نعوم تشومسكي وتهميش المفكرين المعارضين

ناصر ونوس

تتناول السلسلة الوثائقية المعنونة “وحي القلم” التي تنتجها وتعرضها قناة الجزيرة سيرة عدد من أعلام الثقافة والفكر عرباً وأجانب. ومن بين ما عرض مؤخراً (16/ 12/2010) ضمن هذه السلسلة فيلم عن العالم اللغوي وأستاذ اللسانيات في معهد ماساتشوستس والمفكر الأمريكي المعارض للسياسة الأمريكية نعوم تشومسكي. كتب نص الفيلم معتز الخطيب وإخراجه منتصر مرعي، الذي حاور تشومسكي برفقة أسامة أبو رشيد.
 يبني المخرج فيلمه هذا على مقابلات مع كل من تشومسكي وعدد ممن كتبوا عنه ومنهم ما هو معروف جيداً للقارئ العربي المتتبع لنتاجات تشومسكي، وهم نوربرت هورنستون محرر كتاب “تشومسكي ونقاده”. ونورمان فنكلستين الذي اشتهر في العالم العربي بعدما ترجم كتابه البالغ الأهمية “صناعة الهولوكوست”. وبيتر ويلكن مؤلف كتاب “تشومسكي: السلطة والمعرفة والطبيعة الإنسانية”. وديفيد بارساميان المذيع ومؤلف لعدد من الكتب عن تشومسكي منها كتاب “ضبط الرعاع: مقابلات مع تشومسكي”. وجوزيف مسعد أستاذ التاريخ العربي في جامعة كولومبيا. واليسون إيغلي مؤلفة كتاب “التفكير الاجتماعي والسياسي عند تشومسكي”. ونيل سميث مؤلف كتاب “تشومسكي: الأفكار والمثل”.
في وصفه لتشومسكي يقول ديفيد بارساميان: “إنه كاتب مبدع لا ينضب، قادر على الكتابة في علم اللغويات بنفس الجودة التي يكتب فيها عن القضايا السياسية، لديه الكثير ليقوله ويعرف الكثير وهو قادر على إنتاج العديد من الكتب والمقالات، قليلون فقط في العالم من يستطيعون منافسة مخرجات تشومسكي الفكرية”.
ثم نرى بارساميان مختلفاً مع فنكلستين بشأن أسلوب تشومسكي في الكتابة، فبينما يقول الأول إن أسلوب كتاباته ليس سلساً، فجمله طويلة جداً، يقول الثاني إن كتبه بسيطة بشكل مضلل، وأن أحد أصدقائه أشار إلى مخزون تشومسكي المرعب من المعرفة، وإلى عقله الذي “يعمل مثل آلة تحليل أينما ذهب وأينما نظر، فهو حينما ينظر إلى أي شيء ينظر إليه ويحلله فكرياً”.
