“العروس”.. برتغالية حبلى من أرامل داعش في مواجهة القضاء

عبر أنقاض مدينة الموصل العراقية المدمرة تمر سيارة القوة الأمنية العراقية التي تنقل بطلة فيلم “العروس” (2022) “بابرا” البرتغالية الأصل إلى سجنها العراقي الجديد، ولا ريب أن المدينة بدت من داخل سيارة الشرطة العراقية مختلفة كثيرا عن تلك التي دخلتها الفتاة قبل سنوات، فالدمار في كل مكان الآن، ومعظم سكان الحاضرة العراقية هجروها إلى وجهات مختلفة.

وإذا كان مشهد نقل البطلة للسجن في الفيلم يُشبه مشاهد النهايات في أفلام سابقة تُقارب التحاق فتيات أوروبيات بتنظيم داعش، فإنه يأتي هنا كافتتاحية للفيلم، وليُمهّد بذلك لعمل مختلف في جهة تناوله مآلات الحدث العاصف الذي مثّله صعود تنظيم داعش، وبعدها الخراب الذي تركه وراءه، وتبعاته على الذين آمنوا بالتنظيم وقاتلوا تحت راياته.

عُرض فيلم “العروس” (A Noiva) في مهرجان البندقية السينمائي (2022)، وهو من إخراج “سيرجيو تريفوت”، وتخلو افتتاحيته من الحوار، وفي الحقيقة يطبع الفيلمَ كله السكون، وتندر فيه الحوارات الطويلة، ويبدو في أحيان كثيرة كرحلة تأملية تحتاجها شخصيته الرئيسية، لاستعادة ذاتها بعد الزلزال الذي شهدت على بعض وقائعه، وما زالت عالقة في آثاره، وليس من المعروف أبدا كيفية الفكاك منه.

“هل تريدين أن تُشاهدي إعدام زوجك؟”

يسأل الضابط العراقي الذي لا نراه على الشاشة، لكننا نسمع صوته فقط الفتاة البرتغالية قائلا: هل تريدين أن تُشاهدي إعدام زوجك؟ فترد عليه بالعربية بأنها تريد أن تبقى وتشاهد كل شيء.

لن يطول انتظار “بابرا”، إذ ستبدأ عمليات الإعدام سريعا، والكاميرا لن تفارق وجهها الذي كان يغطيه النقاب، ولا يظهر منه إلا عيناها الزرقاء الواسعة. يطول مشهد الإعدام ونسمع في خلفيته صوتا عراقيا يذكر أسماء، ثم تعقبه طلقات صوتها مدوٍّ تنتهي بأجساد المدانين.

وعندما ينطق الضابط العراقي اسم زوج “بابرا” يتبعه صوت الطلقة، فتلمع عيناها كثيرا، وتشرد في عالمها الخاص الذي انهار جزء جديد منه مع إعدام زوجها الفرنسي، بيد أن زوجها الفرنسي هو الثاني لها مع الذين كانوا يقاتلون مع داعش، إذ قتل زوجها الأول الذي تركت بلدها الأوروبي من أجله في معارك سابقة لداعش مع قوات عراقية، وقد أنجبت منه ولدين، وهي حامل الآن من زوجها الثاني.

“سأقتلك بهذه البندقية”.. ألعاب تقطع صمت السجن الصحراوي

لا يهتم الفيلم كثيرا بشرح خلفية القصة، بل ينثر معلوماته على مشاهد مقتصدة كثيرا في حواراتها، مثل تلك التي تدور بين “بابرا” وسجينات مثلها في السجن العراقي الذي وصلت إليه، وستمكث فيه إلى حين موعد محاكمتها في العاصمة العراقية بغداد.

سجن النساء في شمال العراق

تقوم المشاهد الطويلة في الفيلم على تصوير حياة “بابرا” اليومية في السجن، وفي الخصوص الزنزانة التي أعدت على عجل في شمال العراق، ولا يحدث الكثير في تلك المشاهد، فهي تفاصيل يومية رتيبة تعين السجينات على تنظيم حياتهن، بعد الوقت الهائج الذي مررن به.

