الحلم بين الفلسفة والسينما

إسراء إمام

يحدد فرويد المصادر التى قد تتحكم فى الأحلام وهي"إشارات حسية تأتى من خارج الجسم، إشارات حسية تأتى من الجسم ذاته، إشارات عضوية باطنية، إشارات نفسية خالصة".

 الحلم واقع موارب، يحمل من الصفتين، هو مكشوف لايسحب طرف ظِله، لكنه فى الوقت ذاته لا يُنوّلنا منه تجليا ظاهرا. نحلم كل يوم، نُسافر إلى أرضه بدعوة خاصة منه، لا يسعنا معرفة ميعادها، أو وِجهَتها. نغادر مأخوذين، ونعود مجبورين. وقد اعتدنا فعلته فينا طيعيين، لا نحاول اكتشافه، والسعى وراء غموضه وعبثه معنا.

مُهَيآت الحلم

لن أخوض فى تعريف عملية الحلم نفسها، لأنها ستظل واضحة بمفهومها القشرى، المُتَضَح ظاهريا، والخاص بعمل العقل الباطن، إلى جانب اضطرابات الجهاز العصبى، وما إلى ذلك. ولكن الأهم لدى، أن نتمعن فيما يحيط هذه العملية التى صارت بديهية فى حياتنا اليومية، ونجمع عن ملابساتها قدر جيد من العلومات، ولهذا سنتطرق إلى ما قاله فرويد عن المصادر التى قد تتحكم فى الأحلام، والتى قسمها إلى: “إشارات حسية تأتى من خارج الجسم، إشارات حسية تأتى من الجسم ذاته، إشارات عضوية باطنية، إشارات نفسية خالصة“. بالطبع يبدو هذا التفنيد واقعيا، ويمكن لكل منا الآن استرجاع عدد من الأحلام التى راودته، وبدت متأثرة بكل نقطة ذكرها فرويد، وللتوضيح يمكننا أن نقتبس من شرحه أكثر “ فمن يسمع هدير الرعد وهو نائم قد يحلم بساحة قتال، ومن يتكشف جزء حساس من جسمه أثناء الليل وتصيبه القشعريرة، قد يحلم أنه يمشى فى الشارع عاريا، ومن يدخل رأسه تحت الوسادة وهو يتقلب، جدير أن يحلم بصخرة عظيمة فوق رأسه.”

يمكننا أيضا الاستعانة بمثال سينيمائى هنا، جاء فى فيلم shutter island 2010، حينما نرى تجسيدا بارزا للمياه فى الحلم الأول الذى يراود البطل، فنجد قطرات المياه تنسل من جسد زوجته، وحينما يستيقظ البطل نكتشف أن ثمة تسرب للمياه يتساقط من السقف فوق وجهه.

مثال آخر من فيلم inception 2010، وللمفارقة نجد للمياه فيه دورا أيضا، فعندما يريد أحدهم إيقاظ البطل، يقذفه فى حوض ممتلىء بالمياه، فإذا بالبطل يرى فى حلمه بالتوازى فيضان واسع من المياه، يتأتى من كل أركان المكان الفخم الذى يتواجد فيه، ويبدأ فى تعويم المحيط بأكمله.

يقول فرويد أيضا “ إن كل حلم له صلة دائمة بأحداث اليوم السابق، ولكنه أيضا قد يشير إلى أحداث موغلة فى القدم، وقعت فى فترة الطفولة الأولى، بحيث يُخَيل للإنسان أن ذاكرته قد أتت عليها، ولم يعد فى المستطاع استعادتها.”

يعبر فيلم girl asleep، عن نظرية فرويد ،حيث أن الفتاة فى حلمها، تتقرب من شخصية والدتها، وتتفهم مدى معاناتها، وهذا عكس ما تكِنه لها فى الواقع.

وبخصوص هذا النص من كلام فرويد، يأتينا مثال نموذجى من فيلم Mulholland dr. 2011، فالبطلة طوال أكثر من نصف هذا الفيلم تعيش حُلما، وحلمها زاخر بتنويعات متعددة لعب عليها عقلها الباطن مستخدما مخزون متسع من يوم بعينه قد مرت به، يوم يُشّكل تجميعا خطرا من المشاعر والقرارات التى اختبرتها، والتى استعانت بها فيما بعد داخل حلمها بتصريفات مغايرة، ففى هذا اليوم حضرت حفلة اجتازت طريق “مولهولند” لتصل إليها، تلك الحفلة تعرضت فيها لعدد من الصدمات النفسية التى تخص علاقتها المثلية بصديقتها ومستضيفتها، حيث تعلن الأخيرة خطبتها، وكأنها تؤكد على انتهاء علاقتهما، والحقيقة أن البطلة فى هذا التوقيت يبدو أنها قررت التخلص من صديقتها، وبالفعل استأجرت فى اليوم التالى قاتلا ليقوم بالمهمة، ومن ثم ذهبت لتنام، وحينها بدأ حلمها، سنرى كيف استخدمت أكثر من شخص وحدث فى الحفلة، كمخزون بنت عليه هويات جديدة، ومواضيع أخرى.

