء أرصدة الكربون، وفرض تسعيرات متباينة ومتناقصة سنويا على نحو 12 ألف منشأة على رأسها المصانع ومحطات الطاقة، مع تقديم دعم للمواطنين المتضررين، وكذلك للشركات الصغيرة عبر صندوق تبلغ كلفته 87 مليار يورو، اعتباراً من عام 2026.

وستزيد هذه الخطة من مستوى الأهداف الموضوعة لخفض الانبعاثات في الاتحاد الأوروبي، والوصول إلى نسبة 62% في الحد من التلوث بحلول نهاية هذا العقد، مقارنة بالمستوى المسجل في 2005.

تعدد الأسواق.. محاولات أمريكية لخفض الأسعار

نجد إلى جانب السوق الأوروبية للكربون، ما لا يقل عن 60 برنامجا آخر حول العالم يخص تجارة الكربون، وتغطي ما يعادل 20% من إجمالي الانبعاثات العالمية، ومن أكبرها أيضا سوق الكربون الأسترالية والكندية والأمريكية، ونظام تداول الانبعاثات الصيني الذي أطلقته بكين سنة 2021.

تختلف تسعيرة الكربون بحسب الأسواق، فالأسعار في أوروبا مثلا تختلف عنها في الصين أو الولايات المتحدة

وتختلف تسعيرة الكربون بحسب الأسواق، فالأسعار في أوروبا مثلا تختلف عن الصين والولايات المتحدة، وساعدت القواعد الأكثر صرامة في أوروبا مثلا إلى وصول أسعار الكربون مستوى قياسيا تجاوز مئة دولار للطن المتري عام 2022. بينما تطمح الولايات المتحدة إلى خفض تدريجي للسعر، من أجل بلوغ 50 دولارا للطن مع حلول عام 2030.

ولا يتوافق هذا السعر الأمريكي مع توصيات صندوق النقد الدولي، فقد حدد السعر الأدنى بالنسبة للاقتصادات المتقدمة في 75 دولارا للطن بحلول 2030، و50 دولارا لاقتصادات الأسواق الناشئة ذات الدخل المرتفع مثل الصين، و25 دولارا للدول ذات الدخل المنخفض مثل الهند.

الأسواق الطوعية.. بديل الدول الخارجة على النظام

تحظى جميع أسواق الكربون بطابع الإلزامية في الدول التي اعتمدت هذا النظام، فهي تغطي الانبعاثات المباشرة، بالنسبة للشركات التي لا تسمح طبيعة أنشطتها بخفضها، وذلك عبر شراء تعويضات الكربون عن طريق أرصدة ائتمانية.

وهناك في المقابل الأسواق الطوعية التي تتيح للشركات في الدول التي لا تفرض أنظمة تداول إلزامية، خفض الانبعاثات بشكل ذاتي واختياري على طول سلسلة القيمة، وذلك عن طريق شراء أرصدة الكربون من خلال مشروعات تستهدف إزالة أو تقليل انبعاثات الغازات الدفيئة، مثل اعتماد سياسات التشجير واستصلاح الأراضي، أو اللجوء إلى تقنيات تجميع الكربون وتخزينه، والاستثمار في الطاقات النظيفة.

ويبقى تطور هذه الأسواق الطوعية محتشما إلى حدود الساعة، فهي تغطي أقل من 1% من إجمالي الانبعاثات العالمية، مقارنة بـ20% للأسواق الإلزامية. كما أن متوسط سعر تعويضات الكربون المتداولة في هذه الأسواق الطوعية ما زالت منخفضة مقارنة بمثيلاتها الإلزامية، ولم تتجاوز 5 دولارات للطن تقريبا سنة 2022، بحسب مكتب الأبحاث والاستشارات “وود ماكنزي”.

زيادة الأسعار.. تنافسية تخنق الأسواق الأوروبية

تسعى أنظمة تداول الانبعاثات الإلزامية اليوم إلى التوسع أكثر لتشمل مختلف الشركات والمؤسسات، مثل قطاع النقل بمختلف أنواعه، وتجارة الجملة والتجزئة وحتى القطاع الفلاحي. وعدم الاقتصار فقط على قطاع إنتاج الطاقة ومصافي النفط ومصانع الصلب والإسمنت والمواد الكيميائية الأكثر تلويثا.

