«عائد إلى حيفا» ما بين فيلمين

بشار إبراهيم

كتب الأديب الفلسطيني غسان كنفاني (1936 – 1972) روايته «عائد إلى حيفا»، بعد ثلاث روايات: «رجال في الشمس» (1963)، و«ما تبقى لكم» (1966)، و«أم سعد» (1969)، تنوّعت في موضوعاتها وأشكالها، لكنها اتفقت ثلاثتها في شأن المكان الذي كان حينها، وفي جميعها خارج فلسطين المحتلة، إذ يدور عمله الروائي الأول «رجال في الشمس»، في الصحراء الذاهبة بأبطالها ما بين الحدود العراقية الكويتية، ويدور العمل الثاني «ما تبقى لكم»، في قطاع غزة، الذي لم يكن قد احتُل بعد، ويدور العمل الثالث «أم سعد»، في مخيم اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، ليكون عمله الروائي الرابع «عائد إلى حيفا»، نقلة جديدة في المكان والزمان، بما مثّلته من عودة للروائي الفلسطيني بكتابته لتناول الراهن الحاضر، وفي فلسطين، ما بين رام الله وحيفا، وقد أعاد الاحتلال لمّ شملهما في قبضة احتلاله (حزيران 1967).

تذهب رواية «عائد إلى حيفا» إلى مستوى آخر، أبعد مما هو حكائي، كما ظهر في روايتيه «رجال في الشمس»، و«أم سعد»، وأعمق دلالة ورؤية مما ظهر في «ما تبقى لكم»، بل لعل ليس من المغالاة في شيء القول إن «عائد إلى حيفا»، وهي التي أضحت الرواية الأخيرة المُكتملة، والمنشورة، لكاتبها غسان كنفاني، قبل استشهاده، مثّلت إجمالاً خلاصة الرؤية الأدبية الإبداعية، والرؤية الفكرية الذهنية، والهواجس الوطنية والقومية، في أبعادها الإنسانية الوجودية، لغسان كنفاني، الذي عرف كيف يقطع أشواطاً طويلة في عمر قصير، ويسطرها في أعمال إبداعية تنوّعت بين القصة القصيرة والرواية والمسرحية والفن التشكيلي والمقال الصحافي.

تثير «عائد إلى حيفا» سؤال الهوية، سؤال الإنسان ما بين انتساب الدم، وانتماء التربية، والتفتيش في الحدود الفاصلة في أسئلة كان من المُبكر جداً طرحها: ماذا لو وُلد المرء فلسطينياً من أبوين فلسطينيين، وجرت تربيته في كنف أسرة يهودية، ونشأ وتعلّم في مدارس إسرائيلية، وخدم في الجيش الإسرائيلي؟ هل سيبقى فلسطينياً حينها، أم يصبح إسرائيلياً؟ وبالتالي هل الفلسطينية زمرة دم وهوية مكتسبة بالولادة، أم هي انتماء وتربية وولاء؟
قد يكون من البدهي اعتبار هذا المزج والخلط، بين النسب الفلسطيني والتربية الإسرائيلية، شأناً ذهنياً متكلفاً، أكثر مما هو واقعي. وربما ثمة من سيراه ترفاً فكرياً، وشطحة من خيالات كاتب خصب، لا علاقة لها بما جرى عام النكبة 1948… ولكن ما حملته الرواية من أسئلة وجودية ومصيرية، تبقى راهنة حتى اليوم؛ بعد قرابة خمسين سنة من كتابة الرواية، ونشرها، يجعل ممن الضروري الانحناء والاعتراف بأن غسان كنفاني كان سابقاً لأوانه، وعصره، وزمانه، على الأقل من حيث قدرته على الاستشراف والسؤال، حتى لا نقول النبوءة، دون نكران أنه ما زال سابقاً ومتفوقاً على صعيد مُنجزه الأدبي الإبداعي، الذي لم يُمكن تجاوزه فلسطينياً بعد، على رغم كل ما أُنجز.

