“النهار القطبي”.. تكيف الحيوانات في نهار مشمس يبلغ نصف عام

أقصى شمال أوروبا هو موطن النقيضين؛ الشتاء طويل ومظلم، لكن في الصيف تفرض الشمس سطوتها، وبفضل طاقتها تنبعث الحياة، تستغل الطبيعة ساعات النهار الطويلة وتزدهر الأجيال الجديدة في كل الأرجاء، وبما أن الصيف قصير يسوده على مدار الساعة تهافت محموم على النمو والأكل والطعام والصيد، فإن هذا النعيم تشوبه المنغصات، فالخطر المهلك والحياة الرغيدة قرينان متلازمان في الصيف الإسكندنافي.

فيلم “النهار القطبي” -الذي بثته الجزيرة الوثائقية ضمن سلسلة “في أقاصي الشمال”- يعرض صورة ساحرة للمنطقة القطبية؛ حيث يتناوب الضوء الأبدي والظلام الأبدي على تحدي الحياة الحيوانية والنباتية، مما يجعل هذه المنطقة واحدة من أكثر البيئات قسوة على كوكب الأرض.

هجرة الرنة.. غريزة تقود إلى شواطئ البحر الدافئة

في ربيع أقصى شمال أوروبا، تعود الشمس للظهور مجددا مع أن الأرض لا تزال حبيسة الثلوج والجليد، ويوما بعد يوم تُضفي مزيدا من الضوء والدفء على المكان، فلن يتبدد سحر الشتاء الأبيض بسرعة، إذ لا يزال الليل صقيعي البرودة. وشيئا فشيئا يبزغ الفجر في ساعة أبكر وتطول معه ساعات النهار، مما يُوقظ الحياة في أوصال مملكتي الحيوان والنبات.

بعد أن أمضى ستة أشهر في كهفه الشتوي، فقد “الدب البني” ما يقرب من نصف وزن جسمه الإجمالي

أمضى الدب البني 6 أشهر في كهفه الشتوي نائما دون طعام أو ماء، لقد فقد ما يقرب من نصف وزن جسمه الإجمالي، وعليه استعادة ما خسره بحلول الخريف المقبل، فالطعام المتوفر لا يسمن ولا يسد نهمه بعد، ولكن ما زال الوقت مبكرا والصيف كله بانتظاره، وفي شهر أبريل/نيسان يصبح النهار أطول بكثير من الليل، ولكن الربيع الحقيقي لم يأت بعد.

في شمال النرويج أضحت المناطق الساحلية الخالية من الجليد الآن مقصدا لأعداد لا تحصى من الحيوانات. وضمن قطعان ضخمة تهاجر الرنة إلى مراعيها الصيفية بعد أن اجتازت فصل الشتاء في الجبال الداخلية، وتقودها غريزتها إلى شواطئ البحر الدافئة بفضل تيار الخليج، إذ تستحوذ عليها غريزة الهجرة، فتدفع القطيع نحو جزيرة غير مأهولة وسط المضيق البحري، وللوصول إلى هناك لا بد من عبور البحر.

الغريزة تقود قطيع “الرنة” نحو جزيرة غير مأهولة وسط المضيق البحري في شمال النرويج

الرنة تجيد السباحة، لكن التحدي يكمن في بعد المسافة وبرودة المياه القارسة، ويكمن سر عدم تجمدها أو غرقها في كسائها، إذ تشكل جيوب الهواء في شعرها عازلا جيدا، فتعزز قابليتها للطفو، وعند بلوغ القطيع وجهته ينتشر بحثا عن طعام. فهذه الجزيرة تتمتع بميزة خاصة تصب في صالح الرنة، وهي خلوها من الحيوانات المفترسة. وبعد ذلك ترتحل الحيوانات عائدة إلى البر الرئيسي.

ومع حلول شهر مايو/أيار، ينقشع الظلام، ولا يكاد يهبط في شمال الدول الإسكندنافية، ومع نهاية الشهر غالبا ما تكون مناطق شمال أوروبا خالية تماما من الثلج والجليد.

