مدكور ثابت بين التنظير والإبداع

توفي يوم السبت الماضي 5 يناير 2013 في القاهرة المخرج السينمائي والباحث مدكور ثابت الذي ولد في سوهاج بصعيد مصر في 30 سبتمبر 1945.
تخرج مدكور في المعهد العالي للسينما عام 1965، وكان الأول على دفعته، وهي الدفعة الثانية في تاريخ المعهد. وفي نفس العام تخرجتُ في المعهد العالي للفنون المسرحية، فهو من جيلي: جيل الستينيات من القرن العشرين الميلادي الذي عاش شبابه مع الحلم الناصري، وهوت كل أحلامه مع نهاية ذلك الحلم بعد هزيمة 1967 في الحرب مع إسرائيل.
سمعت عن مدكور وأفكاره المتمردة وطموحاته الكبيرة قبل أن ألتقي به لأول مرة عام 1966 في منزل المخرج السينمائي سيد عيسى (1935-1990) الذي كان متمرداً وطموحاً بدوره. وفي هذا اللقاء قدم لي مدكور ربما بحثه الأول، وكان عنوانه “الأورجانون الكبير للسينما”، ومعنى الأورجانون القانون أو القواعد. وكان المثال الأعظم للثورية في الفن آنذاك المفكر والشاعر المسرحي الألماني برتولد بريخت (1898-1956)، وكان من مؤلفاته “الأورجانون الصغير للمسرح”. قلت لمدكور ولكن بريخت وصف بيانه للمسرح بالصغير، فقال ولكني أريد أن أضع الأورجانون الكبير للسينما.!

ثورة المكن

وبعد هزيمة 1967 أخرج مدكور ثابت أول أفلامه، وهو الفيلم التسجيلي القصير “ثورة المكن”، وكان أحد ثلاثة أفلام قصيرة أنتجتها وزارة الثقافة لثلاثة من خريجي معهد السينما، ولم يكن هناك أي خريج من المعهد قد صنع أية أفلام قبل ذلك. وكان الفيلمان الآخران عن قصيدة صلاح عبدالصبور (1930-1980) “شنق زهران” عن حادث دنشواي من إخراج ممدوح شكري (1939-1973) وناجي رياض (1936-2002).
وفي غمار ثورتنا (ثورة 1968) قمت بتقديم الأفلام الثلاثة في عرض خاص بالمركز الثقافي التشيكوسلوفاكي تحت عنوان “طلائع السينما المصرية الجديدة”، وربما كان هذا أول حديث عن سينما جديدة في مصر. وقد أشار مدكور ثابت أكثر من مرة إلى هذه الليلة، وكتب عنها دراسة وافية من دراساته المعروفة.
أكاديمياً كان “ثورة المكن” تسجيلياً، ولكني رأيت أنه من “السينما الخالصة”، وهي أعلى درجات الفن السينمائي. ليس لأنه صامت كما يتصور البعض، فالسينما لم تكن صامتة منذ اختراعها، وإنما كانت الكلمات والموسيقى والمؤثرات الصوتية منفصلة عن الصورة، ولغة السينما ليست لغة الصورة كما هو شائع، وإنما لغة الصوت والصورة. والعلاقة بين الصوت والصورة في “ثورة المكن” هي التي تجعله من السينما الخالصة حيث يعبر الفنان عن آلات المصانع وهي تدور وتعلو أصواتها، ثم وهي تتوقف ويسود الصمت. وقد عمل مدكور ثابت معيداً في معهد السينما بعد تخرجه، وظل يدرس فيه طوال حياته حيث حصل على الماجستير والدكتوراه في فلسفة الفنون، وترقى إلى أستاذ ورئيس قسم.
ومثل أغلب أبناء جيله التحق مدكور بالخدمة العسكرية عام 1968، وكان من المفترض أن يقضي سنة واحدة مثل كل خريجي الجامعات، ولكن صدر القرار باستمرار خدمة الجميع حتى تحرير سيناء من الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما كان في حرب أكتوبر عام 1973. ومثل أغلب أبناء جيله كانت هذه السنوات الست من سنوات ذروة العطاء وبدء الحياة العملية، ولكن قدر عليهم بدء هذه الحياة بعد أن قارب كل منهم الثلاثين من عمره.
تمكن مدكور ثابت أثناء الخدمة العسكرية من إخراج فيلمه الثاني “حكاية الأصل والصورة في إخراج قصة نجيب محفوظ المسماة صورة”، وهو جزء من فيلم روائي طويل من ثلاث أجزاء بعنوان “صور ممنوعة”، والجزآن الآخران من إخراج أشرف فهمي (1936-2001) ومحمد عبدالعزيز، وعرض عام 1972. ولم يقل فيلم “صورة” طموحاً عن “ثورة المكن”، وفيه يبدو تأثر الفنان بأفكار بريخت، وخاصة فيما يتعلق بفكرة كسر الإيهام.

