“تفرقة”.. حياة مزدوجة ترصد الحالة المزاجية لطهران المعاصرة

ماذا تفعل إن وجدت نفسك ذات يوم أمام رجل هو نسخة منك، ثم وجدت أنه متزوج من امرأة هي نسخة من زوجتك؟ هل هو نوع من الاستنساخ، أم أن هناك خطأ ما ربما يكون راجعا إلى اضطراب العقل المثقل بالهموم والنفس التي يملؤها الخوف والقلق؟

من أفضل الأفلام الإيرانية الحديثة فيلم “إنقاص” (Subtraction)، وهو من إخراج ماني حقيقي (53 سنة)، ليس فقط في أسلوبه المختلف عن الغالبية العظمى من الأفلام الإيرانية التي تستند عادة إلى الأسلوب الواقعي، بل بسبب جرأته الكبيرة التي جعلته يخترق ويضرب عرض الحائط بالكثير من المحاذير والمحظورات التي تفرضها الرقابة على السينما في إيران.

“تفرقة”.. حبكة مثيرة تنافس الأفلام الأمريكية

عنوان الفيلم في اللغة الأصلية الفارسية هو “تفرقة” (تفريق)، والمقصود التفرقة بين شخصين، وليس أخذ شيء من شيء أو إنقاصه، لذلك فالعنوان الفارسي أكثر دقة من العنوان الإنجليزي الذي اختير له.

إننا أمام عمل سينمائي يتميز بالابتكار في الخيال، ينسج خيوط قصة مثيرة تستولي على الحواس والمشاعر، يتمتع بالسرد السلس البديع، مع بعض الالتواءات الضرورية في حبكة هذا النوع من الأفلام، لكن من دون أن يفلت السرد من المخرج في أي لحظة. وهنا يمكن القول إن الفيلم يصلح للمقارنة مع أفضل الأفلام الأمريكية من النوع نفسه، وإن كان يتميز عنها بطابعه الخاص، أي بالتصاقه بالواقع الإيراني.

إنه أقرب إلى ما يعرف بـ”الفيلم- نوار”، أو فيلم الجريمة الذي يصطبغ عادة بالظلال الداكنة، وأجواء التشكك، والسعي المرضي المحموم للسيطرة، وبوجود شخصية رئيسية يختلط عليها الأمر، فلا تعرف هل هي نفسها أم شخصية أخرى. لكن “التفرقة” أيضا فيلم عن الانجذاب الطبيعي بين رجل وامرأة يقربهما شيء ما غامض، فتنشأ بينهما علاقة خاصة، ويحدث “التبادل” الحتمي، لتتخذ العلاقة مسارا آخر أكثر قسوة، وتنتهي إلى مصير مأساوي.

فرزانه الحائرة تريد أن تعرف الحقيقة

في الفيلم علاقة حب بين رجل وامرأة تصل إلى درجة من المكاشفة لم نألفها من قبل في أي فيلم إيراني، وفيه أيضا مشاهد ضرب وعنف وسباب وجريمة قتل، وكلها أشياء كانت محظورة رقابيا.

“خنزير”.. مخرج مهوس بالبحث عن قاتل مُختل

مخرج الفيلم ماني حقيقي عرفناه في فيلمه السابق “خنزير” (Khook) عام 2018، وهو يسير على نهج مخالف تماما لما تسير عليه غالبية أفلام السينما الإيرانية الجديدة، فهو لا ينتمي للواقعية الإيرانية المعروفة التي تمزج عادة بين الطابع الروائي والتفاصيل التسجيلية الدقيقة المقتبسة من الحياة اليومية، بل إلى الكوميديا السوداء الساخرة، لكن دون أن يفتقد لروح المرح والخيال، والأهم بالطبع الجرأة الشديدة في تناول موضوعه ذي الأبعاد الرمزية الكثيرة.