يبقى أن رواية «عائد إلى حيفا»، أخذت مثل سائر أعمال غساني كنفاني مكانة رفيعة في الأدب الفلسطيني، والعربي، وباتت واحدة من علامات الرواية العربية، ونالت نصيبها الوافر من القراءات الأدبية والنقدية، والمراجعات المختلفة، تماماً كماحظيت بالاهتمام من قبل المسرح والتلفزيون والسينما، إذ جرى استلهامها أو إعادة إعدادها في أعمال مسرحية، كما في المونودراما التي أخرجها يحيى البشتاوي بأداء غنام غنام (1998)، ومسرحية بالعنوان نفسه أخرجتها لينا أبيض (2010)، ودراما تلفزيونية بتوقيع المخرج باسل الخطيب (2004)، وعدد من الأفلام السينمائية، كما فعل قاسم (1981)، وسيف الله داد (1995).

غسان كنفاني… سينمائياً

غسان كنفاني

لم تتأخّر السينما عن استلهام أعمال غسان كنفاني في عدد من أعمالها، ففي السنة الأخيرة من حياته، تولّت «المؤسسة العامة للسينما في سورية» إنتاج فيلمين سينمائيين روائيين طويلين جرى اقتباسهما عن أعماله، فتحوّلت روايته «ما تبقى لكم» لتكون فيلماً سينمائياً بعنوان «السكين» للمخرج خالد حماده (1971)، كما تحوّلت روايته «رجال في الشمس» إلى فيلم متميّز بعنوان «المخدوعون» بتوقيع المخرج المصري توفيق صالح (1972)، وهو الفيلم الذي يُعتبر، حتى الآن، من أهمّ الأفلام العربية التي تناولت القضية الفلسطينية.

وفضلاً عن وثائقي «لن تسكت البنادق»، الذي حققه المخرج قاسم حَوَل، العام 1973، ليبني وثيقة بصرية مستندة إلى خطاب جورج حبش، الأمين العام لـ«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، في الذكرى الأولى لاستشهاد كنفاني، وكذلك فيلمه «غسان كنفاني… الكلمة البندقية» من الإنتاج نفسه، وفي العام ذاته، سنرى أن المخرج العراقي ياسين البكري يقدم فيلمه «زهرة البرقوق» الروائي القصير (مدته 22 دقيقة) من إنتاج «مؤسسة السينما والمسرح» في العراق، العام 1973، ويقدم المخرج الفلسطيني صبحي الزبيدي فيلماً بعنوان «نساء في الشمس»، العام 1999، في إهداء للأديب الشهيد غسان كنفاني، ومحاولة محاكاة لمأساة رجاله الفلسطينيين، من خلال مأساة مجموعة من النساء الفلسطينيات، في الأرض المحتلة، وسيحاكي المخرج فجر يعقوب، رواية «رجال في الشمس»، في فيلمه القصير «صورة شمسية» في العام 2003. وسيتم اقتباس عدد من القصص القصيرة التي كتبها كنفاني لبناء أفلام روائية قصيرة في غير بلد عربي، ومنها قصة «كعك على الرصيف» التي رأينا عنها عدة أفلام قصيرة، لكل من إسماعيل هباش، وسامي الحو، ومحي الجيوسي. دون أن نغفل عن ذكر أن المخرج الإسرائيلي عاموس غيتاي اتكأ على أدب غسان كنفاني، في فيلمه الشهير «كيدما» (2002).