انشغل مدكور ثابت بأفكار بريخت طوال حياته منذ أن كان طالباً في معهد السينما، ويبدو ذلك بوضوح في رسالته للدكتوراه “الكسر النسبي في الإيهام السينمائي” التي صدرت في كتاب عام 1994، وفي العديد من أبحاثه ودراساته. بل إن بريخت كان “النموذج” الذي يقتديه من حيث الجمع بين التنظير والإبداع، ولكن مدكور لم يكن يملك قدرات بريخت، وعاش في صراع بين رغباته غير المحدودة وقدراته المحدودة. وعن هذا الموضوع كانت رسالته للماجستير بعنوان “النظرية والإبداع في سيناريو الفيلم السينمائي” التي صدرت في كتاب عام 1993، وكان أول كتبه.
كتب مدكور ثابت الأخرى هي “الفنان السينمائي: مآزق وقدرات خاصة” 1997، و”ألعاب الدراما السينمائية” 2001، و”كيف تكسر الإيهام في الأفلام: الإيهام التعاقدي، اللاإيهام” 2002، و”سيناريو ثلج فوق صدور ساخنة” 2005، و”سيناريو حكاية الأصل والصورة” 2005، و”فرضياتي لاكتشاف السينما المصرية” 2005، وتحرير “موسوعة نجيب محفوظ للسينما” 2006. كما أشرف على سلسلة كتب “سينما” التي صدرت عن أكاديمية الفنون منذ 1994 حتى 2001، وعلى سلسلة كتب “ملفات السينما” التي صدرت عن المركز القومي للسينما منذ 1996 حتى 2006.
وبعد عودة مدكور ثابت إلى الحياة المدنية بعد حرب أكتوبر 1973 أخرج فيلمه الثالث، وهو الفيلم التسجيلي القصير “على أرض سيناء” عام 1975. وفي نفس العام قرر الفنان أن يبدأ إخراج أول أفلامه الروائية الطويلة، ورأى أن يكون من داخل السوق، فكان “الولد الغبي”، ولكن الفيلم فشل تجارياً، وعاش صاحبه أزمة عنيفة طوال ما يزيد عن خمس سنوات. لم يكن من الغريب أن يفشل “الأصل والصورة” تجارياً لأنه صنع خارج السوق، ولكن ها هو “الولد الغبي” يفشل بدوره رغم أنه صنع داخل السوق. أصبح السؤال: هل أنا موهوب حقاً.
وليس لدي شك في موهبة مدكور ثابت، ولكنه عاش حائراً بين أفكاره النظرية وبين تطبيقاتها في الواقع. وقد تفرغ للبحث والتدريس بعد أزمة “الولد الغبي”، ولم يخرج أية أفلام روائية طويلة أخرى، وأخرج ثمانية أفلام تسجيلية هي “الشمندورة والتمساح” 1980، و”السماكين في قطر” 1980، وهو إنتاج قطري، و”تطوير الري” 1989، و”المسقى المطورة” 1991، و”روابط المسقى” 1991، و”الاستكشاف السريع للمسقى” 1991، و”مذكرات بدر 2″ 1992، و”سحر الوثائق” 1998.
ويعتبر “سحر الوثائق” الوثائقي، أي الذي يعيد صياغة لقطات صورت لأغراض مختلفة، والذي كان آخر أفلامه، أكثر أفلامه التسجيلية طموحاً حيث عبر من خلال الوثائق عن تاريخ مصر السياسي وتاريخ السينما فيها في نفس الوقت. ولاشك أن فكر مدكور ثابت جدير بالدراسة، وكذلك أفلامه، فهو صفحة خاصة في تاريخ السينما المصرية.