ميل محور الأرض.. ستة أشهر من النهار في الشمال

تحدث التبدلات الفصلية المتطرفة جرّاء ظاهرة فلكية، ففي القطب الشمالي يستمر النهار الصيفي ستة أشهر متصلة، والسبب هو ميل محور الأرض عن مسارها حول الشمس، فبينما تدور الأرض حول الشمس إما أن يكون الشمال أو الجنوب أكثر عرضة للضوء، وهذا ما يسبب تعاقب الفصول.

في القطب الشمالي يستمر النهار الصيفي لستة أشهر متصلة بسبب ميل محور الأرض عن مسارها حول الشمس

فعندما يميل محور الأرض نحو الشمس، يحصل نصف الكرة الشمالي على مزيد من الضوء ويحل فيه فصل الصيف. وفي أواخر شهر يونيو/حزيران، يسطع ضوء النهار على المنطقة القطبية بأسرها، وحينما يميل محور الأرض مبتعدا عن الشمس، يُخيّم الظلام على الشمال ويحل فيه فصل الشتاء الطويل.

وفي آخر شهر ديسمبر/كانون الأول، يسود الليل كل أرجاء المنطقة القطبية، بعد ذلك ينحسر ظلام الليل تدريجيا باتجاه الجنوب، تاركا وراءه القطب الشمالي، وحتى قرابة 21 يونيو/حزيران، ليغمر الضوء الدائرة القطبية الشمالية بأكملها، هذه هي ذروة النهار القطبي.

وفي أقصى الشمال، يسطع ضياء النهار بلا انقطاع في شهر مايو/أيار، ويظهر الآن المفعول الكامل لساعات النهار الطويلة، فتشرع الحيوانات والنباتات بكل جد ونشاط في الاستفادة القصوى من أيام الصيف الذي سيرحل سريعا. فالأمر برمته يبدأ على الساحل؛ المقر الصيفي لكثير من الطيور المهاجرة.

في أقصى الشمال حيث يسطع ضياء النهار صيفا بلا انقطاع تأتي “نوارس الزُمّج” للتزاوج ووضع البيوض

نوارس الزُمّج هي أول الوافدين إلى هناك، فقد عادت إلى مناطق تكاثرها، وبينما تنشغل بتزاوجها لا يزال زائر آخر في طريقه إلى أقصى الشمال، إنها طيور الخرشنة القطبية التي لا تصل إلى أقصى الشمال إلا في شهر مايو/أيار، وتتفوق على الطيور المهاجرة الأخرى بتسجيل أرقام قياسية لأطول مسار رحلة؛ إذ تصل إلى هنا قادمة من الطرف الآخر من كوكب الأرض، تحديدا من القارة القطبية الجنوبية، فلقد قطعت مسافة مذهلة تبلغ أكثر من 20 ألف كيلومتر.

طيور “الخرشنة” القطبية تسجل أطول مسافة سفر وتبلغ أكثر من 20 ألف كيلومتر

طيور الخرشنة القطبية دائمة الترحال بحثا عن أي مكان يكون فيه النهار أطول، وعلى هذا النحو يمكنها الصيد على مدار الساعة مدة 8 أشهر في السنة، حيث يعج الساحل النرويجي بالأسماك والقشريات، وهذا سبب آخر لرحلاتها الطويلة جدا.

عالم النبات.. أشجار تتكيف مع أقسى الظروف

بينما تتكاثر الطيور المهاجرة في كل مكان، يبدأ عالم النبات طفرة نموه الهائلة، فتتفتح أزهار الدرياس بعد فترة وجيزة من ذوبان الثلوج، مستغلة شروق الشمس أفضل استغلال. وتجتذب البقاعُ الدافئة والمشمسة الحشراتِ التي تحصل على الرحيق مكافأة لها على تلقيح النباتات.

