أيام قرطاج السينمائية الـ32.. بريق خافت للمهرجان العريق الصامد

بلال المازني

لم تكن أيام قرطاج السينمائية (30 أكتوبر/تشرين الأول وحتى 6 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري) لهذه الدورة الثانية والثلاثين مختلفة عن التي سبقتها، بل هي في نفس الظروف تقريبا، وإن كانت وطأة الوباء أخف، ويشوش عليها بعض التشنج السياسي هنا وهناك، لكنها أدت على الأقل مقصدها بالمحافظة على دورة أخرى في كل هذه الظروف القاسية والمنهكة لمهرجان عريق مثل أيام قرطاج السينمائية. لكنها وإن نجحت هذه الدورة في الوقوف سنة أخرى على قدميها، فإنها لم تنجح في أن يكون لها إشعاع دورات سابقة أضاءت فعلا السينما العربية والإفريقية.

 

ولكيلا نقسو كثيرا على هذه الدورة، وجب أن نعتبرها الدورة الصامدة في وجه مهرجانات عربية أخرى كانت تزامنها، مثل مهرجان الجونة المصري الذي يبدو أن بريق أنواره والقائمين عليه والملايين التي ضخت لإنجاحه؛ جعل مخرجين وصُناع أفلام وممثلين يفضلونه على أيام قرطاج السينمائية، وربما لهذا لم نر السجادة الحمراء لأيام قرطاج السينمائية لهذا العام يعج بعمالقة السينما و”السوبر ستار” الأفريقية، وخاصة العربية.

غابت أسماء كثيرة هذه السنة، ولا نعلم إن كان ذلك كِبرٌ، أو كما قال البعض ظرف صحي لا يسمح، أو ربما سياسي.

“ريش”.. جائزة التانيت الذهبي للمخرج الحاضر الغائب

تلقت إدارة مهرجان أيام قرطاج السينمائية 750 فيلما عربيا وأفريقيا من صنفي الروائي الطويل والقصير والوثائقي الطويل والقصير، وانتقت لجنة المشاهدة 56 فيلما من ضمنها 12 فيلما روائيا طويلا، و13 فيلما وثائقيا طويلا، و21 فيلما قصيرا، إضافة إلى عشرة أفلام شاركت ضمن قسم السينما الواعدة.

كان مشهد تسليم جائزة التانيت الذهبي لأفضل فيلم روائي طويل مخجلا بعض الشيء، ليس بسبب اختيار الفيلم، بل بسبب غياب مخرجه، أو أي فرد من طاقم عمله على منصة التتويج، وهو أمر مفهوم حين نعلم أن الفيلم المتوج بالجائزة الأولى في صنف الروائي الطويل هو فيلم “ريش” للمخرج المصري عمر الزهيري.

مدير المهرجان المخرج رضا الباهي يتسلم جائزة التانيت الفضي عن فيلم “ريش” بعد غياب صاحب الجائزة المخرج عمر الزهيري

 

وقد تحجج بعض المنظمين أن غيابه كان بسبب عدم قدرته على الحصول على جواز سفره، غير أن أطرافا غير رسمية قالت إن سبب غياب مخرج الفيلم هو خوفه من التضييق المحتمل من قبل السلطات المصرية، خاصة بعد الهجوم الشرس الذي طاله خلال عرض فيلمه في مهرجان الجونة، وقد وصل صداها إلى خارج مصر.

وقد حصل فيلم “ريش” أيضا على جائزة العمل الأول الطاهر شريعة، وجائزة أفضل سيناريو، وتوجت بطلته دميانة ناصر بجائزة أفضل ممثلة عن دورها في الفيلم، وهو ما قد يرد بعضا من الاعتبار للفيلم المذكور الذي طالته انتقادات من ممثلين مصريين بتعلات سياسية لا فنية.

