“نار الحب”.. ثنائي من العلماء احترقا بنار الحب والبراكين الثائرة

عندما تصبح هوايتك هي عملك وحياتك وهي التي تقودك إلى اكتشاف الشريك الذي يصبح جزءا لا يتجزأ منك ومن حياتك، كما حدث في حالة الفرنسيين “كاتيا” و”موريس” اللذين ارتبطا بظاهرة البراكين المشتعلة الثائرة التي وُلد منها الحب الذي جمع بينهما كزوجين؛ يصبح الحب دافعا لحب من نوع آخر، حب لا مجال فيه للتراجع، حتى لو أدى إلى الموت.

“كاتيا” و”موريس”.. زوجان جمعها حب دراسة البراكين

“كاتيا” و”موريس كرافت” زوج وزوجة من علماء البراكين، جمع بينهما حب تأمل البراكين ودراستها، والتجوال حول العالم لرصدها وتأملها والتقاط الصور والأفلام لكل تطوراتها، حتى عندما تثور هذه البراكين، وتلقي بحممها التي قد تترتب عليها كوارث إنسانية عدة.

هذا الثنائي ذو إصرار غريب على ركوب الخطر وقطع المسافات بعيدا عن وطنهما فرنسا، والاقتراب بشكل كبير من مواقع البراكين التي يجذبهما بوجه خاص ثورانها، وما ينتج عنها من الانفجارات المرعبة، وقد أصبحا في وقت ما ظاهرة غير مسبوقة في عالم دراسة البراكين، وتركا وراءهما كمّا هائلا من الوثائق والصور والدراسات والأبحاث والمعلومات التي أفادت كثيرا في مواجهة مثل هذه الانفجارات الخطيرة.

لكن ما جمع بينهما إلى جانب حب الخطر والمخاطرة هو أيضا سحر الاكتشاف، وحب الجمال المذهل للطبيعة عندما تغضب وتخرج ما في جوف الأرض من حمم بركانية تتخذ أشكالا تبدو لوحات سريالية بديعة، وهذا تحديدا ما نراه بوضوح من خلال الصور واللقطات الحية المباشرة من مسافات قريبة للغاية من البراكين، في هذا الفيلم البديع الجديد المرشح للأوسكار “نار الحب” (Fire of Love).

هوس الإنسان بالطبيعة.. قصة حب يحفها الخطر

الفيلم من إخراج المخرجة الأمريكية “ساره دوسا”، ويمكن اعتبارُه من ناحية قصةَ حب، تلك التي جمعت بين “كاتيا” و”موريس”، ودفعتهما إلى تعميق تجربتهما في دراسة البراكين بشكل أقرب إلى الهوس بهذه الظاهرة الطبيعية رغم خطورتها، كما يمكن اعتباره من جهة أخرى توثيقا لعلاقة فريدة بين الإنسان والطبيعة، وسعي الإنسان المضني من أجل معرفة أسرار الأرض التي نشأ عليها وإليها يعود.

هذا الفيلم الوثائقي الطويل البديع يروي باختصار قصة حب بين الإنسان والطبيعة مهما كانت قاسية وخطيرة ومدمرة، وفي لحظات كثيرة في الفيلم يراودنا الشعور بأننا أمام ثنائي اجتمع على فكرة الفناء في الطبيعة، فقد بلغا في وقت ما مرحلة أصبحا فيها لا يقيمان أدنى اعتبار لما يمكن أن يتعرضا له من خطر، ومدركين أن حياتهما قد تنتهي بالموت في أي لحظة، كما حدث عندما جرفتهما الحمم البركانية التي اندلعت من بركان جبل أونزن في اليابان في يوليو/تموز عام 1991.

