سوريا.. على حافة الحياة
محمد موسى
لا إشارات على أن وتيرة العمل لإنتاج المزيد من الأفلام التسجيلية الجديدة التي تتعرض للأزمة في سورية ستتباطأ قريباً، إذ لا تخلو أغلب الدورات الأخيرة من المهرجانات السينمائية الكبيرة أو المتخصصة بالسينما التسجيلية من هذه الأفلام، والتي تبدأ على منصاتها رحلاتها إلى الجمهور. في الوقت الذي يصل جُلّ هذه الأعمال التسجيلية دون أخبار أو دعايات مسبقة، وبعيداً عن انتباه واهتمام الصحافة العربية أو الأجنبية، حتى المتخصصة منها بالسينما. يقف وراء معظم أفلام العامين الأخيرين مخرجون ومخرجات سوريون مجهولون، والذين وثقوا أزماناً من حيواتهم الخاصة على وقع المأساة العامة المحيطة بهم، وحملوا الصور التي سجلوها معهم إلى بلدان الهجرة والمنافي التي توجهوا إليها مع ملايين من أبناء بلدهم.
واللافت أن معظم الأعمال التسجيلية السورية لاتزال تحافظ على طزاجة موضوعية وفنيّة، ولم تسقط إلى اليوم في التكرار، وتصل إلى الجمهور مُغلفة بدماء المذابح وغبار المعارك وقساوة الواقع، كاشفة عن جوانب لازالت مجهولة من الكابوس السوري المتواصل رغم التغطيات الإعلامية المكثفة لما يجري في البلد. وأضافت الأعمال التي يقف خلفها سوريون، الكثير إلى المشهد العام الذي تحاول السينما التسجيلية رسمه وتكميله للحرب السورية، فبفضل صورهم التي خاطروا بحياتهم من أجلها، أصبح من الممكن تخيل الحياة في الداخل السوري، والذي أقفل أبوابه منذ سنوات بوجه المخرجين الأجانب. في حين يقف مخرجون من كل الجنسيات على الحدود مع سورية، ليسجلوا قصص سوريين مرعوبين من الهاربين من الحرب، والذي يحمل بعضهم حكايات تفوق بقسوتها الخيال أحياناً.
من الأفلام الجديدة التي بدأت أخيراً رحلاتها إلى الجمهور فيلمي: “فن التنقل”، باكورة المخرجة الألمانية “ليليانا مارينيو دي سوسا”، وفيلم “على حافة الحياة” للمخرج السوري الشاب ياسر كسّاب. يشترك الفيلمان في مسقط رأس الشخصيات الرئيسية (مدينة حلب)، وفي بلد الهجرة الأول الذي وصلت إليه هذه الشخصيات (تركيا)، ليس لدواعي التخطيط لهجرة ثانية وكحال سوريين كثر، بل للتأمل والتقاط الأنفاس وأحياناً العمل، قبل أن يضيق العالم بهم، ولا يجدون إلا التوجه إلى بلاد بعيدة، طريقا لحياتهم القادمة. كما يشترك الفيلمان بطبيعة موقع الشخصيات مما يجري في بلدهم وما مرَّ عليهم في الأعوام القليلة التي كانوا هناك، ذلك أنهم يختلفون بخبراتهم عن الذين تركوا سورية في العامين الأوليين للأزمة.
على حافة الحياة
من الكادر الأول من فيلم “على حافة الحياة” وحتى آخر مشهد منه، يصوغ المخرج عملاً استثنائياً، ليس له مثيل في السينما التسجيلية التي تناولت سورية في السنوات الخمس الأخيرة. يحفر هذا العمل المختلف عميقاً جداً في الألم الذاتي للسوريين، ويرفع هذا الألم عبر مشهديات قاتمة مغلقة شديدة التأثير، نائياً بنفسه عن العاطفية المندلقة بلا حساب والحوارات الطويلة التي تطبع كثيرا من الأعمال التسجيلية، إذ إن الفيلم في مجملة هو مراقبة شاعرية صامتة لزوجين سوريين في محطتهما الأولى من المنفى الطويل، وهما يحاولان أن يستعيدا ما شهدا عليه في بلدهما، وحَصر الخسائر الروحية الجسيمة التي لحقت بهما من جراء العنف وآثاره العميقة الباقية.
يسجل الفيلم الذي فاز أخيراً بجائزة في مهرجان الحقيقة الفرنسي، ما يقترب من يوميات الزوجين “ياسر” و”ريما” في تركيا. ويبقى في عالمهما الخاص، مُبتعداً تماماً عما يجري خارج عزلتهما الاختيارية والتي تثقلها الذكريات والموت والفقد. يتواصل “ياسر” مع أبيه في حلب عبر الإنترنت، وعبر تلك المحادثات الصوتية سنعرف بعض التفاصيل من حياة ياسر وعائلته في سورية، إذ إنه فقد أخاه الأصغر في مدينة حلب، وهذا أحد الأسباب التي تفسر انسحاب المخرج وزوجته من العالم، ولجوئهما إلى مزرعة بعيدة في تركيا، فهما في حداد لا يعرفان متى ينتهي، والمخرج الشاب في مراجعات ذاتيّة مؤلمة.