لم يكن مخرج فيلم “ريش” الوحيد الذي تغيّب عن المهرجان، فقد غاب المخرج “ليموهانغ جيريميا موسيس” عن المنصة عند الإعلام عن تتويج فيلمه “نار الربيع التي لا تروّض” (بالفرنسية: L’Indomptable Feu du Printemps)، (بالإنجليزية: This Is Not a Burial, It’s a Resurrection)، فقد فاز بالتانيت الفضي في صنف الأفلام الروائية الطويلة، فاضطر المخرج رضا الباهي مدير المهرجان إلى تسلّم الجائزة بدلا عنه، رغم أن هذا الفيلم حصد جائزتين هما جائزة أفضل صورة وأفضل تركيب.

“نحلم لنحيا”.. عالم المخيمات والسجون بالمهرجان الوفي لشعاره

في دورة كان شعارها “نحلم لنحيا” أينعت السينما من مخيمات اللاجئين وداخل السجون ذات القضبان الحديدية والفكرية، ومن داخل أسوار ضربتها أنظمة عربية على شعوبها، وبالفعل كان المهرجان وفيا لشعاره، فأحيا الأمل في سينما راقية ذات جودة، وكسر المهرجان تلك الأسوار التي أحاطت بصانعي الأفلام وبجمهورهم على حد سواء.

المخرج رضا الباهي مدير الدورة الـ32 لأيام قرطاج السينمائية

 

حين وقف المخرج التونسي نجيب بلقاضي الذي قدّم سهرة اختتام أيام قرطاج السينمائية على مسرح قاعة الأوبرا؛ شدّ كل من تابع الحفل بعد أن ألقى بعض النكات المتهكمة على موضة صانعي المحتوى في تونس وعلاقتهم السطحية بالسينما، كان ذلك خلال حفل افتتاح المهرجان، أما سهرة الاختتام فقد كانت أكثر رهبة في انتظار الجوائز والتتويجات والمنافسة المشتدة بين عشرات الأفلام.

كما وقف المخرج رضا الباهي مدير أيام قرطاج السينمائية متواضعا لا متباهيا بما أنجزه خلال إدارته المهرجان، وقال إن الطريق الذي فرشه لمن سيخلفه على رأس الإدارة قد تكون به بعض العثرات، مُعترفا بأن أي تقصير في المهرجان يتحمله هو نفسه، كما افتخر بأن دورة هذا العام من المهرجان قد تمكنت من جلب عشرات الأفلام العربية والأجنبية التي تنافست بشدة للفوز بجوائز في مختلف الأقسام السينمائية.

“كما أريد”.. أربع جوائز تختطفها السينما الفلسطينية

لم يكن نصيب تونس من الجوائز كبيرا، فقد اكتفت في هذه الدورة بالتانيت البرونزي في صنف الأفلام الروائية الطويلة، وذلك بعد فوز فيلم “عصيان” للمخرج الجيلاني السعدي، كما حصدت تونس الجائزة ذاتها في صنف الأفلام الروائية القصيرة، وذلك بعد أن فاز فيلم “في بلاد العم سالم” للمخرج سليم بلهيبة بالتانيت البرونزي، إضافة إلى تنويه خاص من لجنة التحكيم لفيلم “فرططو ذهب” للمخرج عبد الحميد بوشناق.

 

في المقابل، توجت فلسطين بأربع جوائز، إذ حصلت المخرجة الفلسطينية سماهر القاضي عن فيلمها “كما أريد” على التانيت البرونزي في قسم الأفلام التسجيلية الطويلة، و”جائزة لينا بن مهني لحقوق الإنسان”، وقد توج أيضا بجائزة “تي في 5 موند” (TV5 monde).

ولم يكن هذا التتويج الوحيد للسينما الفلسطينية، إذ تُوّج الفيلم الوثائقي الطويل “فلسطين الصغرى” للمخرج الفلسطيني عبد الله الخطيب بالتانيت الذهبي لأفضل فيلم وثائقي طويل في الدورة.

الأفلام القصيرة.. قصص قادمة من الجزيرة العربية وأفريقيا

يقدم مهرجان أيام قرطاج السينمائية فرصة لرفع الستار قليلا عن الأفلام الوثائقية، فهذا النوع من الأفلام لا يجد التقدير اللازم في المهرجانات أو في قاعات السينما مقارنة بالأفلام الروائية، لذلك كان المهرجان توفير فرصة للمخرجين المحترفين والمبتدئين أيضا لتقديم أعمالهم وحصد الجوائز، فقد تُوّج فيلم “فاحترق البحر” للمخرج القطري ماجد الرميحي بالتانيت الفضي في صنف الأفلام الوثائقية القصيرة.