الزوجان “كاتيا” و”موريس كرافت” اللذان جمعهما حُب البراكين

قبل أن نصل إلى هذه النهاية التراجيدية لقصة الحب المدهشة، سنمر عبر مئات الصور واللقطات والمشاهد التي تتوالى في سياق شعري يشبه الأوبرا، أو الرقص التعبيري، لكن الطبيعة هنا هي التي ترقص وتتراقص أمامنا عبر هذه الصور المذهلة للأرض حين تفور وتخرج ما في جوفها، طوفانا من المواد المنصهرة التي تتلون بالأحمر والرمادي، كما يمتلئ الفيلم بمعلومات كثيرة عن أنواع البراكين ومدى خطورتها، وفي جميع اللقطات هناك دائما “كاتيا” أو “موريس” أو الاثنان معا، أحيانا يكون “موريس” هو الذي يصور “كاتيا” أو العكس، وأحيانا يكون لديهما مصور صديق أو رفيق في الاكتشاف.

الأرشيف المصور.. ثروة بصرية في يد صناع الفيلم

يتكون الفيلم في معظمه مما تركه الاثنان وراءهما من الصور والأفلام المصورة التي تمتد من منتصف الستينيات إلى بداية التسعينيات.

ولذا فقد وقعت المهمة الأكبر في توليف الصور ووضعها في سياق بصري موسيقي بديع على عاتق المونتيرين “إيرين كاسبار” و”جوسلين شابوت” اللذين قاما بتوليف الصور معا، وقبل ذلك بتنقية وإصلاح وتكبير كثير من الأفلام القديمة وإصلاح ألوانها، بحيث جاءت بكل هذا الرونق والجمال.

يسلط التعليق الصوتي بصوت “ميراندا جولاي” الضوء على الصور والمشاهد المختلفة، في حين أن معظم أجزاء الفيلم التي تشمل معلومات علمية حول البراكين وتاريخها ومكوناتها وأخطارها تأتينا بصوت البطلين (أي “كاتيا” و”موريس”)، وتستخدم المخرجة أيضا كثيرا من الرسوم البيانية ومواد التحريك والصور الفوتوغرافية والرسومات الملونة، لتبسيط المعلومات وصياغتها في أسلوب جذاب.

شهر العسل.. إجازة حب بين البراكين الثائرة

خلال الفيلم كله نتماهى مع ما نشاهده وما نسمعه، نقترب مع البطلين عند فوهة البركان، نشعر بهما، برغبتهما القوية في الاقتراب أكثر وأكثر من مناطق الثوران والغليان والحمم المنصهرة التي تتدفق.

نشاهد الأرض ونرى يد “كاتيا” تلتقط قطعة من الحجر الملتهب، تقاذفها وتبردها بمياه البحيرة حتى تصبح مادة للدراسة والبحث، ثم يحدثنا “موريس” عن رغبته في الانطلاق بزورق شبيه بكبسولة جيمناي الفضائية، مزودا بمعدن التيتانيوم وصخور عازلة في القاع، ينزل من طائرة، يسبح وينزلق مع الكتل الملتهبة المنصهرة التي تتدفق من البركان لكي يقطع معها مسافة 15 كيلومترا من النهر إلى البحر.

نسافر وننتقل معهما من مكان إلى آخر، من أقصى الشمال، حيث توجد جبال الثلج التي يبرز منها رغم التجمد بركان هائل، إلى زائير في وسط أفريقيا، حيث ذهبا مرات عدة لتصوير ورصد ودراسة بركانها الشهير في نيراغونغو.

وكان الاثنان كما تخبرنا “كاتيا” قد قضيا شهر العسل بعد زواجهما في سترومبولي في جزيرة صقلية، حيث توجد ثلاثة براكين شهيرة، وظلا يعودان إلى المنطقة مرات ومرات، وقد عرفهما العالم بوصفهما أول من يوجد عادة في مناطق البراكين الثائرة.

“أريد أن أصبح في قلب البركان، سوف يقتلني، لكنني لا أهتم على الإطلاق”

يبدأ الفيلم بسيارة رباعية الدفع تسير في منطقة جليدية خالية تماما في اليابان، حيث صحراء وجبال من الثلوج، ثم تعجز عن مواصلة سيرها بعد أن تنغرز عجلاتها في الثلج، يهبط “موريس” ليزيح الثلوج المتراكمة تحت عجلات السيارة الأمامية، ثم تواصل السيارة مسارها وسط عاصفة ثلجية قاسية، ثم يهبط الاثنان، ويتسلقان مرتفعا جبليا داكنا، فيشرفان على بركان يبدو في الأفق عن بُعد، تشتعل فوهته بالنار، ونسمع عبر التعليق الصوتي: في عالم بارد حيث تتجمد الساعات، الشمس تشرق وتغرب بين العواصف الثلجية، والزوابع التي أزالت كل الاتجاهات، في هذا العالم عاشت نار، وفي هذه النار وجد عاشقان منزلا. ثم تتبدى صور ثوران البركان مع موسيقى يابانية بالناي الحزين.

