مهرجان السجادة الحمراء.. أجنحة السينما المرفرفة في سماء غزة تكسر الحصار

عادت وأنارت شاشات السينما البيضاء أحياء غزة الشعبية، ومَن قد يفعل ذلك في هذه المدينة المحافظة التي تنقطع عنها الكهرباء 12 ساعة متتالية، ومَن لديه القدرة لتثبيت هذا التقليد سوى مهرجان السجادة الحمراء الذي أصبح واحدا من العلامات النادرة على الحرية في غزة، وكون الحياة من الممكن أن تكون طبيعية هناك.

فبعد أن أقام المهرجان فعالياته على حطام حي الشجاعية عقب انتهاء حرب 2014، ثم توجّه إلى سينما عامر المهجورة والميناء ومركز رشاد الشوا؛ نراه اليوم في دورته السادسة في حي التفاح، أحد أكثر الأحياء أثرية وشعبية في غزة القديمة، ليؤكّد رسالته أنه من الشعب وإليه، وليس مهرجان النخبة.

وكالعادة ينصب شاشاته الكبيرة في أكثر المناطق فقرا، والتي لن يرى أهلها السينما يوما إذا لم يسافروا، لذلك فإن المهرجان يحاول أن يُغير هذا الواقع، وينصب شاشات السينما المؤقتة حتى انتهاء عروضه.

جانب من مهرجان السجادة الحمراء الذي عُقد في غزة بعد غياب عامين بسبب انتشار فيروس كورونا

يتمنى منتصر السبع المدير التنفيذي للمهرجان لو بقيت هذه الشاشات في الأحياء الشعبية بشكل دائم، لكنه أمر صعب ومكلف، لذلك فبمجرد انتهاء المهرجان الذي امتدت فعالياته من 16 وحتى 23 أكتوبر/تشرين الأول الجاري؛ بدأ العمال بفك المعدات والشاش الأبيض ورفع الأجهزة بعد عروض استمرت ثمانية أيام كانت بالنسبة للناس حلما قصيرا، بل واقعا خارج المكان والزمان لهذه المدينة المحاصرة منذ 14 عاما.

عودة بعد كورونا.. تجربة مميزة لسينما محلية ذات صيت عالمي

عُرضت أفلام المهرجان بمدن قطاع غزة والقدس وبعض مدن الضفة الغربية مثل رام الله، وقد بدأ دورته الحالية وسط نشاط وتعطش الجماهير بعد توقف استمر عامين بسبب وباء فيروس كورونا (كوفيد-19) الذي زاد الحصار على القطاع، ليعود المهرجان في دورته الحالية قويا بـ43 فيلما وثائقيا وروائيا وقع اختيارهم من بين 300 فيلم تقدموا إلى التسجيل في موقع المهرجان، ودفع رسوم لذلك مثل كل المهرجانات في العالم، وقد تجاوز الحضور الألف شخص من قطاع غزة للافتتاح الرسمي على مساحة مركز هولست المفتوحة في شرق غزة القديمة.

ويرجّح المخرج خليل المزين -وهو أحد مؤسسي المهرجان- في حديث للجزيرة الوثائقية من مهجره في كندا، أن الثقة بُنيت عبر السنين، فانتشرت مصداقية المهرجان وظهرت أهمية ما يقدمه من مكان منعزل عن العالم كقطاع غزة، ليتحول الآن إلى مهرجان ذي اسم عالمي له احترامه، لذلك نجد المئات الآن يتنافسون للتقديم، إلا أن خليل يتطلع إلى أفق أوسع بأن يحضر ممثلون عالميون ومنتجون ومخرجون من العالم إلى المهرجان.

ويقول الكاتب الشاب سالم الريس، وهو أحد الحضور ممن شاهدوا المهرجان إن التنظيم كان ممتازا، لكن ليس الأمر كذلك بالنسبة للمكان، فكان هناك حاجة لمكان أكبر يستوعب كل الجمهور، مضيفا أن “التجربة مبهرة، وهناك أفلام ممتازة كانت تحتاج إلى ترويج أكثر، بحيث يستطيع الجميع الحضور ومشاهدتها عبر الإعلامات والدعاية في شوارع القطاع”.

ويشيد الريس بأفلام المهرجان السياسية والاجتماعية التي من المهم عرضها لأهالي القطاع المنقطعين عن العالم، ويفتقدون السينما والأعمال الدرامية الجيدة، وأجواء السينما بحد ذاتها.

أفلام القضية.. أعمال تعبق بالقيمة الإنسانية

حول اختيار الأفلام من بين المئات، قال مدير المهرجان منتصر السبع للجزيرة الوثائقية إن الاختيار يكون بشكل أساسي للأفلام ذات القضايا والهم الحقوقي، وتلك التي تحمل قيمة إنسانية لتقديمها للناس المحاصرة في القطاع، مع عدم إهمال المتعة والقيمة الفنية، موضحا أن لجنة اختيار الأفلام مكونة من شريكهم الرئيسي، وهو مهرجان الكرامة في الأردن، وفريق المهرجان في غزة، والمخرج خليل المزين من كندا، وهناك أصدقاء من أوروبا.

ويقول السبع إن الـ43 فيلما التي اختاروها تنوعت بين الرسوم المتحركة والروائية والوثائقية، ومن تلك الأفلام 15 فيلما وثائقيا مشاركا، منها سبعة أفلام وثائقية طويلة، وهي أفلام مهمة جدا تتنوع مواضيعها.