تشكل المشاهد التي تصور فعلا واحدا متكررا أغراض الفيلم الفنية الأساسية، وهي توطد شعور الاختناق والرتابة للحياة في السجن، فكما استحوذ مشهد الإعدام السابق على وقت طويل، ستكون لمشاهد توزيع الطعام، أو قطع وتوزيع اللحم النيئ على السجينات حصة كبيرة نسبيا من زمن الفيلم، لتعكس فراغ الحياة في السجن الصحراوي.

تقطع تلك المشاهد الداخلية مشاهد خارجية لأطفال داعش الضائعين، ممن وُلدوا من زواج بين رجال من داعش ونساء عراقيات ومن جنسيات أخرى، فقد أصبح السجن ملعبهم الذي يلعبون فيه لعب الحرب والقتل، فهم لم يعرفوا سواها في حياتهم.

يبدو أن الفيلم استعان بأطفال في المنطقة في المشاهد التي ظهروا بها، إذ اتسمت بالواقعية ونفَسها التسجيلي. يحمل أحد الأطفال قطعة من الحديد الصدئ، ويوجهها لرفيقه في باحة السجن الكبير الذي كانوا فيه، ثم يقول: سوف أقتلك بهذه البندقية.

“أريد ان آخذ ابني وأدفنه إلى جنب عائلته”

ستبدأ أولى المواجهات لبطلة الفيلم مع واقع ما بعد داعش، وذلك مع وصول والدة زوج البطلة الفرنسي، وستحضر في موكب أمني عراقي كبير برفقة مندوب من الحكومة الفرنسية، وكل ما تعرفه الأم الفرنسية هو زواج ابنها بفتاة من البرتغال، إذ انقطعت أخباره حال وصوله إلى العراق قبل سنوات.

“بابرا” في انتظار محاكمتها في العاصمة العراقية بغداد

 

يختزل مشهد لقاء الأم مع “بابرا” كل العجز الأوروبي أمام مشكلة الملتحقين بداعش، فالأم الفرنسية كانت تتحرق لمعرفة بعض التفاصيل عن سنوات ابنها الأخيرة، ولا ترى في زوجة ابنها إلا تذكيرا بالعالم الذي خطف ابنها وقلب حياتها.

تخاطب الأم الفرنسية أرملة ابنها “بابرا” بجفاء واضح، بينما كانت تتطلع من حولها إلى الزنزانة التي تعيش فيها، وتقول: “أريد أن آخذ ابني، وأدفنه إلى جنب عائلته”. ثم تكمل وهي تشير إلى بطنها المنتفخ: “أريد أن أربيه إذا كبر”، وتمنحها حفنة من الأوراق المالية، ثم تغادر سجن النساء عائدة إلى فرنسا.

“جئت لألتحق بزوجي الذي كان يعمل طباخا”

يحفل الفيلم بالتفاصيل التي تشير إلى بحث جيد من فريق الفيلم يستند إلى وقائع حقيقية، فمشهد التحقيق مع “بابرا” الذي يجري في بناية عراقية قديمة يحتوي تفاصيل صارت معروفة، بسبب ما تسرب منها إلى الإعلام.

تواجه “بابرا” مجموعة من الضباط العراقيين الذين وجدوا في هاتفها صورا لمواقع أمنية عراقية، ويرون أن هذا يعد سببا كافيا لمحاكمتها بالإرهاب، لكنها تدافع عن نفسها دفاعا هادئا غير مستميت، وكأنه لم يعد يهمها أمرها حقا، وكل ما يربطها بالعالم هم أطفالها الصغار وابنها الذي سيولد قريبا، فتقول: جئت إلى هنا لألتحق بزوجي الذي كان يعمل طباخا.

يرد الضابط على مزاعم “بابرا” التي استخدمت كثيرا في دفاعات النساء الأوروبيات الملتحقات بداعش في دفاعهن عن أنفسهن، فيقول: كلكم تقولون الأمر نفسه، هل من المعقول أن الجميع أتى إلى هنا ليعمل طباخا؟

والد بابرا البرتغالي في طريقه لزيارتها في سجنها العراقي

فقدت “بابرا” حماسها، ولم يبق لديها الكثير من الطاقة، وما تملكه تدخره لأبناء ينتظرهم مصير مجهول إذا دخلت هي السجن.