هذا منظر لا يمكن لأحد أن يتخيله، وفي اللقطة التالية نراهما في طائرة مروحية صغيرة يحلقان فوق البركان، وتلتقط “كاتيا” الصور، وتقدم الشخصيتان المثيرتان للجدل “كاتيا” و”موريس” باعتبارهما أشهر عالمي براكين في العالم، فهما نجمان من نجوم الصحافة والإعلام، وفي الفيلم كثير من المقاطع لهما خلال ظهورهما على شاشات التلفزيون، وقد وصفتهما الصحافة الأمريكية -كما تخبرنا كاتيا- بأنهما “عالمان يشبهان الممثلين المتجولين”.

واحدة من مغامرات الزوجين كاتيا وموريس في الحمم البركانية

إنهما يبدوان بالفعل خلال صور ومناظر الفيلم كما لو كانا يمثلان في فيلم قصة حياتهما الحقيقية، كما يعربان أكثر من مرة عن توقع الموت في أي لحظة، من دون أدنى شعور بالوجل أو التردد.

تقول “كاتيا” في أحد المقاطع: الموضوع ليس أنني أتحدى الموت، لكن في هذه اللحظة، أنا لا أكترث له. أما موريس فيقول: أريد أن أقترب أكثر، أن أصبح في قلب البركان. سوف يقتلني، لكنني لا أهتم على الإطلاق. ثم يعود ليقول في مقطع آخر: أفضل أن أحيا حياة قصيرة وحافلة عن حياة طويلة ومملة.

“إن حياتنا مجرد رمشة، مقارنة مع حياة البراكين”

من بين الملامح الأكبر في الفيلم، تلك العلاقة الواضحة بين الإنسان والطبيعة، وكيف يبدو الإنسان ضئيلا وعاجزا، أمام الطبيعة العملاقة بكل جبروتها وطغيانها وسحرها أيضا. ورغم ذلك لا يكف الإنسان عن محاولة اقتحام الطبيعة، والسيطرة عليها وتطويعها حتى، وهو يعرف أنه لن يستطيع النيل منها، وأنها يمكن أن تنتصر عليه في نهاية المطاف.

يقول “موريس” في أحد المقاطع إن العين البشرية لا يمكنها أن ترى الزمن الجيولوجي، “إن حياتنا مجرد رمشة، مقارنة مع حياة البراكين”.

لذلك فرغم الحلم والطموح والرغبة العارمة التي تصبح أقرب إلى هاجس يسيطر على الإنسان في محاولته تطويع الطبيعة، لا يغفل الإنسان في أي لحظة عن حقيقة ضآلته أمام الجبال والأرض التي تملك القدرة على تغيير شكلها وتجديده، تغضب وتنفجر على نفسها، ثم تقوم بإعادة البناء وخلق تناسق جديد.

بركان نيراغونغو.. حمم حمراء متدفقة تحمل الموت

“الفضول أقوى من الخوف”. هذه العبارة تتردد في الفيلم، ونحن نرى “كاتيا” و”موريس” خلال زيارتهما الأولى إلى بركان نيراغونغو في جمهورية زائير عام 1973، فقد قررا البقاء هناك في خيمة صغيرة على حافة فوهة البركان الضخمة، وشهدا ثورة البركان تخرج منه الحمم الحمراء، ومن حسن حظهما فقط في تلك المرة وقع الانفجار المفاجئ للبركان، لكن انهمر السيل المشتعل على الجانب الآخر من الفوهة.