تتفتح أزهار “الدرياس” بعد فترة وجيزة من ذوبان الثلوج، مستغلة شروق الشمس أفضل استغلال

وخلال صيف الشمال القصير، من الضروري جدا أن تنضج البذور في أسرع وقت ممكن. فبالنسبة إلى بعض النباتات، يكون الصيف أقصر من أن تكمل دورة نموها فيه، لذلك توزع زهرة أزاليا الجبل عملية نضوجها على مدى 3 سنوات؛ ففي الصيف الأول تتشكل البراعم، وفي الثاني تتفتح الأزهار، ولا تنضج البذور إلا في العام الثالث. ذلك تفسير وجود البراعم والأزهار ومحافظ البذور على شجيرة واحدة في آن معا.

عملية نضوج زهرة “أزاليا الجبل” تستغرق 3 سنوات كاملة

كما يؤدي توفر أشعة الشمس على مدار الساعة، والنهار الطويل المعتدل إلى تلون الغابات العارية باللون الأخضر في غضون أيام قليلة، لتكون أشجار البتولا سبّاقة في البرعمة.

وهذه الحلة الخضراء الفتية تجتذب الحيوانات، سواء المقيم منها والوافد. ويصل طائر الهزار أزرق الحلق قادما من جنوب أوروبا للاصطياد في أقصى الشمال. كما توفر البراعم الفتية للرنة المحلية طعاما مغذيا، وهي تجوب الأرجاء ضمن مجموعات صغيرة، وحليبها غني بالدهون والبروتينات، مما يساعد صغارها على النمو بسرعة، إذ ينبغي مع حلول فصل الشتاء أن تصبح قوية البنية بما يكفي للبقاء على قيد الحياة.

طائر “الهزّار” أزرق الحلق يقدم من جنوب أوروبا للاصطياد في أقصى الشمال

وللوهلة الأولى، تبدو مساحات كبيرة من الشمال خالية من الأشجار، لكن هذا الانطباع مضلل؛ فهناك غابات مُصغّرة من البتولا القزم التي تنمو أفقيا زاحفة على الأرض، لذلك لا تكاد تتأثر بالرياح السائدة. وكذلك الحال بالنسبة لأشجار الصفصاف القطبي التي لا يتجاوز ارتفاعها بضعة سنتيمترات، مما يجعلها واحدة من أصغر الأشجار في العالم. وهذه الأشجار تتكيف بشكل ممتاز مع القطب الشمالي؛ فأوراقها مكسوة بشعيرات كثيفة لحماية سطحها من فرط التبخر الناتج عن الرياح، وذلك ما يدرأ عن النباتات خطر الجفاف.

شمس الصيف.. بيئة دافئة لطلب الغذاء والتناسل

في شهر يونيو/حزيران، وفي المنطقة القطبية تحديدا، يمتزج النهار بالليل ليولد نهار طويل يمكن أن يمتد لعدة أسابيع، أو حتى أشهر. وحتى في منتصف الليل، تبقى الشمس ظاهرة للعيان فوق الأفق، فهي تدور حول الأفق في دائرة كاملة ولا تنزل تحته أبدا.

منتصف الليل القطبي، حيث تظل الشمس مشرقة طوال الليل ولا تغيب أبدا

وفي الدائرة القطبية الشمالية، يدوم هذا النهار الطويل قرابة أسبوعين، بينما في القطب الشمالي يمكن أن يستمر لأكثر من 6 أشهر. ففي سبيتسبرغن على بعد ألف كيلومتر شمال البر الرئيسي النرويجي، لا تغرب الشمس فترة طويلة، وبفعل تأثيرها يتكسر الغطاء الجليدي في أعالي القطب الشمالي، ومرة أخرى تلقي الأنهار الجليدية أحمالها في عرض البحر، لتلتهم الدببة القطبية إمدادات العام، فعندما يذوب الغطاء الجليدي لا يعود بإمكانها الصيد، فقد انتهت أيام العيش الرغيد على الجليد، وكل ما يمكنها فعله هو العودة سباحة إلى الشاطئ، لتبدأ بالصوم.