يتحدث تشومسكي عن الحصار الذي يعيشه بوصفه مفكراً معارضاً ويقول إنه ينشر معظم مؤلفاته في دور نشر صغيرة. ويسوق مثالاً عن أول كتاب ألفه وكان عن القضية الفلسطينية، إلا أن الناشر لم يعجبه ما جاء فيه من أفكار فرفض نشره، لكن الكتاب صدر في فرنسا بترجمة فرنسية، وهنا وافق الناشر الأمريكي على نشره. أما كتابه الثاني فلم يجد له ناشراً، فنشرته مطبعة جديدة صغيرة، وهذا الأمر مازال يتكرر حتى الآن. وهذا من جملة القيود التي يتعرض لها الرأي المعارض. وهنا يكشف تشومسكي عن بيان مكتوب موجود لدى الإذاعة العامة مفاده أن تشومسكي هو الشخص الوحيد المحظور في الإذاعة. كما أن هناك مذكرة لمدير تحرير صحيفة نيويورك تايمز تحمل تعليمات للمراسلين والصحفيين بعدم ذكر اسم تشومسكي. في تلك النقطة كان يمكن للمحاور أن يسأل تشومسكي عن ما يسمى بـ “الديمقراطية الأمريكية”، وكيف تقلصت إلى حدودها الدنيا في السنوات الأخيرة على وجه الخصوص (بعد الحادي عشر من سبتمبر والقانون الذي أصدره بوش تحت اسم باتريوت أكت)، لكن المحاور لم يفعل. يعلق نورمان فنكلسين على هذا الحصار المفروض على تشومسكي بالقول إنه في البداية لم يتم تجاهل تشومسكي، فقد كانت لديه سمعة حسنة من عمله في اللغويات ومن انتقاده لحرب فيتنام. وبالتالي كان من الصعب تجاهله بسبب مكانته، لكنهم بدءوا بتجاهله في بداية الثمانينات عندما أصدر كتاباً ممتازاً بعنوان “The Faithful Triangle”. وهنا نجد تشومسكي متآلفاً مع هذا الحصار والتجاهل والتهميش، حيث يقول إن في الولايات المتحدة يتعرض المنشق للقذف والاستنكار والإبعاد عن الصحافة، وفي الإتحاد السوفيتي السابق كان ينتهي به الأمر في معتقلات الكولاغ. وإن كنت في دولة مثل السيلفادور ينتهي بك الأمر قتيلاً. وطالما أن المنشق يدين أنظمة السلطة فمن الطبيعي أن لا يلقي القبول. يعلق بارساميان، وخلال برنامج إذاعي، بالقول إن أي شخص يعيش في ظل الثقافة الأمريكية ويسبح ضد التيار فسيهمّش إلى حد معين لأن الحقائق التي يبينها تشومسكي غير مستحبة أبداً…

نعوم تشومسكي

 لقد تم تجاهل تحليلات تشومسكي السياسية وتهميشها بصورة كبيرة. بل كان هناك الكثير من الأعداء لأفكار تشومسكي. لكن على الرغم من المنع والتهميش، تقول أليسون إيغلي، أتيحت للناس فرصة سماع أفكاره، لأنه قادر على نشر كتبه وإلقاء خطابات والظهور عبر محطات إذاعية مستقلة، وأفكاره وجدت صدى لدى عامة الناس الذين يقدرون انتقاداته. فتشومسكي يقدم مصدراً تاريخياً مختلفاً للأحداث وليس المصدر المتعارف عليه للتاريخ، وبالتالي فهو يقدم نسخة مختلفة للتاريخ. يفسر المقابَلون في الفيلم سبب تعرض تشومسكي للتهميش، فنيل سميث يقول إن سبب هذا التهميش هو أن الناس يشعرون بالتهديد مما يفعله تشومسكي، فهو يتصرف كضمير الغرب الحي، ولهذا يصعب إخفاؤه، “وإذا لم تهمشه فسيصبح هناك عواقب من قبيل لابد من فعل شيء ما”. ورغم أن تشومسكي اكتسب تقديراً أكاديمياً إلا أن الإعلام مازال يتجاهله. تقول أليسون إيغلي إن كتابه عن الحادي عشر من سبتمبر احتل المركز الثالث على قائمة الكتب الأكثر مبيعاً رغم أن الإعلام لم يقدمه ككتاب تجدر قراءته، وهذا يعني أن عامة الشعب مهتمون جداً بأفكاره، ولكن الإعلام والأكاديميين والحكومة، أي جماعات النخبة الثلاث، لا يريدون النظر إلى أعماله.
