“القيادة في القاهرة” .. تلك الفوضى الفاضحة

 خمسة عشر فيلما تشارك هذا العام في مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة ضمن فعاليات الدورة السابعة لمهرجان ابو ظبي السينمائي (24 أكتوبر-2 نوفمبر) بعضها يعرض عالميا للمرة الاولى وبعضها الاخر يقدم عرضه الاول بالشرق الاوسط.
تضم مسابقة الأفلام الوثائقية هذا العام ثلاثة أفلام من إنتاج صندوق سند للدعم التابع للمهرجان  بالمشاركة مع صناعها الاصليين وهي”بلح تحت قلعة حلب”للمخرج اللبناني محمد سويد الذي سبق وان فاز قبل عامين باللؤلؤة السوداء عن فيلمه الوثائقي “بحبك يا وحش”، ومن تونس يأتي المخرج حمزة عوني بفيلمه”جمل البروطة” وأخيرا من العراق المخرج قاسم عبد بفيلمه”همس المدن”.
أما مصر فيعرض لها عالميا الفيلم الوثائقي”القيادة في القاهرة”للمخرج الشاب هشام قطشة وهو عمله الوثائقي الطويل الأول بعد أن انجز عدة افلام قصيرة اشهرها”غرفة التحكم” وقمامة القاهرة”.
إلى جانب هذه المجموعة العربية تشارك ايطاليا بفيلمين هما “طوق غرا المقدس”للمخرج جان فرانكو روزي و”جدران” للمخرجين فرانشيسكو كونفرسانو ونيني غرينيافيني, وتشارك فرنسا ايضا بفيلمين احدهم إنتاج مشترك مع بلجيكا هو”الدكتور فابر سيعالجك” إخراج بيير كولييوف والأخر”مدرسة بابل”إخراج جولي برتوللوتشي.
وتشارك الولايات المتحدة بثلاثة افلام اثنين من الأنتاج الخالص هما “الحوت الأسود” لغابرييلا كوبريثوايت و”فريق القتل” لدان كرواس وفيلم واحد إنتاج مشترك مع باكستان هو”هذه الطيور تمشي” للمخرجين عمر موليك وباسم طارق، تليها بريطانيا بفيلمين هما”في الحياة الواقعية لبيان كدرنو”من هو دياني كريستال” لمارك سيلفر.
وأخيرا من السويد باخراج ايراني يأتي الفيلم الهام”ثورتي المسروقة” للمخرجة ناهيد بيرسون سارفستاني حيث تعود المخرجة إلى طهران بعد هربا عقب الثورة الأسلامية عام 79 كي تسمع شهادات خمس نساء ذقن عذاب السجن وعرفن اخيها الذي مات اثناء الثورة وحملات القمع.

الفوضى الفاحشة
لن يعدم المتلقي سببا لرغبة المخرج هشام قشطة الحديث عن القيادة في القاهرة، ودعونا نضيف المتلقي الغربي تحديدا خاصة لو عرفنا أن هشام ولد في الولايات المتحدة ونشا في القاهرة ثم عاد إلى بروكلين ليقضي فيها معظم حياته الشابة.
اجابة السؤال تتلخص في أن القيادة في القاهرة -قيادة اي مركبة بداية من العجلة وصولا إلى الأتوبيس- من وجهة نظر المتفرج الغربي او الزائر للمدينة هي فعلا حالة غريبة واستثنائية  حتى بين الدول العربية أو بتعبير اللواء المسئول عن مرور القاهرة في الفيلم هي نموذج”للفوضى المنظمة” وأن كان هذا التعبير يجمل الوضع كثيرا ويحاول أن يصفه بشكل مهذب وراق لأنها في حقيقة الأمر وكما يظهرها الفيلم”فوضى فاحشة أو فاضحة”.
وليس معنى أن عين المخرج عين غربية أنه نظر إلى الشوارع من وجهة نظر سياحية ولكن مثل هذه الموضوعات تحتاج بالفعل إلى عين أخرى غير عين المواطن أو حتى صانع الأفلام المحلي والذي اعتاد على تلك المشاهد الغريبة والغرائبية بالفعل التي تحدث كل يوم في شوارع العاصمة، اذن ليس من المستغرب أن يلفت نظر المخرج هذا الكم من العبث والسوريالية اثناء حركته في الشارع القاهري.
نلاحظ أنه حدد في عنوانه القيادة في القاهرة وليس في مصر على اعتبار أن القيادة في القاهرة تحديدا هي ما تحمل كل هذا العبث والجنون خاصة مع تلك الأحصائيات التي يسوقها المخرج في البداية والتي تبدو صادمة حتى للمتفرج المحلي الذي لا يعي الأرقام التي تخص مدينته المذدحمة حيث يكتب المخرج بهدوء وعلى أحد لقطات الشوارع المختنقة ان عدد سكان القاهرة  20 مليون انسان وعدد السيارات فيها هو 14 مليون سيارة.
يلقي هشام المعلومة دون أن يتورط على مستوى الكتابة أو اللقاءات في تحليل الأسباب وإنما يتفرغ للنتائج عبر الكاميرا في معظم الأحيان وفي غياب تام للتعليق الصوتي حتى لا يبدو ثمة راوي عليم أو وجهة نظر فوقيه تسير المتفرج بأتجاه فكري أو نفسي معين.
هنا يتحول المخرج إلى مجرد عين راصدة وأذن تسمع فقط وقليلا ما نسمع صوته القادم من خارج الكادر في عبرات قليلة او اسئلة خافتة بل يُفرغ نفسه تماما من الفيلم تاركا تتابع اللقطات واللقاءات يعرض بلا احكام أو راي قاطع.