فمثلا فى الحفلة شاهدت البطلة شخص يرتدى قبعة كاوبوى، يمر أمام عينيها من بين الحشد، لا تعرف عنه شيئا ولم يحدث بينهم ولو مجرد اتصال، فإذا بها تستخدم هذا الرجل بذات الملابس والقبعة، وتعطيه دور المرسال الغامض الذى ينقل للمخرج خطيب صديقتها ضرورة اختياره لفتاة معينة، رغما عن إرادته وذوقه لبطولة فيلمه، لتُبينه كمجرد أبله.

فى نفس الحفلة، البطلة وقعت عينيها على رجل يشرب القهوة، وليس ثمة صلة تجمع بينه وبينها، ولكن فى حلمها، عينت هذا الرجل كواحد من ممثلين الجهة الغريبة، التى تعبث فى اختيار المخرج، وجعلته فى أحد مشاهد الحلم، يشرب القهوة بطريقة غريبة ومقززة، وكأن عقلها الباطن ينبهها هنا، أن هذا الرجل ليس إلا رجل القهوة العابر الذى لمحته يوم الحفلة.

فى فيلم shutter island البطل قد قضى فترة لا بأس بها من الخدمة فى مهاجمة معسكرات النازيين، ويبدو أن هذه الفترة قد خلفت أثرا مستفحل فى نفسه، لأنه لا يلبث إلا أن يستعيدها فى أحلامه مرارا وتكرارا، جاعلا منها بيئة مضيافة مستمرة لكل ما يراه فى النوم.

وفى فيلم girl asleep 2015 الفتاة البطلة كانت تلجأ فى واقعها إلى صنع المراكب الورقية، وهو الأمر الذى يقيها من الأذى النفسى والغربة التى يصدرها لها العالم من حولها، وحينما نامت وحلمت، استدعت المراكب الورقية، واستخدمتها كوسيلة للرسائل الطيبة التى كانت تعينها على الهروب من الذئاب والأشرار فى الغابة التى تاهت فيها.

يقول فرويد"الإبدال هو الذى من شأنه أن يبعد عن الذهن المضمون السرى للحلم، لذا فإن الأشياء التى يشتد إهتمام النفس بها هى أكثر الأشياء تعرضا للإبدال."

دوافع الحلم

لخص فرويد دوافع الحلم بشكل عام، وأعاده بمختلف صوره وبناءاته إلى هدف تحقيق الرغبة، حيث قال”جميع الأحلام حتى المؤلم منها، هدفها تحقيق الرغبة.” وشرح حلما دلاليا ليؤكد على مفهوم “المؤلم منها”، فقال أن مريضة قد حكت له أنها حلمت بموت ابن أختها المقرب إلى قلبها، وتحَدَته فى أن يجد لها أى مظهر فى هذا الحلم المفجع، قد يحقق رغبة لها، فسألها تفاصيل الحِلم، وعندما تقصى عن كل من حضر الجنازة، تَبيّن أن من بينهم حبيبها القديم، الذى طالما تمنت أن تراه بعدما انتهى كل ما بينهما، لذا فإن الفتاة كانت من الكبرياء الذى يدفعها لعدم مصارحة نفسها بتلك الرغبة، وطمسها فى اختلاق كارثة منطقية قد تعيد هذا الحبيب للصورة مرة أخرى، بشكل مُتوارى. فعلى حد قول فرويد”إن كل حلم يرمى بمحتواه الباطن إلى تحقيق رغبة لاشعورية للحالم، وإن كون هذه الرغبة لاشعورية يجعلها هدفا للمصادرة من الرقيب الشعورى، وتهربا من هذه المصادرة، يلجأ الحالم إلى عمليات تنكر بعيدة المدى لإخفاء معالت تلك الرغبة الممنوعة، ومن هنا يأتى الإلتواء الغامض الذى يسود أشكال الأحلام، ويحدث التفكك الواضح بين أجزائها.”

فيلم inception يجيد تمثيل ما يقصده فرويد، فالفيلم بأكمله حُلم يعبر عن مجهود العقل الباطن للبطل، والذى يسعى لخلق حدوتة مكتملة ومحبوكة، لقصة قد تمكنه من العودة إلى أرض الواقع، بعدما تاه فى عالم اللاوعى، وبعدما غادرته زوجته لتعود إلى طبقة أعلى من المستوى العميق الذى وصلا إليه سويا فى حلمهما، فهو بعدها قد انشطر لنصفين، نصف يعى تماما أن هو الذى ضاع، ومُصِر على ضياعه بعدم مجاراة فعل زوجته، ونصف آخر يعتقد فى خطأها هى، وأنها بالذى فعلته قتلت نفسها وحسب، وبين هذا التمزع ينتج الحلم، الذى يلهث لكى يثبت صحة ما يرجحه هو.