وتتكيّف الحيوانات المستقرة في البر الرئيسي مع قسوة التغيرات الموسمية القطبية؛ فعلى عكس الدب القطبي، يمكن للدببة البنية الوصول إلى مصادر غذائها طوال فصل الصيف. فصغارها يولدون في شهر فبراير/شباط، ويزن الواحد منها عند الولادة نحو 400 غرام فقط، لكنها تنمو بسرعة بفضل حليب أمها، وحين تغادر كهفها في شهر مايو/أيار يكون وزن الواحد منها قد بلغ 15 كيلوغراما، لكنها بحاجة للحذر بسبب وجود الذئاب في الجوار.

صغار الدببة البنية تنمو بسرعة بفضل حليب أمها

حين يبلغ صيف القطب الشمالي ذروته في يونيو/ حزيران ينصب كل الاهتمام على النسل، من الغابات إلى البحر، فعلى الساحل في شمال النرويج بدأ للتو العمل الشاق. بالنسبة إلى آباء الفراخ، فإن النهار الطويل هو نعمة ونقمة في آن واحد، وهذا ينطبق على عائلة صائد المحار، فالفراخ مبكرة النشاط من لحظة خروجها من البيض، وتتبع أبويها في كل مكان. وتجد الديدان والمخلوقات الصغيرة وبلح البحر والقواقع على السهول الطينية، ومع ذلك فإنها من دون أبويها لا تستطيع تدبر أمرها بعد.

تشهد الحياة على السفح شديد الانحدار والاكتظاظ نشاطا محموما أكثر من ذي قبل، فلقد بلغ موسم التكاثر ذروته. هنا في مستعمرة نوارس الزمج، تخرج الفراخ من البيض، ولا تزال حساسة تجاه البرد، ويجب إبقاؤها دافئة، وقبل كل شيء ينبغي إطعامها.

في مستعمرة “نوارس الزُمّج” تخرج الفراخ من البيض لتنتظر الطعام من أمهاتها

ويعج المحيط المتجمد الشمالي بالأسماك وخاصة قشريات “الكريل” الصغيرة التي تتجمع بأعداد هائلة، فتكاد تكون مصدر غذاء لا ينفد. وعندما تمتلئ حويصلات الطيور تعود جميعها إلى الشاطئ حيث أعشاشها. ويحتوي الكريل الذي جلبه آباء الفراخ على نسبة عالية من البروتين. ومع هذا القدر من التغذية تنمو الطيور الصغيرة بسرعة كبيرة، وبعد 5 أسابيع فقط تصبح مكتملة النمو قادرة على الطيران إلى البحر مع أبويها.

اجتياح البعوض.. وباء لا ينجو منه إلا الدب البني

تتخلل المناطق القطبية المستنقعات والبحيرات، ففي الشتاء يتجمد كل شيء، لكن مليارات البيوض الصغيرة تبقى على قيد الحياة مُحاصرة في الجليد، وبمجرد ذوبان الجليد عن برك المياه، تستيقظ على حياة جديدة، فتفقس بيوض الذباب الأسود والناموس وذباب الخيل والبعوض، ثم تجتاح العالم.

يُعد البعوض أشيع الأنواع بلا منازع، إذ تتغذى يرقاته على الطحالب والكائنات الحية الدقيقة، وبعد 14 يوما تتحول اليرقة إلى خادرة، وبمجرد أن تنضج تخرج منها بعوضة مكتملة النمو، وتبحث مباشرة عن شريك للتزاوج والتناسل.

في المستنقعات والبحيرات يُعد “البعوض” أشيع الأنواع بلا منازع

وكلما كان الصيف أكثر دفئا، تفشت جائحة البعوض أكثر؛ إذ من شأن ارتفاع درجة حرارة الماء بمقدار درجتين فقط أن يزيد أعداد البعوض بنسبة تزيد عن 50%، وهذه الحشرة المصاصة للدماء هي العلة الحقيقية في الشمال، إذ تعاني صغار الحيوانات على الأخص الأمرّين من لدغات الحشرات التي يمكن أن تشكل تهديدا على حياتها.

