“سر أسماء”.. وحشية انتهاك الشرف وإزهاق الأرواح في حرب البوسنة

لا تتخذ المخرجة البوسنية “ياسميلا زبانيتش” من الحرب الفعلية موضوعا لأفلامها، بل تركِّز على نتائج هذه الحرب وتداعياتها الخطيرة في فيلمها الروائي  (Grbavica)، وقد تُرجم بعنوانين مختلفين، الأول إنجليزي هو “سرّ أسماء.. غربافيتسا” (Esma’s Secret – Grbavica) والثاني هو أمريكي “غربافيتسا.. أرض أحلامي” (Grbavica: The Land of my Dream)، وقد خطف جائزة الدب الفضي في الدورة السادسة والخمسين لمهرجان برلين السينمائي الدولي.

يتمحور الفيلم على الشخصية الرئيسة أسماء، وهي امرأة وحيدة فقدت زوجها في خنادق القتال في أوائل تسعينات القرن الماضي.

تحتفظ أسماء  بسرّ خاص لا تريد أن تبوح به إلى ابنتها الوحيدة سارا التي بلغت اثنتي عشرة سنة، غير أن الأم الضحية لا تستطيع أن تتكتم على هذا السر طويلا، فقد عرفت ابنتها أن اسمها ليس مدونا في قائمة أبناء الشهداء الأبطال الذين قاتلوا دفاعا عن الوطن، فتعترف الأم لها أنها ليست ابنة أبيها، وإنما جاءت إلى الدنيا بسبب اغتصاب القوات الصربية لها في أثناء الحرب، وأنهم أجبروها على الاحتفاظ بها، فتتفهم الطفلة ما حدث لأمها، وتتعاطف معها كليا.

فيشغراد.. مدينة تشهد على فظائع الاغتصاب والذبح

على الرغم من أن عدد النساء البوسنيات اللواتي اغتصبن من قبل القوات الصربية قد بلغ 20 ألف امرأة بوسنية، فإن 1785 امرأة بوسنية مسلمة قد اغتصبن وذبحن بطريقة بشعة في مدينة فيشغراد، كما اغتصبت 200 امرأة بوسنية في غرف فندق “فيلنا فلاس” في منطقة فيشغراد أيضا.

وهو ذات المكان الذي وُلد فيه الروائي اليوغسلافي المبدع “إيفو أندريتش” الحاصل على جائزة نوبل للآداب عن روايته الشهيرة “جسر على نهر درينا”، وهو الجسر ذاته الذي أغرقته دماء الضحايا من النساء المغتصبات اللواتي ذُبحن كما تُذبح الخراف، ثم ألقيت جثثهن بدم بارد في ذلك النهر الذي ظل صامتا، كما ترى المخرجة “ياسميلا زبانيتش” وممثلة الفيلم الرئيسة “كيم فيركو”.

الطفلة سارة التي تخفي حياتها سرًا أليمًا

إذن، فهذا الفيلم مكرّس لإحياء ذكرى كل النساء البوسنيات والكرواتيات المغتصبات، ليس في فيشغراد حسب، وإنما في كل أرجاء بوسنة والهرسك، رغم أن التركيز كان على منطقة فيشغراد، وجسرها ذائع الصيت على نهر درينا، وفندقها الذي بات مشهورا، لأن أسرّته وجدران غرفه لا تزال تشهد على عذاب النساء المغتصبات اللواتي تجاوزن المئتين.

ليلة الفندق المؤرقة.. أرواح المعذبات في الحيطان الملعونة

من فندق “فيلنا فلاس” سيئ الصيت والسمعة تنطلق شرارة الفيلم، من دون أن تعرف كاتبة السيناريو والممثلة الرئيسة فيه، فقد نامت في إحدى غرفه وأمضت فيه ليلة كابوسية قلقة لم تستطع تفسيرها في حينه، لكن الأمور تكشفت رويدا رويدا حينما عادت ثانية إلى سيدني، وأيقنت بالأدلة القاطعة أن الفندق كان مكاناً لاغتصاب النساء البوسنيات المسلمات.