كما حصل فيلم “لا ترتاح كثيرا” للمخرجة اليمنية شيماء التميمي على التانيت البرونزي لأفضل فيلم وثائقي قصير.

 

تنوعت الجوائز الأخرى، وكان نصيب الأفلام الأفريقية محترما، حيث تُوّج فيلم “الحياة في القرن الأفريقي” (Life on the Horn) للمخرج الصومالي “مو هرواي” بالتانيت الذهبي لأفضل فيلم روائي قصير، وحصل فيلم “المأوى الأخير” (The Last Shelter) للمخرج المالي “سما ساكو أوسمان” بالتانيت الفضي للأفلام التسجيلية الطويلة، وحصل فيلم “الرعاة” (Shepherds) للمخرج “تيبوهو أدكينز” من جنوب أفريقيا على التانيت الذهبي للأفلام الوثائقية القصيرة.

“ريش”.. تحليل النزلاء للفيلم في سجن الرومي

حين اختار مهرجان أيام قرطاج السينمائية شعاره “نحلم لنحيا”، فتح الباب أمام الجميع ليحلم، بمن فيهم من يقبعون خلف أسوار السجون، وكانت هذه الدورة السابعة التي أدخلت فيها أيام قرطاج السينما وراء القضبان.

حين اصطف نزلاء سجن برج الرومي الذي كان في أحد الأيام حصنا مخيفا يسجن فيه بورقيبة معارضيه، وذلك لمشاهدة فيلم “ريش” المصري؛ عمّ صمت وتركيز كبير تخللته تمتمة وضحكات قطعت مشهد تحوّل زوج بطلة الفيلم إلى دجاجة.

 

وبعد انتهاء الفيلم حمل أحدهم البوق ووقف بثبات قائلا: هذا فيلم عظيم، لقد نجح في تعرية حقيقة مُرّة، وهي أنه وسط كل تلك المأساة والفقر التي عاشتها البطلة وعائلتها، كانت الدولة غائبة تماما، ورمى الفيلم تلك الحقيقة في وجوهنا ليقول إن المرأة العربية تصارع من أجل حقوقها، بما في ذلك تونس، فهو ليس فيلما كوميديا لعادل إمام، بعد مشاهدته لم أستغرب سبب موجة الغضب التي أثارها في مصر.

“ضوضاء المعادن”.. ومضة الفيلم القادم من السجن إلى المهرجان

بعد عرض فيلم “ريش” تحدث أحد السجناء عن عقدة أوديب، وفكك الفيلم على أساس ما سماه بآليات الحلم، حيث يقول أحد السجناء للجزيرة الوثائقية: أنزل في سجن برج الرومي منذ ثلاثة أشهر، وتمكنت من اقتلاع مقعد في قاعة العرض الخاصة بالسجن لمشاهدة فيلم “ريش”، وهي مكافأة لي بسبب موهبتي في الرسم ونشاطي في ورشة تُعنى بهذا الفن، فوجه هند صبري والمخرجة مفيدة التلاتلي على جدران قاعة العرض كانا بريشتي.

في الواقع لم يكن الموقوفون في السجون جمهورا فحسب، فقد أتاحت هذه الدورة فرصة لسجناء في سجن المهدية بصناعة فيلم تحت عنوان “ضوضاء المعادن” بإمكانات بسيطة، وفتح هذا الفيلم نافذة مضيئة للسجناء الذين شاركوا في إنتاجه.

 

ربما بهذه التفاصيل البسيطة تبقى أيام قرطاج السينمائية من أهم مراكز السينما في أفريقيا والعالم العربي، ليس بالفساتين اللماعة لبعض الممثلات، ولا ببريق السجادة الحمراء المعمي، ولا حتى بالقناطير المنقطرة من المال، لكن بكونه مهرجانا يعرف قدره.