ويصطدم هذا المسعى بزيادة التكاليف سواء تعلق الأمر بإنتاج الطاقة، أو المواد الرئيسية الضرورية للنمو الاقتصادي، وهنا يطرح مشكل المنافسة غير العادلة من قبل الدول التي لا تتوفر على أنظمة إلزامية، أو تفرض تسعيرة منخفضة للكربون.

كيف سيحقق العالم الحياد الكربوني، فتنعدم به انبعاثات الكربون نهائيا؟

وقد وجدت دول الاتحاد الأوروبي الـ27 نفسها وسط هذا التحدي، باعتبارها السوق الأكثر تطورا في مجال سندات الكربون التي ارتفعت أثمانها بسرعة، وأصبح التكتل يسيطر على 90% تقريبا من قيمة تصاريح ثاني أوكسيد الكربون المتداولة في الأسواق العالمية، بقيمة تصل إلى 683 مليار يورو.

ومن أجل التصدي لهذا الإشكال والحفاظ على تنافسية الشركات الأوروبية، فرض الاتحاد ضريبة إضافية على واردات بعض السلع في إطار خطة أطلق عليها اسم “آلية تعديل حدود الكربون”، وتعد الأولى من نوعها في العالم.

ستدخل الخطة حيز التنفيذ بشكل كامل اعتبارا من عام 2026، وفقا لمفوضية الاتحاد الأوروبي بالأساس، وتشمل المنتجات القادمة من البلدان ذات القواعد البيئية الأقل صرامة، وعلى رأسها البلدان الآسيوية والسوق الأمريكية. كما خصصت إعفاءات لدخول المنتجات القادمة من الدول النامية، شريطة امتثالها للمعايير الأوروبية الجديدة، وتبنيها سياسات الاستثمار في الطاقات النظيفة، وتشجيع التمويل الأخضر.

تباين الأسعار.. أساليب التهرب من الضرائب الكربونية

هذا التوجه العالمي المتسارع نحو توسيع أسواق الكربون وتطويرها لم يهدئ من مخاوف نشطاء البيئة، فقد عبروا صراحة عن عدم اقتناعهم بقدرة هذه الأسواق على الحد من انبعاث غاز ثاني أوكسيد الكربون، وهو المسؤول الرئيسي عن ارتفاع درجة حرارة الغلاف الجوي للكوكب.

مظاهرات طلابية مطالبة بالحفاظ على مناخ الأرض

وتبرر منظمات حماية البيئة وعلى رأسها “السلام الأخضر” (Greenpeace) هذا التخوف بكون أسواق الكربون تقدم لبعض الشركات الكبرى “حق التلويث” من خلال شراء أرصدة الكربون، خصوصا في الأسواق الطوعية، إذ تبقى مكاسب الاستثمارات الخضراء للشركات أقل بكثير مقارنة بحجم نشاطها الملوث. كما أن مشاريعها البيئية كالتشجير وغيرها تتأخر في تقديم نتائج ملموسة، مقارنة بالانبعاثات التي يكون تأثيرها آنيا. فعلى سبيل المثال، قد يتطلب نمو شجرة بعد زراعتها 20 سنة لتصبح قادرة على امتصاص كميات الكربون المرجوة.

وتشمل الانتقادات أيضا الأسواق الإلزامية، حيث تظل الأسعار متباينة جدا إلى حدود الساعة من منطقة إلى أخرى، وهو ما قد يشجع بعض الشركات الملوثة على نقل أنشطتها إلى مناطق تنخفض فيها الأسعار، للتهرب من أداء رسوم كربون مرتفعة.

ولهذا تعتبر منظمة “السلام الأخضر” هذا التوجه غير مجد في الوقت الراهن، وتطالب في المقابل بحلول مستدامة، من خلال أنظمة قوية للمراقبة، للحد من انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون المسببة للاحتباس الحراري.

