مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الـ55.. عودة سحر المهرجان التشيكي العريق

د. أمــل الجمل

قضايا الهجرة غير الشرعية والأحوال المزرية للمهاجرين الرسميين، والقمار الذي يخرب حياة الناس، ومشاكل الطلاب مع المدرسين، وتعقيدات مرحلة المراهقة بكل مخاطرها النفسية والجسدية، ومشاكل الآباء والأبناء في علاقة بعضهم ببعض بكل الصراعات الظاهرة والباطنة، والأحلام الكبرى بتحقيق بطولات رياضية بارزة، وقصص السير الذاتية لأيقونات رياضية أو موسيقية، والحروب وما تفعله بحياة البشر، والاغتصاب الذي تتعرض له النساء بآثاره المدمرة، وغرف العناية المركزة ورعاية المرضى بشكل شديد الإنسانية، أو العمل على مساعدتهم نفسيا لتقبل فكرة الرحيل الأخير.

كل ما سبق هي موضوعات تكررت بتنويعات مختلفة ضمن 126 فيلما شكلت حصيلة عروض الأفلام في الأقسام المختلفة بمهرجان “كارلوفي فاري” بدورته الـ55 التي امتدت خلال الفترة ما بين 20 أغسطس/آب وحتى 28 الشهر الجاري، وقد بلغت مبيعات تذاكر حضور الأفلام خلال هذه الدورة نحو 112 ألف تذكرة، مقابل 140 ألفا عام 2019.

عُقدت تلك الدورة التي شهدت عودة المهرجان التشيكي العريق -بعد غياب عامين بسبب تفشي وباء كورونا- في ظروف استثنائية جدا، لكن المدهش أنه لم يعلن عن أي حالة إصابة خلال أجواء المهرجان، وذلك على العكس مما حدث في مهرجان كان الشهير، فقد صرح بعض المخرجين الذين شاركوا فيه بأن الكثيرين ممن حضروا المهرجان في دورته الأخيرة قد أصيبوا بكورونا أثناء التنقل بين قاعاته وأجوائه.

من أجواء مهرجان كارلوفي فاري التشيكي بعد غياب عامين بسبب فيروس كورونا

 

حصار كورونا يخنق بلاد التشيك.. أجواء المهرجان

لا شك أن المدن التشيكية -وعلى الأخص كارلوفي فاري التي تُعد واحدة من أشهر المنتجعات العلاجية الاستشفائية في العالم- قد تأثرت جدا من الزاوية الاقتصادية جراء كورونا، فقد تسبب في إلغاء المهرجان العام الماضي، كما تسبب في تأجيل هذه الدورة عن موعدها المعتاد في نهاية يونيو/حزيران، كما توقفت السياحة طويلا، حتى أن كثيرا من الفنادق هناك قد أُغلق، وبعضها كان قد فتح أبوابه خصيصا للمهرجان بعد إغلاق دام أكثر من ثمانية أشهر.

نظرا لكل ما سبق، كانت إقامة هذه الدورة تعني تحديا كبيرا للمنظمين، ليس فقط فيما يخص البرمجة وإحضار ضيوفهم من المخرجين وصُنّاع الأفلام والنقاد والجمهور، لكن أيضا تمثل التحدي الأكبر في السيطرة على الفيروس بمنع انتشاره بين روّاد المهرجان الأشهر والأعرق في وسط وشرق أوروبا أثناء انعقاد تلك الدورة.

لذلك أصدر منظمو المهرجان التشيكي قرارات إلزامية باتباع إجراءات احترازية مُشددة لمن يريد حضور الأفلام والمناقشات والاحتفالات حتى قبل أن تبدأ الدورة، إذ اشترطوا على كثير من ضيوفه -خصوصا القادمين من المناطق الحمراء الموسومة بتفشي الوباء العالمي بها- عقب وصولهم لمدينة كارلوفي فاري أن يخضعوا للعزل الذاتي لمدة خمسة أيام، يعقبها إجراء اختبارات تؤكد سلامتهم.

كان هناك شرط آخر لدخول القاعات -إضافة لأقنعة الوجه- وهو ارتداء سوار حول المعصم يؤكد سلبية اختبار كورونا، ويُحدد موعد تجديد الاختبار، وبدون هذين الشرطين لا يُسمح لأحد بالحضور. كما وفر المهرجان فريقا طبيا كاملا موزعا في عدة نقاط جغرافية بمحيط المهرجان، لإجراء الاختبارات للجمهور وللضيوف، وأتاح المجال لإعطاء جرعات مكثفة من تطعيم جونسون، حيث سمح بإعطاء جرعة واحدة كُرست أساسا للشباب والشابات من جمهورية التشيك.