ففي غابات المستنقعات يكون الوضع أشد استفحالا في ظل غياب الرياح التي تنقذ الأرواح بطردها لأسراب البعوض. لكن من حسن الحظ أنه من شبه المستحيل أن تتمكن مصاصات الدماء من اختراق كساء الدب البني السميك.

ولكن للبعوض أعداء أيضا؛ فبالنسبة إلى العناكب فهذه هي الجنة، وكذلك بالنسبة إلى الطيور، ولهذا السبب يأتي الكثير منها إلى الشمال صيفا. حتى إن للبعوض عدوا من مملكة النبات، هي الندية مستديرة الأوراق التي تغطي أوراقها الكثير من المجسات الصغيرة التي تفرز مادة عطرية لزجة، وذلك لاستدراج الحشرات الباحثة عن الرحيق، وهنا تصبح الحشرات نفسها طعاما لا حول لها ولا قوة، إذ أنها تعلق في النبات الذي يهضمها في آخر المطاف. وهذا يعني أن الندية يمكنها أن تزدهر حتى في الأراضي البور القاحلة.

للبعوض أعداء ألداء كـالعناكب وبعض الطيور والأزهار

والحيوانات في المنطقة القطبية مُهيّأة في الواقع للعيش في أبرد الظروف وأقساها، كما أنها متكيّفة جيدا مع صيف الشمال العادي. حالها حال جميع الثدييات في أقصى الشمال، تستبدل الرنة فراءها الشتوي السميك برداء صيفي أخف وزنا وأقل سماكة.

موجات الحر.. شمس ملتهبة تلجئ الحيوانات إلى أعالي الجبال

في بعض السنوات تضرب موجات الحر المنطقة، وعلى إثرها يمكن أن تصل درجات الحرارة إلى 30 درجة، وهذا صعب على الحيوانات؛ إذ إن الشمس تظل مشرقة على مدار 24 ساعة، ويرافق ذلك غياب تأثير التبريد الليلي وانعدام شبه تام للظل، ويشكل هذا خطورة على الحيوانات الفتية، لذلك تأخذ الأمهات صغارها إلى المرتفعات الجبلية التي تعصف فيها الرياح، حيث تهب النسائم الباردة من البحر باستمرار، كما تفتح الطيور مناقيرها في الحر الشديد وتلهث للتخلص من الحرارة الزائدة.

تفتح الطيور مناقيرها في الحر الشديد وتلهث للتخلص من الحرارة الزائدة

ومن جهة أخرى، تتعدد طرق التبريد على الساحل، حيث لا تتعدى درجة حرارة مياه البحر 8 درجات مئوية. ومع ذلك، ففي السنوات القليلة الماضية، صار بعض الحيوانات يعاني بوتيرة أكبر من ارتفاع درجات الحرارة وموجات الحر. أما في المناطق الداخلية، فإن إيجاد طرق للتبريد أصعب بكثير.

ويمكن رؤية عواقب تغير المناخ بوضوح في الدول الإسكندنافية، لكن عادة ما يكون المناخ في الشمال قاسيا حتى في فصل الصيف؛ إذ تهيمن درجات الحرارة المنخفضة والأمطار على الأجواء.

استمرار الضوء.. أرق طويل يفسد نظام النوم

في شهر يوليو/تموز، لا تزال المنطقة القطبية بأكملها واقعة تحت تأثير شمس منتصف الليل، مع أن مسارها في هذا الوقت آخذ في الانخفاض، فلم يفارق الضياء المنطقة منذ أسابيع، لكن لضوء النهار المستمر مساوئه، لأن الحيوانات ستبقى مستيقظة ويمكن أن تتغذى على مدار الساعة، ومن الصعب عليها الخلود إلى الراحة والنوم من أجل البقاء.