كان بطل فيلم “خنزير” مخرجا سينمائيا يسيطر عليه هاجس العثور على قاتل مختل ارتكب سلسلة جرائم قتل راح ضحيتها زملاؤه المخرجين، وكان القاتل يقطع رؤوسهم بعد أن يكتب عليها كلمة “خنزير”. من عساه يكون هذا القاتل، وما هدفه؟ لكن السؤال الذي يثير جنون حسن أكثر من غيره هو: لماذا يدخر القاتل حياته حتى الآن؟ لماذا لم يأتِ ليقتله؟ هل لأنه ليس بأهمية زملائه المخرجين؟

فرزانة لحظة مشاهدة زوجها في الحافلة

من هنا يبدأ حسن النرجسي -شأن معظم الفنانين والمبدعين- يطرح تساؤلات مقلقة حول موهبته وقيمة أفلامه، فهل فقد قيمته وتضاءل حتى أصبح القاتل لا يريد أن يعيره اهتمامه؟ إنه يشعر بالغيرة من زملائه وهو ينتظر كل ليلة أن يأتيه القاتل لكن دون جدوى. تطمئنه أمه بأن القاتل سيأتي لا محالة، وتتعهد بالدفاع عنه، بل إنها تحشو بندقية العائلة القديمة بالرصاص، وتثبت له أن بوسعها مواجهة القاتل وقتله إذا ما حاول الاقتراب من حبيب قلبها.

أجواء التشويق والحبكة غير المتوقعة.. “هيتشكوك” الإيراني

هذا الطابع الكوميدي المحمل بالنقد الاجتماعي يغيب عن فيلمنا هذا “التفرقة”، فهو أكثر جدية وميلا نحو الدراما النفسية والشخصيات المركبة التي تحمل أكثر من بعد، كما يعتمد أكثر على المزج بين الخيال والواقع، فيوحي بأن الخيال ليس خيالا، بل حقيقة واقعية يجب قبولها والتعامل معها.

في الفيلم الكثير من أجواء أفلام مخرج الإثارة “ألفريد هيتشكوك” المعروفة بالتشويق، وبالحبكة المتفرعة الملتوية التي تفاجئك بما لا تتوقعه، وهذا أيضا من العناصر التي تمنح مشاهدةَ الفيلم الإيراني متعةً لا تقل عن متعة مشاهدة أفضل أفلام “هيتشكوك” وغيره من مخرجي سينما التشويق والجريمة.

أما الجريمة فليست هي ما يبدأ به الفيلم، وليست الموضوع الرئيسي حتى، بل ستأتي فقط قرب النهاية، لكن هناك حقيقة أخرى يتوقف أمامها الفيلم طويلا، ويوليها المخرج عنايته، تكشف عنها أحداث الثلث الأول من الفيلم. فما الذي يحدث؟

فرزانة وجلال.. مواجهة المرأة الحامل لزوجها المُستنسخ

هناك سيدة اسمها فرزانة (الممثلة ترانه عليدوستي) متزوجة من جلال (الممثل نافيد محمد زاده)، وهي حامل وتعاني من اعتلال المزاج والاكتئاب، وتتردد على طبيبة تصف لها بعض المهدئات، وتعمل مدربة على قيادة السيارات، ولديها سيارة من نوع سيارات تعليم القيادة، رغم أننا لا نراها أبدا خلال الفيلم وهي تؤدي هذا العمل، بل كثيرا ما تستخدم السيارة في أمور أخرى تتعلق بالحبكة، أما زوجها “جلال” فهو يساعد والده العجوز في العمل في تجارة الأقمشة والسجاجيد، وقد ذهب إلى مدينة بندر عباس لكي يأتي ببعض البضائع.

وجه فرزانه الحزينة التي تعاني تريد ان تعرف الحقيقة

تركب فرزانة الحافلة، وتستغرب حين ترى جلال أمامها دون أن يشاهدها هو، فالمفترض أن يكون خارج طهران، وحين ينزل تنزل خلفه وتتبع خطاه، حتى يدخل عمارة ويظهر في شباك إحدى الشقق يتحدث مع امرأة. إنه جلال لا ريب في ذلك. تشكوه إلى والده، وتذهب مع والده إلى نفس البناية، وتطلب منه أن يصعد ويدق باب الشقة، فيفعل لكنه يعود مصدوما لا ينطق بكلمة واحدة.