نادرة هي الأفلام التي تجد لغة سينمائية قريبة من هموم وأزمات شخصياتها الرئيسية وكما يفعل بتمكن يقطع الأنفاس فيلم “على حافة الحياة”. يسحب المخرج مناخات الفيلم إلى مناطق ذاتية خاصة، ويحافظ على روح واحدة للفيلم يغلفها الأسى الشديد، فيبدو العمل كله وليس البطلان فقط في حداد على الأخ والمدينة والبلد. يأتي صوت الأب في المقابل، والحوارات المبتسرة له مع ابنه لتعيد الفيلم إلى واقع ما، ولتربط الشخصيات بالمحيط الذي بعدت عنه جغرافياً. في واحد من هذه الحوارات يتذكر الأب كيف حمل لأول مرة طفله (ياسر) والسعادة الغامرة التي غرق فيها حينها. في حوار آخر يسأل المخرج ابنه، إذا كان مازال يتذكر أخاه الذي قتل في المدينة. لا يجيب المخرج، لكن كل مشهد في فيلمه يُشبه البكاء الصامت على سورية وخسائرها الفادحة.
ضايعة الطاسة
عندما تصل المخرجة الألمانية “مارينيو دي سوسا” إلى شخصياتها الذين يقفون وراء المجموعة الكوميدية السورية “ضايعة الطاسة”، تجدهم يستعدون للهرب في ليلة مظلمة من مدينة “عنتاب” التركية، خوفا من ذراع “داعش”، التي تعبر الحدود السورية التركية أحياناً لتضرب أعداءها. تذهب المجموعة الصغيرة إلى إسطنبول، حيث يبقى الفيلم في معظم وقته (89 دقيقة)، ليصور من هناك يوميات المجموعة، والتي ستتعثر بالظروف القاسية التي يواجهها السوريون في تركيا، من انغلاق الأفق وعدم سهولة المحيط من حولهم. لينفرط في النهاية عقد المجموعة، ولتبدأ بعدها هواجس الهجرة إلى بلاد غربية أمينة تلح على بعضهم.
حظيت الأفلام التي تضعها مجموعة “ضايعة الطاسة” على شبكة الإنترنت في السنوات الأخيرة باهتمام إعلامي دولي، وبعداء النظام السوري و تنظيم الدولة “داعش” على حد سواء، والأخير تمت السخرية منه بأفلام عديدة. وإذا كان هؤلاء الأعداء عجزوا عن إيقاف المجموعة، فقد نجحت ظروف الحياة الصعبة التي بينها الفيلم في ذلك. فإسطنبول التي لجأت إليها المجموعة لم تكن مدينة رحيمة بهم أبداً، إذ تمت خديعتهم في عقد إيجار البيت الكبير الذي سكنوه على أطراف المدينة، وسيتوجب عليهم بعد أسابيع قليلة من إنهاء بناء الاستديو الخاص بهم في البيت ذاك من هدمه مجدداً، ليتسلل اليأس بعدها إلى أبرز أعضاء المجموعة، والذي سيقرر حينها اللجوء إلى ألمانيا مع زوجته الشابة الحامل.
في وسط مشاكل اليومي، مازال على المجموعة أن تكتب وتصور فيديواتها ونشرها على الإنترنت أو بيعها إلى قنوات فضائية، وعليها أن تتعامل أيضاً مع المشاكل الداخلية بين أعضائها، وتبعات ترك بعضهم المجموعة. يرافق الفيلم ثلاث شخصيات من المجموعة، وزوجة أحد هؤلاء الثلاثة، والتي تمتنع عن إظهار وجهها في بداية الفيلم، وتوافق عندما يتشَّكل قرار الهجرة إلى خارج تركيا. كما تحافظ المخرجة على علاقة مع مغني موسيقى الراب في المجموعة والذي يبحث عن فرص عمل جديدة في تركيا بعد خلافه مع رفاقه.
يتميز الفيلم عندما يركز على التفاصيل اليومية للمجموعة وعلاقتها بالآفاق التي ستفتح أو تغلق بوجوههم، وإلى وصولهم إلى خياراتهم النهائية. وسيكون ربعه الأخير أشد أقسامه ضعفاً عندما حول الانتباه إلى محاولات مؤسس المجموعة مع زوجته الخروج من تركيا واللجوء إلى دولة أوروبية، ليشبه حينها عشرات التقارير التلفزيونية التي تعاملت مع هذه القضية من قبل. كما أن الفيلم وربما بسبب جهل المخرجة باللغة العربية، لم ينقل كوميديا مميزة للمجموعة، فالمقاطع التي عرضت خلت من الروح الكوميدية المبتكرة، عدا واحدا أظهر رجلا بدا عليه ضعف الحيلة (يرمز للرجل السوري العادي)، وكيف أن الأحزاب والمنظمات تتكالب للحديث باسمه، إذ يوضع ذلك الرجل أمام الكاميرات مع أعلام إحدى المنظمات، لكن وبمجرد أن ينتهي التصوير يُسلب من كل الأشياء التي منحت له، ويترك وحيداً وفقيراً مثلما كان قبل التصوير.