عالِمة البركان كاتيا خلال زيارتها لبركان نيراغونغو في جمهورية زائير

وفي الصور المدهشة التي تبدو لوحة فنية لا يمكن لبشر أن يرسمها، تتوالى التغيرات في الأشكال والألوان، مع الأبخرة المتصاعدة، وأصوات تشبه أصوات موج البحر. وكلها صوّرها الاثنان كما سيصوران آلافا غيرها في أماكن أخرى مختلفة، من أقصى الأرض إلى أقصاها.

في 10 يناير/كانون الثاني 1977 يتلقى الاثنان برقية تخبرهما أن بركان نيراغونغو في زائير الذي يحبانه كثيرا ثار وألقى بحممه مجددا، وأن هذه الحمم تهدد بتدمير مدينة غوما، وعلى الفور يتجهان إلى هناك.

كانت تلك المرة الأولى التي يشهدان خلالها هذا الكم الهائل من الدمار والموت، جثث مدفونة تحت الثرى، وبقايا جثث وأطراف محترقة، وعرفوا أن الحمم البركانية كانت تسير بسرعة 70 كم في الساعة، وكان هذا في الصباح الباكر عندما كان الناس يملؤون الطرق في طريقهم إلى العمل أو إلى السوق، وقد غمرت الحمم أكثر من 100 شخص، كما تبدو هياكل عظمية لفيلة احترقت.

بركان الأنديز.. كارثة كبرى تجاهلت الحكومة مؤشراتها

يستعرض الفيلم أيضا تاريخ أشهر البراكين في العالم، ويشير إلى مدى خطورتها وتطور الأبحاث التي تتعلق بقوة انفجارها وثورانها، ويتوقف أمام مقولة “موريس” الذي حذر السلطات في كولومبيا من احتمال أن يتسبب بركان “نيفادو ديل رويز” في جبال الأنديز بدمار المنطقة المحيطة، ونصحهم بإخلاء المنطقة من السكان. وكانت هناك مؤشرات قوية على انفجاره، وأبلغ علماء الزلازل في كولومبيا الحكومة، لكن الحكومة تجاهلت التحذير.

كان هذا في أكتوبر/تشرين الأول 1985، وكان البركان من النوع الرمادي وليس الأحمر، وهو -كما يقولون لنا- أخطر أنواع البراكين، لأن المرء لا يمكنه أن يرى الحمم الداكنة وهي تتدفق ويتابع مسارها، وقد وقع الانفجار في 13 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1985، وكانت النتيجة ابتلاع التدفقات الطينية والحمم قرى بأكملها، بينما كان سكانها نائمين، وبلغت التقديرات الرسمية مقتل 23 ألف شخص.

هذه الكارثة الإنسانية دفعت “كاتيا” للمرة الأولى إلى مراجعة الهدف من حياتها وما تفعله، فإذا كانت قد وقعت كوارث كثيرة من انفجار البراكين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بسبب غياب المعلومات، فكيف يمكن أن تقع مثل هذه الكوارث البشرية في القرن العشرين، بعد أن توفرت معلومات كثيرة وأصبح هناك كثير من علماء البراكين؟

فريق فيلم “نار الحب”

“موريس” أيضا شعر بغصة في حلقه كما يقول بعد وقوع هذا العدد الكبير من الضحايا، لأن السلطات لم تصدق العلماء. كانت أحلامهما أن لا تصبح البراكين مدمرة للبشر، وقد قضيا حياتهما كلها يدرسان نبض الأرض، لكن ما سيحدث أخيرا هو أنهما لن يشعرا بالانفجار المدمر الذي وقع في بركان أونزن باليابان في 2 يوليو/تموز 1991، إذ لم يبق على أي أثر لهما سوى ساعة “موريس” التي توقفت عقاربها عند الساعة الرابعة و18 دقيقة، لقد لقيا المصير الذي كانا يتوقعانه.

ورغم أن الفيلم يعتمد في أجزاء كثيرة منه على الأفلام المصورة التي صورها الثنائي من مقاس 8 مم و16 مم، فإن الفريق التقني للفيلم استطاع أن يعيد ترميمها واستخدام مقاطع مذهلة منها، ليصنع هذا الفيلم النادر “نار الحب” التي تحرق، وقد حرقت بالفعل.