عندما تواجه فرزانة زوجها ينفي نفيا قاطعا أن يكون هو الشخص الذي رأته، فهو كان خارج طهران ولديه الدليل على ذلك، ويُرجع الأمر إلى هواجسها وحالتها الذهنية المتدهورة، بسبب خوفها من الحمل ومن الولادة المنتظرة، لكنها تصر على موقفها، فيذهب معها إلى نفس الشقة، لتفتح له امرأة تحسبه زوجها محسن، والمفاجأة أن المرأة هي نسخة من فرزانة نفسها، أما صورة زوجها فهي نسخة من جلال. كيف؟ هل هذا نوع من “الاستنساخ” الغامض؟

آل جلال ومحسن.. صداقة وعداوة بين العائلتين المتماثلتين

هذا هو المدخل المثير إلى الفيلم. هناك زوجان متماثلان يعيشان في نفس المدينة، جلال الذي يساعد والده في العمل، ويقوم أيضا ببعض أعمال السباكة، ومحسن الذي يعمل نائبا لمدير شركة تجارية تمتلك فروعا في بعض المدن الإيرانية.

أما جلال فهو رجل شديد الطيبة يتمتع بأخلاق عالية، وأما محسن فهو رجل فظ غليظ عنيف، نراه في بداية الفيلم وهو يعتدي بالضرب المبرح على مدير الشركة، بعد أن ألمح الرجل إلى أنه ربما يكون قد اختلس بعض أموال الشركة، وقد انتهى به الحال راقدا دون حول ولا قوة على فراش في المستشفى، مُصابا بكسور وجروح عدة.

على العكس من فرزانة زوجة جلال تبدو بيتا زوجة محسن امرأة متفائلة مبتسمة، صحيح أنها تعاني من تسلط زوجها وفظاظته، لكنها تتحمل من أجل ابنها الصبي الصغير، وهذا الابن تحديدا يلح على والده أن يأخذه إلى ملعب الكرة لمشاهدة مباراة مهمة في كرة القدم، لكن الأب الفظ يرفض ويسيء معاملة ابنه، كما يرفض بشدة الرضوخ حين أصبح مطلوبا منه، أي تقديم اعتذار للرجل الذي اعتدى عليه أمام أبنائه، وإلا فقد يواجه نقله من طهران إلى مدينة بعيدة، أو حتى فقدان عمله.

فرزانه وجلال.. قصة حب لا تكتمل

تدريجيا تتوثق علاقة الصداقة بين بيتا وجلال، وعندما يعرف أن زوجها يرفض تماما الاعتذار يتطوع بالقيام بدور محسن، ويذهب إلى الرجل في المستشفى ليعتذر له ويحصل على قرار بإلغاء النقل.

من هنا تبدأ سلسلة من المفارقات والمواقف الصعبة الغريبة والعنيفة، وفي الوقت نفسه تتطور الصداقة بين بيتا وجلال إلى قصة حب مستتر، في حين تغرق فرزانة أكثر فأكثر في الشعور بالاكتئاب والخوف، ويتصاعد شعور محسن بالغيرة والكراهية تجاه جلال، وصولا إلى ارتكاب جريمة مروعة مزدوجة، وما يتبعها من تداعيات أكثر إثارة، لكننا لا نريد أن نحرق الأحداث لكي لا نفسد متعة مشاهدة هذا الفيلم البديع.

“الأب البديل”.. ميول متعاكسة بين فروع الشجرتين

كان العمل منسوجا ببراعة والسيناريو مكتوبا بدقة، ويقوم على الكشف التدريجي عن الشخصيات، ووضعها أمام اختياراتها وأقدارها.