مبادرات الدول العربية.. حتمية المشاركة في الجهود الدولية

تتحمل اليوم عدد من الدول العربية عبء التأقلم مع تداعيات أزمة المناخ العالمية، رغم أنها تعتبر الأقل تلويثا، مقارنة بالدول الصناعية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة والصين وبلدان الاتحاد الأوروبي. لكن ذلك لم يمنع الدول العربية من الانخراط في المبادرات الدولية الرامية لتقليل الانبعاثات، وإقامة أسواق للكربون خاصة بها، تمكنها من الاندماج في نظام دولي مؤطر لتبادل الأرصدة على الصعيد الجهوي أو العالمي.

أسواق الكربون العربية وترتيبها في انبعاثات الكربون

وبعد مؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ “كوب 22” التي نظمت بمراكش المغربية سنة 2016؛ عادت الدول العربية لتتموقع مجددا في قلب الأجندة العالمية للمناخ، من خلال تنظيم مؤتمر الأطراف الـ27 في مصر سنة 2022 ومؤتمر الأطراف الـ28 في الإمارات العربية المتحدة سنة 2023. وزاد هذا الانخراط العربي من تسليط الضوء على المبادرات التي تتخذها بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، للوفاء بأهدافها المتعلقة بتغير المناخ، ومن بينها المشاركة في أسواق الكربون.

وأصبحت اليوم اقتصادات الشرق الأوسط -ودول الخليج تحديدا- مطالبةً بخفض انبعاثات الكربون والبحث عن سبل ناجعة لذلك، بسبب ارتفاع نصيب الفرد لديها من الانبعاثات مقارنة بباقي دول العالم.

أسواق العرب.. تجربة رائدة للأردن وصحوة خليجية

صنف البنك الدولي في آخر تقرير له حول أسواق الكربون الأردن -إلى جانب تشيلي وغانا وسنغافورة- على أنها أفضل الدول النامية، من حيث التوفر على بنية تحتية رقمية متكاملة لدعم مشاركتها في أسواق الكربون الدولية.

ويعتبر الأردن أول بلد نام يقيم أنظمة رقمية متطورة لرصد الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري وفقا للمعايير العالمية بتعاون مع البنك الدولي. وأصدرت الحكومة الأردنية في 2019 تشريعات تحدد طرق عمل هذا النظام الخاص بالرصد والإبلاغ والتحقق لتتبع انبعاثات الكربون، في قطاعات مثل الطاقة والنقل والزراعة. كما أطلق الأردن عام 2020 استراتيجيته العشرية في قطاع الطاقة لتحسين مزيجه من مصادر الطاقة، وخفض الانبعاثات بنسبة 10% بحلول 2030.

الأردن أول “بلد نام” يقيم أنظمة رقمية متطورة لرصد الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري وفقا للمعايير العالمية

وتسير بلدان عربية أخرى في هذا المسار مثل السعودية وقطر وعُمان والإمارات والبحرين، وقد كشفت عن أهداف طموحة لتحقيق الحياد الكربوني. وأعلنت السعوية نهاية سنة 2022 عن نجاح أكبر مزاد عالمي لتداول “ائتمانات الكربون”، بعد إطلاقها في السنة نفسها شركة سوق الكربون الطوعي الإقليمية، بتعاون بين صندوق الاستثمارات العامة ومجموعة “تداول” السعودية.

كما أعلنت الإمارات أيضا في مارس 2022، عن خطتها لإطلاق أول بورصة إلكترونية في العالم لتداول أرصدة الكربون، بمبادرة من سوق أبو ظبي العالمية بشراكة مع شركة “أير كربون إكستشينج”.

وتسعى قطر كذلك إلى الحد من الانبعاثات الكربونية المرتفعة، من خلال مبادرات رائدة، كاعتماد تقنية التقاط واحتجاز الكربون، وتستهدف أكثر من 11 مليون طن سنويا من ثاني أوكسيد الكربون في البلاد بحلول عام 2035.