«عائد إلى حيفا»… الاقتداء بالرواية
إذا كان للسينما الفلسطينية أن تبدأ حياتها ومسيرتها في إنتاج فيلم سينمائي روائي طويل، فلن يكون هناك أهمّ وأفضل من أن يكون بناءً على عمل للأديب الشهيد غسان كنفاني. هذا هو المنطقي والمُفترض، وهذا ما تحقّق فعلاً. ساهم في ذلك أن الجهة التي أنتجت أول فيلم سينمائي روائي فلسطيني طويل، هي «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، التي كان غسان كنفاني عضو مكتبها السياسي، ومسؤول الإعلام، والناطق باسمها. كما أن لمخرج الفيلم، العراقي قاسم حول، حكاية فريدة مع غسان كنفاني بدأت قبل سنوات مديدة، أي منذ العام 1969، عندما وصل هذا الشاب العراقي إلى بيروت، في طريقه إلى أبوظبي، ولكن غسان كنفاني أقنعه بالبقاء في بيروت، للعمل في مجلة «الهدف» بدايةً، ثم دفعه وشجعه ودعمه لصناعة أفلام سينمائية فلسطينية متميزة بدأت مع الفيلم القصير «نهر البارد» العام 1971.

سيرحل الأديب غسان كنفاني شهيداً في الثامن من تموز من العام 1972، وسيستمر قاسم حول في العمل السينمائي مع «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين». وحين تقرّر هذه، في العام 1981، إنتاج أول فيلم سينمائي روائي فلسطيني طويل، سيكون عن رواية «عائد إلى حيفا»، من خلال ما أسمته يومها «مؤسسة الأرض للإنتاج السينمائي»، التابعة لها، وسوف تسند المهمة إلى المخرج العراقي قاسم حول، الذي استعان بالمخرج العراقي قيس الزبيدي في المونتاج، واللبناني زياد رحباني في الموسيقى، ومجموعة من الممثلين اللبنانيين والسوريين منهم حنان الحاج علي، وبول مطر، وجمال سليمان، والألمانية كريستين شور… وجرى تصوير الفيلم في مناطق عدة في شمال لبنان.

ليس غريباً أبداً أن يكون فيلم «عائد إلى حيفاً» أميناً تماماً لنصّ رواية غسان كنفاني. فمن تراه كان قادراً على تغيير أي شيء مما كتبه، أو قاله، أو من تراه كان يجرؤ إجراء أي تعديل على رؤية رآها، أو التدخّل في تفاصيل رسمها؟ ليس السؤال هنا: هل كان ثمة حاجة لأيّ تغيير؟ بل هل كان.. هل يمكن المساس عبر أي تغيير في التعامل مع تراث غسان كنفاني، الذي بات أقنومة من الأقانيم، ورمزاً من الرموز، يرقى إلى درجة غير قابلة للنقد أو النقاش، فما بالك التعديل أو التحوير.

سيلتزم فيلم «عائد إلى حيفا» بالنصّ الروائي الـ «كنفاني»؛ يصوّره، ويترجمه، ناقلاً إياه من الكلمة إلى الصورة، من دون أي حياد، ولعل هذا ما أثقل الفيلم، خاصة أن الرواية تنتمي إلى النوع الفكري الذهني، يدور الجزء الأهم من أحداثها في مكان مغلق؛ بيتهما المُحتل، وزمن محدد؛ اللقاء ما بين الأب والأم وابنهما «خلدون»، الذي تركاه إبّان النكبة 1948، وعادا بُعيد النكسة 1967، ليجدا نفسيهما أمام شاب يافع «دوف»، الذي أصبح جندياً في الجيش الإسرائيلي، لديه المبررات النفسية والاجتماعية ليكون الإسرائيلي الذي صاره، لا الفلسطيني الذي وُلد عليه، أو منه.
محاولات المخرج الالتزام بالرواية نصاً وروحاً وفكراً، وكذلك محاولاته تصوير وقائع النكبة وأحداثها، على رغم محدودية الإمكانات الإنتاجية، وفقرها، أرهقت الفيلم، الذي لم يستطع مجاراة الرواية، في عمقها الفكري من جهة، ولا إعادة بناء الأحداث في صورة مُقنعة، من جهة أخرى، على رغم كل ما جرى تقديمه من إمكانات جبهوية، وربما رسمية لبنانية، وتطوّعات شعبية وأهلية، بقيت جميعها أكثر فقراً من أن تعطي الصورة التي يمكن أن تعطي إحساساً مؤثراً أو صادقاً بما جرى عام النكبة (1948).