يصبح جلال وبيتا أكثر تجانسا وانسجاما من جلال وفرزانة، ومن محسن وبيتا، وكأنهما خلقا من أجل بعضهما، وربما تحتاج فرزانة أيضا إلى رجل خشن قوي مثل محسن. هنا يصبح التبادل حتميا، لكنه لن يكون سلميا.

يجسد محسن هنا نموذجا للشخصية الذكورية المتعنتة، فهو يسيء معاملة زوجته، ويرغب أيضا في منعها من الخروج، يريدها أن تكون مربية لابنه فقط، بينما هو مشغول عن ابنه تماما، أما جلال فيصبح تدريجيا “الأب البديل”، فهو الذي يعطف على الابن، ويصحبه إلى الملعب الرياضي لمشاهدة مباراة الكرة باعتباره والده، فالابن غير قادر على التفرقة بين الاثنين.

على المتفرج أن يقبل وجود هذا البعد المتجاوز للواقع، وأن يندمج مع فكرة أن هناك في عالمنا هذا ما لا يمكننا تفسيره، وأن يتوقف أمام ما يطرحه الفيلم أيضا حول موضوع الهوية. فمن نحن، وما الذي نفهمه عن أنفسنا، وهل تعكس صورتنا في المرآة حقيقة أنفسنا؟ وهل يجب أن نقبلها أو نقتلها؟

“أردت أن أرصد الحالة المزاجية لطهران المعاصرة”

يجيد المخرج استخدام الأمطار التي تهطل طول الوقت، في إشارة رمزية مع أحاديث كثيرة تتردد في الفيلم عن إعصار متوقع قريب، على لسان شخصيات فرعية من جيران جلال وفرزانة، وعن تسرب المياه من الأسقف، وكأن الطبيعة نفسها تصب غضبها على المدينة، فقد أصبحت هناك ظواهر طبيعية لم يكن لها وجود من قبل.

ويحيط المخرج شخصياته بالظلام، ويخلق ظلالا تخفي ما يحدث في الخلفية، لتأكيد الطابع الغرائبي للفيلم، ويقرّب الكاميرا كثيرا من الوجوه في لقطات كبيرة (Close-up)، لكشف ما يظهر عليها من مشاعر وتعبيرات تشي بما يدور في داخلها من صراع وقلق، كما يهتم كثيرا بالتكوينات البصرية التي تخلق علاقة بين الشخصيات والأماكن، فهناك أيضا اهتمام كبير بتصوير معالم طهران كما يراها المخرج.

إنه يصور في الشوارع وفي الملعب الرياضي وفي المستشفى مشاهد حقيقية تبدو شديدة الواقعية، لكنه سرعان ما يكسر الشعور بالواقعية حينما يضع الشخص أمام شبيهه، وصورة الشبيه وهو يحاول التخلص من صورة الآخر، أو من صورته هو بالأحرى.

هناك دون شك نوع من الرمزية التي تنبع من فكرة الازدواجية أو الحياة المزدوجة، فربما كان جلال ومحسن وجهين لشخص واحد، وكذلك فرزانة وبيتا، علما بأن المخرج يستخدم ببراعة كبيرة جديرة بالثناء نفس الممثل والممثلة لأداء الشخصيتين، وينتقل انتقالا سلسا داخل المشاهد التي تجمع بينهما، مع تغيير مكياج المرأة ومظهر الرجل بعض الشيء، لكي يناسب الشخصية المختلفة في انتمائها الطبقي ومزاجها الشخصي المختلف حد التناقض.

يقول مخرج الفيلم ماني حقيقي: أردت أن أرصد الحالة المزاجية لطهران المعاصرة، القمع والقلق، لكن أيضا الأمل العميق والمستمر في شيء أفضل، دون أن أقدم فيلما تعليميا أو سياسيا صريحا. لقد أردت أن أحكي قصة حب جذابة ومثيرة للتشويق، وأن أعكس الشعور بالحياة المزدوجة التي نعيشها جميعا في هذه المدينة المذهلة والغريبة.