غير أن اللافت للنظر أن شركة السياحة لم تذكر أي شيء يشير إلى حوادث الاغتصاب في الفندق، فثمة تواطؤ كبير لا يقتصر على شركة السياحة الأسترالية، ولا على دوائر المدينة، ولا على سكانها، وإنما على الجسر ذاته، والفندق الذي احتضن عمليات الاغتصاب، وعلى الطبيعة المحيطة بالمدينة برمتها.

يوميات السائحة الأسترالية.. ما وراء تصوير الجسر الصامت

لم يكسر حاجز الصمت عامل داخلي لأن النص في الأساس كتبته الممثلة المسرحية الأسترالية “كيم فيركو” التي صوّرت فيه نفسها سائحة أسترالية تغادر سيدني، لتقضي عطلتها في البلقان، مصطحبة كاميرتها كي تسجِّل يومياتها بالصوت والصورة، متمرسة بعدد من كتيبات الأدلة السياحية التي صمتت هي الأخرى عن الجرائم والفظائع والاغتصابات الجنسية المُرتكبة بحق النساء المسلمات في البوسنة والهرسك.

لقد سبق لـ”كيم فيركو” أن كتبت نصا مسرحيا عنوانه “سبعة كيلومترات شمال شرقي”، وحينما شاهدته المخرجة ياسميلا في عرض مسرحي مصوّر أعجبها جدا، لذلك طلبت من كاتبته وممثلته الرئيسة أن تحوله إلى فيلم، فوافقت في الحال لأن قضيته الإنسانية أكبر من أي ربح مادي.

ويبدو أن الممثلة والمخرجة كلتيهما لا تسعيان إلى الربح المادي، بل إن المخرجة نفسها عملت بصمت كبير كي لا يتسرّب اسمها أثناء التصوير، فهي مخرجة معروفة في البوسنة والهرسك، ولها أفلام مهمة من بينها:

“إلى أين تذهبين يا عايدة؟” (Where Are You Going, Aida?). “الليلة التي تألقنا فيها” (We Light the Night). “صنع في سراييفو” (Made in Sarajevo). “عيد ميلاد” (Birthday). “جزيرة الحب” (Love Island).

إضافة إلى أفلام أخرى، وهي نتاجات معروفة خارج حدود الوسط الثقافي.

فلا غرابة إذن أن تطلب “ياسميلا” من كل الممثلين والممثلات وعلى رأسهم “كيم فيركو” التكتم على اسمها، والقول إن التصوير يتعلق بسائحة أسترالية وفدت إلى البوسنة والهرسك، كي تصور الجسر الذائع الصيت على نهر درينا، وهو الذي حمل عنوان رواية “إيفو أندريش” نفسها.

ملاذ الانتحار.. صرخة كبرى في بحر من الصمت والإنكار

لا تقتصر فظاعات القوات البوسنية على الاغتصاب والقتل، وهما أبشع ما يمكن أن تفعله، لكننا يجب أن نشير إلى أن عددا من الضحايا قد ألقين بأنفسهن من نوافذ الفندق، كي يحمين أنفسهن من عار الاغتصاب الذي قد يلاحقهن لسنوات طويلة.

الغريب أن السكان المحليين قد أنكروا مثل هذه العمليات، وقد سبقهم إلى هذا الإنكار موظفو الدولة ورموزها، ولعل أبرزهم ضباط الشرطة “بوريس إيساكوفيتش” و”ليون لوسيف” اللذان أنكرا حادثة الاغتصاب في الفندق والتطهير العرقي في المدينة كلها.

وعلى الرغم من قوة الفيلم كتابة وتمثيلا وتصويرا وإخراجا، فإنه يبقى متحاملا على ثقافة الصمت والسكوت والخوف والخنوع الذي يمتدّ من البشر إلى الأمكنة جسرا وفندقا، أزقة وشوارع، جبالا وغابات، ونهرا يُفترض أن يبوح على الأقل إلى ضفتيه.