لا ينبغي أبداً إنكار الاجتهادات التي حاولها الفيلم، في ظروفه الصعبة تلك، وهو من قدّم الفنان السوري جمال سليمان، في أول أدواره، والذي سيصبح أحد أبرز النجوم السوريين والعرب، فيما بعد، ويقوم ببطولة الفيلم الآخر «المتبقي»، الذي سيتم اقتباسه عن الرواية ذاتها، وينبغي عدم تجاهل استعانة فيلم «عائد إلى حيفا» بالألمانية كريستين شور، وتعاونه مع الزبيدي والرحباني، وسعيه مع ذلك كله للموازنة ما بين الفيلم التاريخي الملحمي، والفيلم المُعاصر السجالي.
يبدأ فيلم «عائد إلى حيفا»، منذ يوم 21/4/1948 الذي اجتاحت فيه العصابات الصهيونية مدينة حيفا، واستطاعت ببطشها تشريد وطرد سكانها الفلسطينيين، الذين فرّوا عبر البحر بالمراكب الصغيرة، أو عبر البراري، بحثاً عن أمان من مجازر الصهيونية، إذ لم يكن قد مضى، حينذاك، على مجزرة دير ياسين أكثر من أحد عشر يوماً، وانتشرت أخبارها وفظائعها بين الناس في عموم أنحاء فلسطين، فقد حصلت مجزرة دير ياسين في العاشر من نيسان العام 1948، بعد مرور أقل من ثمان وأربعين ساعة على استشهاد القائد عبدالقادر الحسيني، في القسطل. وكان الحسيني رأس المقاومة الفلسطينية، وآخر رماحها، كما كانت أخبار مجزرة دير ياسين الخبر المرعب الفظيع الذي زعزع، مع خبر استشهاد الحسيني، تماسك الفلسطينيين وثباتهم في قراهم وبلداتهم ومدنهم.

جمال سليمان في لقطة من فيلم “المتبقي”

وكما في الرواية كذلك في الفيلم تأخذ الحكاية سيرة السرد الصاعد مع الزمن لاستكشاف الحكاية بملابساتها، منذ أن قرّر سعيد وصفية الذهاب إلى حيفا لاستكشاف مصير طفلهما الرضيع، الذي تركاه قسراً قبل نحو عشرين سنة، آملين العثور عليه أولاً، واستعادته تالياً، ولكن ما يلاقيانه والتحولات ستذهب بهما بعيداً، لتنتهي إلى فكرة أن الفلسطينية هوية نضالية، وإلى دعوة مُضمرة في تبنّي خيار المقاومة والكفاح المسلح، أولاً من خلال التمنّي الغامض للأب سعيد، في أن يكون ابنه الثاني «خالد»، التحق بصفوف الثورة الفلسطينية، الوليدة حينذاك، وذهاب الفيلم إلى تصوير أكثر فصاحة في تبني هذا الخيار، أكثر مما أشارت إليه الرواية، وربما في مسعى لتأكيده.

«المتبقي»… الذهاب أبعد من الرواية
في العام 1995، قام المخرج الإيراني سيف الله بالعمل على إعداد رواية «عائد إلى حيفا» لتكون ركيزة فيلمه «المتبقي»، الذي استعان في تنفيذه بطاقم من الممثلين السوريين، منهم: جمال سليمان وجيانا عيد وسلمى المصري وعلاء الدين كوكش وغسان مسعود وحسن عويتي وعصام عبه جي.. وغيرهم من الممثلين والفنيين والتقنيين، وقام بتصوير فيلمه في مدينة اللاذقية، توأم مدينة حيفا، على شاطئ البحر المتوسط، وأنجر منه نسخة ناطقة بالعربية، وأخرى مدبلجة بالفارسية، ما يجعل من الممكن الخلط بين هوية الفيلم العربية والإيرانية.