الممثل والمخرج جوني ديب الذي احتفى به مهرجان كارلوفي فاري بعرض اثنين من أعماله وإقامة ندوات له ولقاءات مع الجمهور

 

“جوني ديب”.. تكريم في أوروبا يتحدى غضب جمهور هوليود

هناك تحد آخر واجهه منظمو المهرجان عندما قرروا تكريم “جوني ديب” الذي اشتهر بدوره في سلسلة “قراصنة الكاريبي” (Pirates of the Caribbean) الذي ظل لسنوات يتربع على عرش شباك التذاكر الهوليودي، لكنه في السنوات الثلاث الأخيرة أصبح مثيرا للجدل، وانقسم من حوله المختصون وصناع السينما، إذ التحم جوني في صراعات قضائية شوّهت سمعته، وأصبح يُوصف من قِبل البعض بأنه “ضارب زوجته”، كما خسر استئنافه ضدها، وتعثرت بعض أفلامه في الخروج للنور بسبب خوف المنتجين من تراجع الجمهور جراء تلك المشاكل بين “جوني ديب” وزوجته، كما حصلت مشاكل بينه وبين الصحف التي نشرت مقالات ضده.

استضاف المهرجان “جوني ديب” وعرض اثنين من أهم أفلامه، وذلك تكريما لمسيرته كمنتج وممثل، لكن بعض المنظمات المهاجمة للعنف الأسري انتقدت هذا التكريم واعتبرته مضللا، ورغم كل تلك الانتقادات فإن منظمي المهرجان لم يتراجعوا، وصرحوا بأن الاحتفاء هو “تقدير لإسهاماته الكبيرة في مجال الفيلم طوال حياته المهنية الواسعة، وإرثه الدائم لممثل مشهور في صناعة السينما على مستوى العالم”.

وكان المدير الفني للمهرجان “كارل أوخ” قد أضاف قائلا: إنه لشرف كبير لنا أن نرحب في المهرجان بفنان متعدد الأوجه، وبأيقونة السينما المعاصرة، لقد أعجبنا بالسيد “ديب” لفترة طويلة، ويسعدنا أن نمنحه هذا التكريم.

ومع ذلك فقد دافع بعض المخرجين الكبار عن تكريم “ديب”، كما فعل المخرج الألماني الكبير “فيم فيندر”، لكن الأهم أن الجمهور التشيكي استقبل النجم -المغضوب عليه في هوليود- استقبالا تاريخيا، فقد حضر عشرات المئات وحجزوا أماكنهم في محيط المهرجان وأعلى الجسور منذ الثامنة من صباح ذلك اليوم، كما أن قاعات عرض فيلمي “فخار الذهب.. بضع جولات مع شين ماكغوان” (Crock of Gold: A Few Rounds with Shane MacGowan) و”ميناماتا” (Minamata) الذين قدمهما “جوني ديب” بنفسه؛ شهدتا إقبالا جماهيريا لافتا، حتى أن البعض افترش الأرض، وصفق له الجمهور طويلا، وعلى ما يبدو أن الأمر سيتكرر في مهرجان “سان سيباستيان” السينمائي الذي أعلن بدوره أن “ديب” سيحصل على أعلى جائزة هناك، وهي جائزة “دونوستيا” في سبتمبر/أيلول.

 

“السير مايكل كين”.. جائزة إنجاز العمر

لقد كانت دعوة مهرجان كارلوفي فاري لـ”جوني ديب” هي دعوة احتفائية بعرض اثنين من أعماله وإقامة ندوات له ولقاءات مع الجمهور، وذلك من دون منحه أي جائزة، وعلى صعيد آخر كان من أبرز التكريمات في المهرجان التشيكي الكبير -الذي يُصنف على أنه أحد أهم ستة مهرجانات سينمائية في العالم- تكريم الممثل البريطاني “السير مايكل كين” الحائز على جائزتي أوسكار، ومنحه جائزة “إنجاز العمر”، وذلك لمساهمته الفنية البارزة في السينما العالمية.