“بيروت برهان”. أفلام العرض الأول تتسابق إلى السجادة الحمراء

يتحدث مدير المهرجان منتصر السبع عن الأفلام الوثائقية قائلا: أحدها يتحدث عن استهداف الأبراج السكنية في حروب قطاع غزة، وآخر عن الصراع في ليبيا، ويوجد فيلم يتحدث عن سرقة فرنسا الأطفال حين استعمرت البلاد في الماضي، أما أهم هذه الأفلام فعنوانه “بيروت برهان”، ويتحدث عن المخرج برهان علوية وأفلامه عن القضية الفلسطينية، وعرض الفيلم هو العرض الأول له على مستوى العالم.

ويشعر السبع بالسعادة لانتعاش المهرجان، فبعد أن كان سنواته الأولى يطلب من المبدعين والمبدعات المشاركة بأفلامهم، ويتوسط لهم مهرجان كرامة في الأردن كي يثق بهم المخرجون ويمدونهم بأفلامهم، فقد أصبحت الآن هناك أفلام تُعرض كعرض أول في المهرجان على مستوى العالم، ويتسابق صناع الأفلام لتسجيل أفلامهم في السجادة الحمراء في مدينة محاصرة، لكن أفقها مفتوح على العالم.

فرح الهاشم.. “فيلم يشبه غزة، صعب وقوي”

تقول المخرجة اللبنانية المقيمة في باريس فرح الهاشم في حديث للجزيرة الوثائقية: كان حلما بالنسبة لي أن أعرض فيلما في فلسطين خصوصا في مدينة الصمود غزة، وعلى الرغم من عدم حضوري للمهرجان، فإن الجمهور الغزّي غمرني بكمية من الرسائل والصور ومقاطع الفيديو من العرض كي أشعر أنني معهم، وهذا لا يمكن أن يحدث بأي مهرجان في العالم.

وأضافت أن مهرجان السجادة الحمراء مكتسِب لخواص ليست موجودة في المهرجانات الأخرى، فعلى الرغم من أنه لا يوجد فيه فساتين أو مشاهير، فإن به شيئا آخر، وهو الجو العائلي بين الجمهور وصانعي المهرجان والمخرجين. وتصف المهرجان قائلة: حلقة حميمة من التناغم والحب، كما أن خليل المزين مثل أب كبير للمهرجان ولنا.

وعن سبب اختيار غزة لعرض فيلمها العرض الأول على مستوى العالم قالت فرح الهاشم: فيلمي سياسي وحساس عن برهان علوية، ونحن نعيش في زمن سياسي صعب في العالم العربي، وهو فيلم يشبه غزة، صعب وقوي، وهذا ما جعلني فخورة بكل لحظة من مشاركتي له مع أهل غزة.

سينما الطوارئ.. مهرجان محاصر يتحول إلى نموذج عالمي

يواجه المهرجان في كل مرة يستعد فيها للانطلاق مرحلة صعبة من الحصول على الأذونات الخاصة من حكومة غزة التي تقودها حركة حماس، كي ينطلق على الأرض ويبدأ عروضه، وينطبق الشيء ذاته على لجنة المشاهدة المسبقة من وزارة الثقافة في غزة التي تشاهد جميع الأفلام، وتحدد المقاطع التي يجب حذفها أو تعتميها، ودون ذلك لا يوجد مهرجان.

وقبل كل ذلك هناك التحدي الأصعب، وهو التنسيق مع مصر كي يدخل المخرجون والمخرجات والضيوف إلى قطاع غزة، وهو أمر شبه مستحيل وليس ضمن قدرات إدارة المهرجان، هذا ما يجعل المهرجان خاليا من حضور الضيوف، فهم إنما يشاركون عبر برامج وتطبيقات التواصل الحديثة.

حضور كبير شهده مهرجان السجادة الحمراء في غزة

كل هذه الصعوبات والتحديات -إضافة إلى كون القطاع يعيش حالة تصعيد دائمة مع الاحتلال الإسرائيلي- جعلته أحد أهم المهرجانات الناشئة العالمية التي تُقام وقت الكوارث، وعلى الرغم منها أيضا.

يقول منتصر السبع مدير المهرجان: “أصبح مهرجان السجادة الحمراء بالفعل نموذجا ناجحا للعالم لإقامة مهرجان سينما وقت الطوارئ، ودربنا في ورشة عمل في هولندا أصحاب مهرجانات ناشئة من أوروبا الشرقية على كيفية تنظيم مهرجان سينما حقوق إنسان رغم الحرب”، لافتا أيضا إلى الشق الآخر من عملهم في المهرجان كمدافعين عن حقوق الإنسان، وتسليط الضوء على قضايا فلسطين الإنسانية والمعاناة من الاحتلال، فهو شق مهم إلى جانب إحياء السينما.

وأوضح أنه للمرة الأولى يشارك فريق مهرجان السجادة الحمراء في أمستردام في أبريل/نيسان الماضي في اجتماع شبكة أفلام حقوق الإنسان مع 43 دولة أخرى من العالم، فعلى الرغم من كون المهرجان عضوا فيها منذ سنوات، فإنها المرة الأولى التي يحدث فيها تواصلٌ حقيقي مع بقية الأعضاء.