لا يلتزم فيلم «المتبقي» برواية «عائد إلى حيفا»، بل يذهب في إعادة صياغتها إلى حدّ نقضها تماماً، والذهاب بها إلى مقولات تنتمي إلى المخرج وفيلمه، وليس إلى الرواية وما أراد منها كاتبها. صحيح أن مقولة تبنِّي خيار المقاومة ونهج الكفاح المسلح وارد في العملين، ولكن الحكاية ما بين الفيلم والرواية لم يتبقّ منها إلا فكرة ترك الطفل الرضيع قسراً، و«تبنّيه» من قبل أسرة صهيونية، من المهاجرين الأوروبيين اليهود. وقام الفيلم بحذف مراحل تاريخية كاملة، وإضافة شخصية الجدة والدة سعيد، التي ستصبح بطل الفيلم الحقيقي، بدلاً من سعيد وصفية وابنهما.

يثير فيلم «المتبقي» سؤالاً على قدر من الأهمية، وهو إلى أيّ مدى يحقُّ لمخرج سينمائي أن يغيّر في جوهر الحكاية، ومنطق الرواية الأدبية، التي يعتمد عليها؟.. ففي حين أراد غسان كنفاني البحث في مسألة كون «الإنسان قضية»، وذلك من خلال حكاية تحوّل «خلدون» الفلسطيني، الذي تُرك، وإن قسراً، رضيعاً ليتربّى في كنف أسرة يهودية، فأصبح جندياً صهيونياً بامتياز اسمه «دوف»!.. فإن المخرج الإيراني سيف الله داد، غيّر في جوهر الحكاية، وسياقاتها، ليجعلها قصة كفاح الفلسطينيين، وليبني في فيلمه نشيداً للكفاح المسلح الفلسطيني، لم يكن في بال غسان كنفاني التطرّق إليه، في هذه الرواية، بل كان همّه إثارة السؤال حول من هو الصهيوني؟.. ومن هو الفلسطيني؟.. في مسعى لتأمل مبكّر في جوهر القضية الفلسطينية.

لم يقبل فيلم «المتبقي» أن يترك سعيد (وقد صار طبيباً، وليس مدرساً)، وزوجته (التي صار اسمها لطيفة، وليس صفية)، طفلهما الرضيع (الذي صار اسمه فرحان، وليس خلدون)، ويمضيان هاربين، بل سيقدّم مشاهد منفذة سينمائياً بعناية ومهارة، ومشغولة بطريقة مؤثرة، تبيّن لنا إلى أيّ درجة استماتا في محاولة العودة إلى الطفل، واستشهدا على مبعدة من عتبة البيت. كما لن يقبل الفيلم إلا أن تدخل الجدة (التي أخذت اسم صفية، وهي شخصية غير موجودة في الرواية)، والتي سيكون هدفها النهائي بعد مقتل ابنها وزوجته، دخول البيت بوصفها مربية للطفل، لتقوم باحتضانه والعناية به، ريثما تقوم باستنقاذه من أيدي الأسرة الصهيونية. وسيفتح الفيلم مساحة من وقته للأعمال الكفاحية التي يقوم بها الفلسطينيون، كباراً وصغاراً رجالاً ونساء، في العام 1948، بمن فيهم والدي الدكتور سعيد؛ الوالد الذي سوف يُصاب خلال عمل كفاحي، والوالدة التي سينتهي الفيلم وقد مررت حقيبة المتفجرات إلى القطار الذي ينقل المزيد من المهاجرين اليهود، ففجرتّه وأنقذت حفيدها الطفل الرضيع.