جسد بلا روح.. محاكمة في بغداد بحضور الوالد

يستكمل الفيلم فصله الأخير بالرحلة التي ستأخذها الفتاة البرتغالية إلى العاصمة بغداد، والتي ستنسجم بصمتها وموقع الكاميرا من البطلة مع أسلوب الفيلم الخاص، تقترب الكاميرا كثيرا من وجه الفتاة وهي تُنقل في أرض غريبة، ومتوجهة إلى مصير غير معروف.

يتولى محام عراقي عينته المحكمة العراقية الدفاع عن “بابرا”، وهو لم يكن يملك الوقت لكي يحضر للدفاع عن موكلته، بيد أن هذا لم يكن يهم كثيرا “بابرا” التي تتلاشى تدريجيا في عالم الخاص الغامض، وأفعالها تتحول إلى حركات تلقائية بدون روح.

يحضر والد “بابرا” من البرتغال ليحضر محاكمة ابنته، ويصوره الفيلم وهو يتنقل في شوارع عراقية مزدحمة في سيارة أجرة عراقية كان مذياعها مفتوحا. يسأل الأب ابنته في السجن المؤقت في العاصمة العراقية قائلا: هذا محمد، أليس كذلك؟ والآخر ما اسمه؟ فتشير إلى بطنها وتقول: اسمه أحمد، أما هذا فسيحمل اسمك.

لم يهتم الفيلم كثيرا بعرض المحاكمة الأخيرة لـ”بابرا”، ويترك نهايته مفتوحة، فلا نعلم ما الذي سيؤول إليها مصيرها أو مصير أبنائها، لكنه يعود ويخبرنا في المعلومات النهائية بأن العراق لم يصدر أو ينفذ أي عقوبة إعدام على النساء الأوروبيات اللواتي التحقن بداعش.

“سنموت كلنا ونغدو نسيا منسيا”.. حوارات فلسفية

لا يدين الفيلم أيا من الشخصيات التي تظهر على الشاشة، أو يقدمها منفصلة عن واقعها وعن السياقات التاريخية والنفسية الخاصة بها، والفيلم بمجمله خال من الغضب من أي نوع، بل يشكل في جوهره دعوة للتفكير والتأمل بما جرى، وهو ما فعلته البطلة نفسها، فقد تيّسر لها رغم الظروف الصعبة المحيطة أن تراجع ذاتها.

 

قُسّم الفيلم إلى عدة أجزاء، وكانت الانتقالات بين الأجزاء ذات علاقة وطيدة بالانتقالات النفسية للبطلة، وموقعها من الرحلة التي أجبرت على أخذها في الفيلم. ولعل مشهد الخاتمة الذي تحدثت فيه مع والدها بعاطفة وتدفق كانا غائبين عنها طوال زمن الفيلم؛ يلخص الرحلة التي قطعتها.

تحدثت “بابرا” وهي تحاول أن تعثر في أعماقها على كلمات تتلاءم مع حالتها النفسية قائلة: “سنموت كلنا ونغدو نسيا منسيا”. لم تكن العبارات الأخيرة الفلسفية الغامضة مرتبة كثيرا أو مفهومة، فقد بدت تلك العبارات وكأنها انفجرت من أعماقها، وبعد أن حبستها زمنا طويلا، وسوف تحتاج زمنا طويلا آخر لكي تُعيد ترتيب هذه العبارات مرة أخرى أو شرحها.

يحمل والد “بابرا” لها شوكولاتة وجهاز تسجيل موسيقي ليؤنس وحدتها في السجن، وعندما تفتح الموسيقى ينطلق صوت “إيمي واينهاوس” في أغنيتها الشهيرة “باك تو بلاك” (Back to Black)، لتلخص على نحو ما قصة الفتاة البرتغالية التي لم تتعد عامها الخامس والعشرين، لكنها عاشت حياة طويلة، وشهدت على عنف غير مسبوق.