إن تشومسكي بوصفه مفكراً لديه مخزون هائل من المعرفة قلما نجده لدى مفكر آخر نراه هنا وهو يقرأ أحداث الحادي عشر من سبتمبر قراءة تاريخية. فيقول إن هناك حادثتين للحادي عشر من سبتمبر إحداهما دخلت التاريخ والثانية لم تدخله. فالذي دخل التاريخ هو الحادي عشر من سبتمبر 2001، ونعرف ما حدث حينها وكيف غيّر ذلك العالم، لكن هناك حادي عشر من سبتمبر آخر حدث عام 1973، عندما دعمت الولايات المتحدة الانقلاب في تشيلي وأطاحت بحكومة الليندي المنتخبة ديموقراطياً، وهذا لم يدخل التاريخ، فالحدث يدخل التاريخ عندما يُرتكب ضد الولايات المتحدة وليس عندما ترتكبه الولايات المتحدة ضد الآخرين. كان للحادي عشر من سبتمبر الأول تأثير هائل على التاريخ، لكن قلة من الناس في الغرب تعرف ما هو. أما الحادي عشر من سبتمبر الثاني فكان موجهاً إلى الغرب ولذلك كان مهماً جداً، وأثار تعاطفاً ضخماً في أنحاء العالم.

لطالما يتساءل المرء: ما الذي يجعل من عالم لسانيات ينشغل بنقد السياسة الخارجية الأمريكية ويكرس جلّ وقته لمناهضتها؟ مثل هذا السؤال يجيب عنه كل من إيغلي وفنكلستين وويلكن وتشومسكي نفسه. الأمر ببساطة، وكما يقول تشومسكي بعبارة ترتقي إلى مرتبة الحكمة: “حقيقة أنك متخصص في الأدب الإنكليزي في القرن السابع عشر، أو تعمل في النظرية الكمية، لا يمنعك أن تكون إنساناً. ومادمت إنساناً فلابد أن تهتم بالقضايا التي تهم البشر (…) لكنني أرى أن السؤال الذي يجب أن يطرح هو لماذا لا يفعل الجميع هذا”.
يتحدث الفيلم عن مواصلة تشومسكي لممارسة “النشاط الذي يجري في دمه منذ كان طفلاً جريان الأفكار في عقله الجبار” رغم تجاوزه الثمانين من عمره وفقدانه لرفيقة دربه. ويعرض للقطات من زيارته إلى معتقل الخيام الذي أقامته إسرائيل خلال احتلالها لجنوب لبنان. وذلك في إشارة لدعمه للمقاومة المشروعة ضد الاحتلال. تلك الزيارة التي أتت بعدما منعته إسرائيل من زيارة الضفة الغربية لإلقاء محاضرة في جامعة بير زيت، فألقى المحاضرة في الأردن ليتلقاها جمهوره في بير زيت عبر الفيديو كونفيرنس.
يواصل المتحدثون في الفيلم تحليل الجانب النضالي في فكر تشومسكي وشخصيته، فيتحدث بارساميان عن نوعين من المفكرين (أو المثقفين)، نوع يقوم بأبحاث ويدرِّس في الجامعة وليس مرتبطاً بأي حركة، ونوع آخر يمثلهم تشومسكي الذي طالما عرّف الحركات الشعبية والناشطين بأن المعرفة الجامدة لا تفيدهم بشيء، وهو يريد أن يكون متألقاً ومحفزاً. تصنيف بارساميان للمفكرين يذكرنا بتصنيف المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي للمثقفين، عندما يتحدث عن الفارق بين المثقف التقليدي والمثقف العضوي. أما جوزيف مسعد فيتحدث عن الجبن السياسي لدى المؤسسة الأكاديمية الأمريكية ولدى أساتذة الجامعات الأمريكية وخوفهم من الانخراط في العمل السياسي خوفهم على سمعتهم الأكاديمية. لكن تشومسكي وعلى العكس من ذلك استطاع كسب احترام المؤسسة الأكاديمية وإن خسر احترام المؤسسات الرسمية الأمريكية نتيجة مواقفه المعادية لسياسة الولايات المتحدة. أما فنكلسين فيقول إن