كما عُرض له في هذه المناسبة أحدث أفلامه “الأفضل مبيعا” (Best Sellers) الذي يدور حول كاتب كبير في السن غريب الأطوار كانت رواياته تحقق في وقت ما أعلى المبيعات، ثم اختفى بعد وفاة زوجته، لكن صاحبة دار نشر شابة تقرر إعادته، وتدخل في صراع كبير معه أثناء تلك الاستعادة.

الممثل والمخرج “إيثان هوك” مع جمهوره في قاعة مهرجان كارلوفي فاري بعد تسلمه جائزة ليلة ختام المهرجان

 

“إيثان هوك”.. تكريم رائد الفيلم المستقل في تكساس

كذلك جرى تكريم الممثل “إيثان هوك” الذي لم يكتف بالتمثيل والإخراج، لكنه اقتحم عالم كتابة السيناريو والرواية، كما أن زوجته تنتج له كثيرا من أفلامه، وقد وصفه “كارل أوخ” المدير الفني للمهرجان التشيكي بأنه: ممثل ومخرج مرتبط ارتباطا وثيقا بمشهد الفيلم المستقل في تكساس، وبهذه المناسبة عرض له فيلم “الإصلاح الديني الأول” (First Reformed) للمخرج “بول شريدر”، ويصور فيه ببراعة قس أبرشية في أزمة إيمان.

تلقى “إيثان هوك” جائزته ليلة ختام المهرجان، كما سلّم بنفسه الجائزة الكبرى للمهرجان “الكرة الكريستال” لمخرج فيلم “أسير لأبعد ما أستطيع” (As Far as I Can Walk)، وهي الجائزة التي تُمنح عادة لأفضل فيلم بالمسابقة الرسمية.

المخرج التشيكي “يان سفيراك” الذي مُنح جائزة “رئيس المهرجان” في مهرجان كارلوفي فاري

 

“يان سفيراك”.. تاريخ فني يحصد جائزة رئيس المهرجان

منحت جائزة “رئيس المهرجان” للمخرج التشيكي “يان سفيراك” الذي تشمل قائمة إبداعه فوزه بجائزة أوسكار لأحسن فيلم أجنبي عام 1996، وقد عُرضت أفلامه في مهرجان كارلوفي فاري عدة مرات.

كما أن فيلمه “الرحلة” (The Ride) الذي كان قد فاز بجائزة الكرة الكريستال للمهرجان عام 1995؛ يعتبره كثيرون من صُنّاع السينما بداية مرحلة مهمة في تاريخ السينما التشيكية، وهو الآن يواصل عمله الجديد “أضواء بيت لحم” (Bethlehem Light).

 

“أسير لأبعد ما أستطيع”.. أوروبا تغسل يديها من عار المهاجرين

للمرة الأولى في تاريخ المهرجان وهو يحتفي بعيد ميلاده الخامس والسبعين، تُعرض الأفلام الوثائقية ضمن المسابقة الرسمية، وتنافس على الكرة الكريستال، إذ قرر المسؤولون بالمهرجان منذ نهاية الدورة الـ54 عام 2019 إلغاء مسابقة الأفلام الوثائقية، على أن توزع بين المسابقتين “الرسمية” و”شرق الغرب”، والحقيقة أن هذا الدمج يمنح الفرصة للوثائقي أن ينافس على الجائزة الكبرى، لكنه في الوقت ذاته يُصعّب المهمة على صُنّاعه، ويجعلهم في تحدٍ شرس مع صُنّاع الأفلام الروائية.

بالعودة لأهم الجوائز، يبدو واضحاً تحيّز لجنة التحكيم لفيلم “أسير لأبعد ما أستطيع” للمخرج الصربي “ستيفان أرسينيفيتش”، إذ منحوه جائزتين -وذلك إضافة إلى تنويه خاص حصلت عليه مديرة تصوير الفيلم “جيلينا ستانكوفيتش”-  فقد نال بطله الشاب “إبراهيم كوما” جائزة أفضل ممثل، حيث يُجسّد دور شاب مهاجر من غانا، وينتظر في المجر حتى يحصل على الإقامة هناك منذ سنوات، وتربطه قصة حُب بفتاة أفريقية تحلم بأن تصبح ممثلة، ثم تقرر فجأة التخلي عنه ومواصلة الهجرة غير الشرعية بحثا عن دور بطولة في إنجلترا، فيقرر البحث عنها واستعادتها.