أما فيلم Mulholland dr. هو أفضل نموذج لمحاكاة نظرية فرويد، فالبطلة اختلقت حُلما كل تفصيلة فيه تحقق لها رغبتها، حتى وإن كانت فى ظاهرها تمويهية لا تبدو مهمتها على هذا المنوال، لذلك وضع فرويد أيضا تصورا محددا لعمليات متعددة تحدث أثناء الأحلام، تُساهم فى تشويه الحلم، لأن ثمة رقابة تكمن فى اللاوعى، ولا ترتضى بصورا معينة صريحة قد تبدو فى الحلم لتحقق رغبات دفينة بداخلنا.

وفى الجزء القادم من المقال، سنشرح هذه العمليات تفصيلا، من خلال حلم بطلة Mulholland dr.، وأحلام أبطال أفلام أخرى.

يقول فرويد "ومن الوسائل التى يعمد إليها الحلم، إدماج شخصيات عدة فى شخصية واحدة، لصفات مشتركة فى هذه الشخصيات.

1-عملية الإبدال/التنكر

يقول فرويد”الإبدال هو الذى من شأنه أن يبعد عن الذهن المضمون السرى للحلم، لذا فإن الأشياء التى يشتد إهتمام النفس بها هى أكثر الأشياء تعرضا للإبدال.”

سنعود هنا مرة أخرى لفيلم Mulholland dr.، ونتذكر أنه فى أول مشاهد حلم البطلة، ظهر رجل ليس له دورا فى الأحداث، وهو جالسا فى الكافيه، يصف لرجلا آخر، أنه حلم حلما، يشعر حياله بخوف شديد، والحقيقة أن البطلة، قد رأت هذا الرجل كزبون عادى يوم اتفاقها مع القاتل المأجور فى الكافيه، فاستخدمته فى حلمها، ولم يقف الأمر عند هذا الحد من الاستحضار، لكنها استبدلته بنفسها، فجعلته يُعبر عن مدى خوفها هى ذاتها داخل الحلم. بالطبع يبدو هذا تنبيها واضحا من رقابة العقل الباطن، والتى تقوم بتحذيرها بخصوص حلمها وخوفها معا، قبل أن تندمج تماما فى النوم.

البطلة استبدلت مغزى حقيبة المال التى سلمتها للقاتل المأجور ليقتل صديقتها، وجعلت منها فى الحلم مجرد حقيبة ممتلئة بالنقود، وجدتها صديقتها فى حوزتها بعدما نجت من حادث سيارة لا شأن للبطلة به، ولعلنا سنلاحظ أن صديقتها فى الحلم كادت أن تموت ولكنها نجت، وجرت على البطلة وهى قليلة الحيلة، مشوشة الذاكرة، فسَكنت عندها، وارتاحت إليها، وكأنهما يبدأن من جديد فى علاقة أخرى، لن تتمرد فيها العشيقة على البطلة (هذه هى الرغبة الأساسية للحلم).

ظهر المخرج خطيب الصديقة فى حلم البطلة، كرجل عديم الإرادة والشخصية، على العكس تماما من حقيقته الواقعية، فقد استبدلت البطلة شخصيته الجذابة المهيبة، بشخصية كرتونية، وصَوّرَته كرجل بائس تخونه زوجته ببجاحة، يُطرَد من عمله ببساطة، ويعود فقط إن أبدى موافقته على فتاة معينة يغصبونه عليها لتأدية دور البطولة فى فيلمه.

نفس الأمر تكرر مع القاتل المأجور، الذى تعمدت البطلة فى حلمها أن تُتفِه من قدراته، وتخلق منه فاشلا، أحمقا، لا يفقه شيئا فى قتل الناس.

وفى فيلم shutter island نرى فى أول أحلام البطل، زوجته تتهمه بأنه يُخزن كميات كبيرة من زجاجات الكحول، فيتعذر لها بأنه قد عاش فترة صعبة أيام الحرب، والحقيقة أنه استبدل نفسه مكان زوجته، ليهرب من واقع إدمانها هى للكحول، والذى أودى بها لقتل أطفالهم عن غير وعى.