عادة ينتظم الإيقاع اليومي للكائن الحي على وقع ساعته الداخلية؛ فالضوء يقابل الاستيقاظ، والظلام -بشكل عام- يقابل النوم. ومع سطوع ضوء الصيف القطبي المستمر تغيب هذه الإعدادات الخاصة بضبط الإيقاع، ويجب توزيع مراحل الراحة بشكل عشوائي إلى حد ما على مدار اليوم.

في الصيف القطبي، تظل الحيوانات غالبا مستيقظة لعدم وجود ليل، ولأنها معرضة لهجوم المفترسات

في الواقع تُشكل شمس منتصف الليل العنيدة تحديا كبيرا؛ فالراحة في ضوء النهار أمر محفوف بالخطر، إذ لا يجتمع النوم أو الغفوة مع توخي الحذر، والحيوانات المفترسة تترصد في كل حدب وصوب.

ومن نهاية شهر يوليو/تموز فصاعدا، تبدأ الشمس تغرق مجددا تحت الأفق، وكذلك الحال في شمال الدول الإسكندنافية، مما يسفر عن ظهور الشفق الطويل. وقريبا ستهبط أولى الليالي، فتمنح القمر فرصة للسطوع مرة أخرى، ويظهر ضباب الصباح الساحر. لقد شارف صيف الشمال القصير على نهايته.

نبات “الدرياس” يعتمد على الرياح لنشر بذوره على أوسع نطاق

أما في أغسطس/آب، فتطول ساعات الظلام أكثر فأكثر. وقريبا سيصبح ساحل شمال النرويج مهجورا، فقد انتهى الصيف القطبي للطيور المهاجرة. لقد نجا معظم الطيور الصغيرة، وستنتقل الآن إلى مقراتها الشتوية. كما نمت صغار الرنة بشكل كبير، وعليها الآن استغلال الخريف لاكتناز الدهون في أجسامها استعدادا لفصل البرد. ولقد تشكلت البذور في النباتات في زمن قياسي، والجيل القادم على الأبواب. ويعتمد نبات الدرياس على الرياح لنشر بذوره على أوسع نطاق.

لحظات الأكل الأخيرة.. آخر فرصة التزود لموسم الظلام

في الغابة نضجت ثمار العليق والتوت الأزرق التي تشكل مع التوت البري والفطر أهم مصدر للغذاء في أواخر الصيف والخريف، وكلها أطعمة لذيذة للسنجاب، إذ لن تكون متوفرة في الشتاء، وحينها يتعيّن عليه الاعتماد على مؤن المكسرات والبذور التي جمعها.

“التوت البري” و”الفطر” أهم مصدر الغذاء في أواخر الصيف والخريف للسنجاب إذ لن تكون متوفرة في الشتاء

وكذا نمل الخشب، فإنه يحب التوت أيضا، فهو يجمع بلا كلل ولا ملل أي شيء مغذٍّ يمكنه حمله إلى مستعمرته، لكن النمل نفسه يمثل طعاما للدب البني الذي كلما التهم أكثر واكتنز دهونا أكثر زادت قدرته على الصمود في فصل الشتاء الطويل.

ومع حلول الاعتدال الشمسي يوم 23 سبتمبر/أيلول، يحل الخريف، وكحال معظم خبراء البقاء في الشمال، فإن ثيران المسك مستعدة جيدا لفصل البرد والظلام، فثمة بطانة صوفية سميكة بدأت تنمو من جديد تحت كسائه الخارجي الطويل، وقد عكفت هذه الثيران على الأكل ملء بطونها طوال الصيف، وبعد أن نالت الآن كفايتها من التغذية الجيدة فسيكون بمقدورها الاكتفاء بطعام هزيل لعدة أشهر.

استعدادا لفصل البرد والظلام، ثمة بطانة صوفية سميكة ستكسو “ثيران المسك”

وقريبا سيحل الشتاء في القطب الشمالي، فقد باتت أيام الصيف معدودة، ويجب أن تتكيف الطبيعة مع الظلام والبرد مرة أخرى، فالليل القطبي يقترب بسرعة، وقد انتهى النهار القطبي.