من الواضح أن فيلم «المتبقي» أخذ من رواية «عائد إلى حيفا» مدخلاً له، ولن يحتفظ منها إلا بفكرة ترك الطفل الرضيع في البيت، ليقوم بإجراء تغييرات شاملة، شكلاً ومضموناً، في عزم أكثر مباشرة، كفاحياً ونضالياً، بما يتوافق مع رؤية المخرج الإيراني وموقفه، الذي جعله يعمد إلى تدجيج الفيلم بكل ما أمكنه من دلالات ميثولوجية دينية، مع حضور شخصية شمعون (غير الموجودة أصلاً في الرواية)، والاستعارة غير الخافية من حكاية النبي موسى (عودة الأم لاحتضان الطفل المتروك قسراً)، ومن دلالات سياسية باستحضار الإنكليز ووجودهم الاحتلالي، وتسهيلهم إقامة «وطن قومي لليهود»، ومن تأكيد على الفعل الفلسطيني المقاوم، بدءاً من الطبيب سعيد وتشبثه بعيادته إلى آخر لحظة، ومن ثم إصرار سعيد وزوجته لطيفة على العودة لاستنقاذ طفلهما الرضيع، حتى لو كان الثمن مقتلهما، وانتهاء بعودة والدي سعيد للانخراط في المقاومة المسلحة، وإنقاذ الطفل/ المستقبل.

لاشك في أن المخرج سيف الله داد، قدّم في «المتبقي» فيلماً سينمائياً قوياً متماسكاً، يمتد على مدى قرابة ساعتين ونصف، أعاد فيه بمهارة بادية بناء زمن نهاية أربعينات القرن العشرين، في فلسطين، جاعلاً من مدينة اللاذقية قادرة على أداء دور مدينة حيفاً، في إقناع، قادراً على تحريك المجاميع، وإدارة الممثلين، والعناية بأدقّ التفاصيل من أمكنة وديكورات وأثاث وسيارات وملابس وأزياء، ومشاهد داخلية وخارجية، تفلّتت من الضيق الذي كانت تفرضه الرواية الأصلية.

خلاصات غير نهائية
قد يكون من المُجحف المُقارنة ما بين أول فيلم سينمائي روائي طويل فلسطيني، «عائد إلى حيفا» الذي أُنتج في العام 1981، بإمكانيات محدودة، وفيلم «المتبقي» الذي أُنتج بعد قرابة 15 عاماً، وتقف خلفه مؤسسة إنتاجية عريقة «مؤسسة الفارابي»، قادمة من فضاء سينمائي إيراني، أثبت حضوره على نحو عالمي، ممتلكاً مهارته وحرفيته وتقنيته. ولكن مما لاشك فيه أن فيلم «عائد إلى حيفا» شرع في كتابة تاريخ سينمائي فلسطيني، سوف نرى ملامحه الأكثر نضوجاً بعد سنوات، عندما استلم الجيل الجديد من المخرجين الفلسطينيين الراية، عبر ميشيل خليفي صاحب «عرس الجليل»، ورشيد مشهراوي بدءاً من «حتى إشعار آخر» وحتى «فلسطين ستريو»، وإيليا سليمان صاحب «يد إلهية» و«الزمن الباقي»، وهاني أبو أسعد في «الجنة الآن»، و«عمر»، وليس انتهاءً مع آن ماري جاسر، ونجوى النجار، ومي المصري.

سوف نعود، مرة بعد أخرى، إلى «عائد إلى حيفا»، الرواية والفيلم، وأسئلتها القلقة، ويقينياتها الراسخة، ونتوقف أمام «المتبقي»، من جديد، كلما حضرت مناسبة للحديث عن فلسطين، القضية والسينما.
صحيح أن السينما الفلسطينية لم تجد وقتاً بعد للعودة إلى منابع الأدب، للاستقّاء منها، ولكن من المؤكد أنها إن فكّرت في ذلك، فسوف يكون غسان كنفاني في مقدمة من يلجؤون إلى أدبه المتجدد، عابراً تحولات الزمن الفلسطيني.