اكتشاف القلب: موسيقى التصوف

حسن المرزوقي

لا شيء يعلو فوق صوت الصمت في حضرة الروح وهي تطرب إلى ما تتوق إليه. تتجه إلى الأعلى دون أن يكون للأعلى حد أو امتداد لأن الأعلى مصدر المدد النوراني القادم من الحضرة الإلهية التي لا تدركها الأبصار ولكن يمكن للقلوب الصافية أن تتفتح قليلا أو كثيرا على بريق نورها الأخاذ. حينها تصمت اللغة وينعقد اللسان ويتعطل البيان… ليبدأ النغم.
هذا ما يريد فيلم المخرج التركي نسيليخان قارا دومان الذي عنونه “اكتشاف القلب: موسيقى التصوف”. أراد من خلاله أن يقترب إلى عالم غامض وساحر إنه عالم التكية والدراويش وعزفهم المتواصل عبر التاريخ. يريد الفيلم أن يقيم المعادلة الصعبة بين لغة الموسيقى ولغة الروح في الفضاء الإسلامي.
إن تجربة الموسيقى الصوفية تعتبر من أبدع ما أنتجته الثقافة الإسلامية. فقد استطاع المتصوفة وخاصة الأتراك ممثلين في الطريقة المولوية (نسبة إلى جلال الدين الرومي الذي عاش في القرن الثالث عشر ميلادي) استطاعوا أن يجعلوا من الموسيقى حالة فكرية وعرفانية راقية بعدما كانت حالة فنية ترفيهية. فعلى صهوة الموسيقى ينطلق قلب المريد نحو بحار المعرفية الذوقية. باختصار لقد أصبحت الموسيقى طريقا معبدة ومخملية نحو الذات الإلهية.

من الفيلم

لا يمكن فهم الموسيقى الصوفية إلا بفهم مغزى التصوف نفسه. وهذا ما حاول الفيلم توضيحه حيث فسر مذهب التصوف -طبعا المعتدل-  من خلال تفسير دور الموسيقى ورمزية حركات الجسد ومعاني أنغام آلات العزف. وأغنى المشاهد بمعلومات عن تطور هذا الفكر من خلال التطورات التي طرأت على الألحان الموسيقية. إنه تأريخ لمذهب إسلامي بل للفكر الإسلامي من خلال تاريخ نوع الفنون وهو الموسيقي.
إن خصوصية الموسيقى الصوفية في معانيها ووظائفها لا تعني أنها منفصلة عن فن الموسيقى العربية والتركية والشرقية بشكل عام. فهي تحتكم إلى مقامات تركية وعربية معروفة مثل مقام البوسا أو مقام السيكا. كما أن الناي والعود والطنبور من الآلات التي طبعت الذوق الفني لمنطقة الشرق عبر قرون حتى أضحت جزءا من الهوية الثقافية. بالتالي فإن أصالة الموسيقى الصوفية هي من أصالة الموسيقى الشرقية نفسها. أما الإضافة التي أتى بها المتصوفة فتكمن في المعنى الذي سكبوه في القالب الفني التقليدي للموسيقى العربية. وفي نظام حركات الجسد التي ضبطوها بدلالة تجمع بين البعد الأرضي والسماوي في البشر ضمن حركة دائرية ترمز إلى الوجود المطلق.
لقد نجح فيلم “اكتشاف القلب” في تفسير عالم صعب المنال على الكثيرين وهو عالم الحضرة الصوفية وموسيقاها الموصلة إليها. وقد لامس المخرج الحقائق الكبرى لهذا العالم بطريقة سهلة ومفهومة دون أن يرهق المتلقي بخطاب فلسفي وديني معقد أو خطاب موسيقي متخصص.
جمع الفيلم أيضا بين التفسير الشفوي للموسيقى الصوفية والتجسيد العملي للأنغام ففاض الفيلم بالأنغام ليكون الفن من صميم موضوع الفيلم فلا يعقل أن يتحدث الفيلم على الموسيقى دون أن يمتع مشاهديه بأحلى أنغام هذا الاختصاص الفني.
ويخلص الفيلم إلى دلالة كونية منفتحة على كل الثقافات والأجناس مفادها أن لغة الموسيقى الصوفية لغة كونية ولا تخص دينا أو ثقافة بعينها. وبرهن على ذلك بحضور بعض البوذيين ومن أديان أخرى في حلقات العزف. وبدا الانتشاء عليهم وكأنهم في حضرة من أحبوا  ملبين نداء ما اعتقدوا.
يظهر هذا الفيلم صفحة جميلة من صفحات ثقافة هذه الأمة. إنها صفحة الحب الطاهر والمطلق والتواق إلى استدعاء نسمات الحب الإلهي لتطهير النفوس. إنه لحن الجمال في عالم مليء بالقبح وهو نغم الخير في عالم يزحف فيه الشر ويتوسع. وتلك هي الرسالة لكل المسلمين وغير المسلمين أن ديننا دين حب وسلام… دين مليء بالتجارب الناصعة. دين فن راق يرقى بالروح ويطهرها. ويحاول الفيلم بالتالي أن يرد على كثير من الآراء المتعصبة أو الخاطئة عن هذه الحضارة العريقة.  فقليلون من يعرف هذا الكنز الفني العريق. وكثيرون من يتجاهلون مواطن الجمال في حضارتنا. وبين الكثيرين والقليلين أناس متعطشون لنهضة روحية وقيمية شاملة لعل الموسيقى أحد أبوابها.