2_ عملية الدمج

على حسب ما قال فرويد “ومن الوسائل التى يعمد إليها الحلم، إدماج شخصيات عدة فى شخصية واحدة، لصفات مشتركة فى هذه الشخصيات. ومن الجائز أيضا أن يحمل الشخص الماثل فى الحلم اسم أو ووظيفة شخص آخر، أو يمثل الشخص الحاضر شخصا غائبا من خلال انتحال حركاته، أو كلماته، أو عباراته المأثورة فقط”

وهذا حدث أكثر من مرة فى فيلم girl asleep ، حينما نامت رأت صديقها الذى كانت قد أغضبته قبل غفوتها مباشرة، فى أكثر من شخص، مرة استمعت إلى صوته داخل جسد والدها، ومرى أخرى استمعت إلى صوته، ومن ثم تجلى لها بين قسمات صديق أختها الذى كانت تستلطفه، والذى رأت نفسها معه وهما يتلاطفان، مُحققة رغبة قد أتتها فى الواقع حياله. لذا فهى فى كل الأحوال، وحتى فى أوج لحظات استمتاعها فى حلمها، لم تستطع أن تُنحى المشاعر البغيضة التى واتتها، بعدما أساءت لصديقها بهذا الشكل، فدمجت بينه وبين شخصيات حلمها.

على صعيد آخر، قامت بدمج شخصية الثلاث فتيات اللاتى كن يطاردنها وينغصن عليها وقتها فى المدرسة، مع أجساد ثلاثة ذئاب لئيمة لم تسأم من مهاجمتها طوال الحلم، وفى بعض الأحيان، كنا نستمع إلى أصوات الفتيات يتحدثن وهن فى هيئة ذئابية.

يقول فرويد أنه "من الوسائل التى يلجأ إليها الحالم أيضا، الربط بين الأشياء والأشخاص، وهذه العملية أشبه بعمل الرسام الذى يرسم لوحة لسقراط وأرسطو سويا"

3_عملية الربط

يستكمل فرويد “ومن الوسائل التى يلجأ إليها الحالم أيضا، الربط بين الأشياء والأشخاص، وهذه العملية أشبه بعمل الرسام الذى يرسم لوحة لسقراط وأرسطو سويا، فهو لا يعنى بذلك أن أرسطو كان يعيش فى زمن واحد أو يجتمع فى مكان واحد مع سقراط، ولكن يعنى أن بينهما صلة عقلية ما، لكنه لم يقدر على التعبير عنها بالرسم، فعبر عنها بالرابطة المكانية والزمانية”

فيلم shutter island يعطينا مثالا على هذه العملية، بحيث يرى البطل فى أحد أحلامه شخصية الرجل المُتهم بإشعال الحريق فى منزله، جالسا فى مكان الطبيب المسئول عن المصحة الذى يحقق فيها بخصوص هروب أحد المرضى، والحقيقة أن هذه عملية ربط واضحة، لأن البطل يمقت رجل الحريق، ويضع على عاتقه موت زوجته، كما أنه يكن مشاعر سلبية، متشككة بخصوص الطبيب المسئول، لهذا وضع رجل الحريق فى مقعد الطبيب، وربط بينهما بالمكان، المدهش أن رجل الحريق يتحول بعد ذلك إلى شخصية شريك البطل فى العمل، ومُساعِده فى التحقيقات، والذى بدأ البطل مؤخرا يقلق بخصوصه، ويشعر أنه جاسوس عليه، إذا فقد وضعه فى نفس المكان، لتتكثف حياله الأحاسيس المنفرة ذاتها.

الحِلم سيد الواقع

أما إريك فروم، فله تصور جدير بالإهتمام يخص الحلم، يقول بشأنه “الحلم يقوم بعمليات ذهنية أرقى من أفعال الشخص المستيقظ، وهذا أمر لا يثير الدهشة على الإطلاق، إذ أن الفكر الثاقب يقتضى تركيزا ذهنيا، قد لا نكون قادرين عليه فى كثير من الأحيان أثناء يقظتنا، فى حين أن النوم يعزز هذا التركيز.”

ويمكننا تقريب هذه الافتراضية من خلال مثال من فيلم girl asleep، حيث أن الفتاة فى حلمها، تتقرب من شخصية والدتها، وتتفهم مدى معاناتها، وهذا عكس ما تكِنه لها فى الواقع، فهى فى الواقع دوما ناقمة عليها غاضبة منها. لذا، فالفتاة بمجرد استيقاظها تبحث عن والدتها، لكى تخبرها أنها تشعر بما تعانيه.

آخر كلمتين:

_المصادر: كتاب “تفسير الأحلام” لسيجموند فرويد، كتاب اللغة المنسية لـ إريك فروم.

إريك فروم، له تصور يخص الحلم، يقول بشأنه "الحلم يقوم بعمليات ذهنية أرقى من أفعال الشخص المستيقظ" وهو ما يفسره فيلم girl asleep.