أثناء رحلته نعايش قصص المهاجرين من بلدان مختلفة، وعلى الأخص من سوريا، والحقيقة أن الفيلم خطابي ومباشر في الأجزاء التي يتحدث فيها الممثل السوري رامي فرح خصوصا أمام القنوات الفضائية، لكن تظل أقوى مشاهد الفيلم هي المقاطع الأخيرة منه، وهي لحظة إنكار البطل الشاب لحبيبته من أجل إنقاذها، ولحظة التحقيق معه.

لا شك أن الممثل الشاب “إبراهيم كوما” قدم أداء جيدا، وكان في منافسة شرسة مع الممثلين بالأفلام الأخرى، وأهمهم بطل فيلم “نقطة غليان” (Boiling Point) الذي حصلت بطلته على تنويه خاص لأدائها المتميز، وإن كان هذا الفيلم الأخير أهم وأقوى سينمائيا من نظيره الفائز، حيث يتمكن من مخرج لجلب جميع طوائف المجتمع، ومناقشة الفساد ليلة الكريسماس في أحد المطاعم، لكن يبدو أن قضية المهاجرين ما زالت تمنح الأوروبيين شعورا بالذنب، فتجعلهم يغسلون أيديهم بمنح الجوائز والدعم للأفلام التي تثير تلك القضايا.

 

“الامتحان” و”البحر أمامكم”.. أفلام الإنتاج القطري في المهرجان

كانت مشاركة قطر لافتة في إنتاج سبعة من الأفلام التي شاركت في هذه الدورة من كارلوفي فاري، حيث عُرض أغلبها في قسم “آفاق”، باستثناء فيلم “الامتحان” (The Exam) بتوقيع المخرج الكردي “شوكت كوركي” الذي شارك بالمسابقة الرسمية، ويدور حول مافيا الغش وتسريب الامتحانات والأجوبة للطلاب في العراق الآن.

أما الأفلام الأخرى فأبرزها اللبناني “البحر أمامكم” للمخرج إيلي داغر، ويدور حول عودة فتاة لبنانية شابة من باريس بعد رحلة عمل ودراسة غير موفقة، لتكتشف أنها عادت إلى الخراب والفشل، وتجعل المشاهد يعايش معها هذا الضياع واليأس اليومي للشباب والعائلات في المدينة التي تنتظر تسونامي.

 

“صلوات من أجل المسروق”.. هاجس اختطاف الفتيات في القرى الجبلية

شاركت قطر أيضا في إنتاج الفيلم البرازيلي المكسيكي الألماني المشترك “صلوات من أجل المسروق” (Prayers for the Stolen)، وهو أول روائي طويل لمخرجة الأفلام الوثائقية “تاتيانا هويزو” التي كانت أعمالها السابقة تنهض على النقد الاجتماعي.

هنا في إحدى القرى الجبلية شيء واحد لا تريده الأمهات، هو أن يكون جنينها فتاة، لأن العصابة التي تحكم المنطقة تأخذ الفتيات لنفسها، ومن خلال أعينهن نلاحظ الحياة في هذا المكان المعزول. إنها قصة مروعة عن النساء والأطفال الذين تتعرض حياتهم للتهديد منذ صغرهم.

الممثلة منال عيسى التي قامت بدور المراهقة أليكس في فيلم “دفتر مايا”

 

“دفاتر مايا”.. صندوق ماضي المراهقة إبان الحرب الأهلية اللبنانية

“صندوق الذكريات” أو “دفاتر مايا”، هو عنوان فيلم رابع شاركت قطر في إنتاجه مع فرنسا ولبنان وكندا، وهذا الفيلم من توقيع المخرجين اللبنانيين جوانا حاجي توما وخليل جريح، وتدور أحداثه عن المراهقة أليكس التي تعيش مع والدتها مايا في مونتريال.

ذات صباح تتسلمان صندوقا كبيرا خلال عطلة عيد الميلاد، وهذا الصندوق يجعل الأم تواجه ماضيها بشكل غير متوقع، فهو مليء بالخطابات والتسجيلات والصور التي أرسلتها مايا إلى صديقتها المقربة في بيروت في الثمانينيات من القرن العشرين، فتضطر لاستكشاف ذكريات الماضي، وهو أمر كانت تتجنبه بعناد.

لكن أليكس تبدأ سرا في فض ذكريات والدتها وتأتيها ومضات من الماضي، إذ تتنقل الأحداث ببراعة بين بيروت ومونتريال، حيث تظهر سنوات مراهقة مايا في لبنان خلال الحرب الأهلية.