تشومسكي دائم الاتصال بالناشطين الذي يتحدث من أجلهم ويشجعهم في حياته السياسية… “إن هدفه الأول هو تشجيع الناشطين. هؤلاء الأشخاص الذين يودون تغيير العالم بصورة واقعية، وهذا ما يجعله مختلفاً تماماً عن معظم الأكاديميين اليساريين”. يتحدث المحاوَرون عن يهودية تشومسكي، وعلاقته بالقضية الفلسطينية. نيل سميث مؤلف كتاب: “تشومسكي: الأفكار والمثُل” يقول عنه “إنه يمارس ما يعظ به، فهو يعظ بالمساواة وبأهمية أخذ الأمور بالنظر إلى أهميتها الواضحة أو عدالتها العالمية على الأقل”. أما بارساميان فيقول إن يهودية تشومسكي أمر ثانوي، والأكثر أهمية هو عدالة القضية الفلسطينية. فتشومسكي كان منذ بداية نشاطه السياسي متحمساً ومهتماً بفلسطين. وهناك القليل في الولايات المتحدة من الذين ناصروا بشدة وصادقوا الشعب الفلسطيني مثل تشومسكي. وهو كتب عدداً من الكتب حول ذلك. وهنا يتحدث تشومسكي عن تأييده “قيام اتحاد ثنائي القومية في دولة واحدة”. يذكّر نوربرت هورنستون محرر كتاب “تشومسكي ونقاده” أنه في كتابه “السلام في الشرق الأوسط” يشير تشومسكي إلى أن إسرائيل لديها خيار إما أن تبقى دولة ديموقراطية أو تبقى دولة محتلة، ولا يمكنها الحصول على الأمرين، وإن حاولت فستسير باتجاه ما يسمى بالدولة العنصرية. وهذا قيل في عام 1968 وكان تنبؤاً لا يصدق، وهذه هي الفكرة التي يناقشها الآن الجميع في الولايات المتحدة وفي إسرائيل.

إن تشومسكي، وفوق كل ما ذكر، هو مخترع لعلم اللغويات الحديثة ولولاه لما وجد هذا العلم. يقول هورنستون إن جميع العاملين في علم اللغويات المعاصرة يلعبون في ملعبه أو في صندوق الرمل الذي صنعه تشومسكي… إنه أساس علم اللغويات الحديثة. أما نيل سميث فيقول: “إن تشومسكي غيّر الطريقة التي ننظر فيها إلى أنفسنا. فنحن اعتدنا أن نكون لوحاً أبيض تسهل الكتابة عليه ويستطيع الأشخاص في السلطة أن يكتبوا عليه ما يريدون. لكن تشومسكي غيّر هذا كما غير داروين وجهة النظر حول مكانة البشر في التطور. لقد غير تشومسكي مفهومنا لمعنى أن نكون كائنات تمتلك عقلاً. نحن نمتلك طبيعة فطرية تتمثل في رغبتنا في الحرية”.
لقد فاقت مؤلفات تشومسكي المئة كتاب، عدد كبير منها ترجم إلى العربية. وآخر ما ترجم كتاب بعنوان “الحرب على غزة ونهاية إسرائيل”، وهو عبارة عن ثلاث دراسات عن الحرب على غزة والوضع في الشرق الأوسط، ترجمها صاحب هذه السطور وجمعها في كتاب واحد صدر في دمشق. وبعد إنتاج هذا الفيلم، وربما خلال إنتاجه، صدر لتشومسكي كتابان باللغة الإنكليزية، واحد بعنوان “آمال وآفاق”. والثاني بعنوان “أزمة غزة: تأملات في الحرب الإسرائيلية ضد الفلسطينيين” بالاشتراك مع الناشط من أجل السلام فرانك بارات، وإيلان بابّي أستاذ التاريخ في جامعة إكستر ومؤلف كتاب “التطهير العرقي في فلسطين”. إن تشومسكي مفكر منقطع النظير، لا يهدأ ولا يكف عن نقد السياسة الأمريكية ودعم من يناهضها ومناصرة قضايا الشعوب المضطهدة. وكان من حسن الاختيار عمل فيلم عنه وتقديمه عبر أوسع الأبواب للمشاهد العربي الذي ما انقطع تشومسكي عن الدفاع عن قضاياه.