قبل الربيع
يحدد المخرج زمن الرصد وهو القاهرة قبل الربيع العربي، ويحاول أن يبدو حياديا قدر الامكان في النظر إلى قضية أو ازمة غير حيادية على الأطلاق ازمة تجبرك على ان تتخذ موقف شعوري ضدها ولكن المخرج في تتابع اللقطات واختيار التعليقات من بين اللقاءات العديدة التي اجراها يختار الكوميديا السوداء لكي تخفف قليلا من سوداوية الواقع سواء البصري أو المحكي عبر الفيلم.
أنه لا يتعاطي مع مآساة القيادة في القاهرة بكل فوضويتها وحوشيتها من خلال نظرة تراجيدية خاصة على مستوى شريط الصوت، فيبدأ على سبيل المثال اولى مشاهده بموسيقى كلاسيكية على حركة عسكري المرور الاعجف الذي يحاول جاهدا ضبط ايقاع السيارات المتدفقة في جنون ولا منطق من كل الاتجاهات، وكأنه مايسترو مستحيل التحقق امام اوركسترا جحيمي من من الحركات والأيقاعات الفوضوية الانهائية.
ثم ينتقل تدريجيا ومع تتابع اللقطات الغرائبية مثل لقطات العائلات التي تجلس بالكامل على موتوسيكل صغير والاطفال الذين ينامون في احضان الامهات ساكنين فوق الدرجات البخارية الطائرة ليتحول الامر إلى التركيز على عبثية المشهد كله وتلون الموسيقى ذات الأيقاع الشرقي او الشعبي المشهد بتلك النظرة الكوميدية السوداء التي تخفف من قتامة النتائج  ومآساويتها.
ويتخذ هشام زاوية بصرية غاية في البساطة والعمق في نفس الوقت وهي الجلوس بالكاميرا داخل السيارات التي تجوب الشوارع ليل نهار سواء مع اصدقائه او مع شرائح من السائقين سو سائقي التاكسي أو الميكروباص او سائقي عربات الأسعاف بل ان الحظ يخدمه أو سحر الوثائقية كما نطلق عليه عندما يحظ ايضا بتعليقات من راكبي الدراجات البخارية اثناء سيرهم.

شرائح وطبقات
 يتمكن المخرج من اجراء تحليل اجتماعي لطبقات المجتمع المصري عبر لقائاته مع السائقين من مختلف الشرائح محاولا أن يرسم بعد اجتماعي ونفسي لكل منهم بناء على علاقاته بالسيارة والشارع والمرور.
يتوقف أمام سائق عربة الأسعاف الشاب الذي يريد أن يتزوج بينما ترفض الأسر مصاهراته لأنه يعمل سائقا، كذلك يتابع علاقة أحد رجال الأعمال الشباب بالمرور والشارع سواء عبر عمله وتسلمه للبضائع خارج القاهرة نتيجة قانون منع سير النقل او مع اسرته حيث تذهب زوجته يوميا إلى المدرسة مصطحبة اطفالها خوفا من الحوادث.
وفي الحقيقة فأن المقطع الخاص بذهاب زوجة رجل الأعمال/الام مع اطفالها من أكثر المقاطع المؤثرة في التجربة رغم أنه لم يستغرق وقتا كافيا حيث تبوح الام امام الكاميرا أن ذهابها كل يوم مع ابنها للمدرسة ليس سببه حراسته أو رعايته بل خوفا من أن يحدث له مكروه في الطريق/حادث سيارة تحديدا دون أن تدري هي شئ اي انها بالمعني المصري الشعبي(يا نعيش سوا يا نموت سوا) لأن وجودها في السيارة لن يمنع الحادث ولكنها على كل حال سوف تلقى مصيرها مع ابنها فتستريح من اي عذاب قد ينتج عنه فقدانه في حادث من تلك الحوادث الكثيرة التي اصبحت سمة الشارع القاهري وخاصة الطرق الدائرية.
يمكن أن نربط هذا المقطع بالمقطع الأخر الذي تحدث فيه المخرج مع ابنة احد الموظفين الأمريكيين الذي يعيش في القاهرة والذي فقد ابنته في حادث سير، لا ندري لماذا اختار المخرج تحديدا اسرة امريكية فقدت ابنتها في حادث سير بالقاهرة قد يبدو الامر مغرضا بعض الشئ لو نظرنا إليه بسطيحة ولكن نتصور أنه بحكم كونه من مخرجي المهجر ان صح التعبير من الطبيعي أن تكون صلاته بالعائلات الأجنبية اكثر من صلاته بالعائلات المصرية وهو تصور حسن النية يستند إلى أنه لم يتوقف كثيرا امام كون الفتاة امريكية بل تعامل على انها ضحية من ضحايا حوادث الطرق.
الربط هنا واضح بالطبع حتى ولو لم يكن مباشرا او متتاليا بين الأم التي تذهب مع طفلها إلى المدرسة خوفا من حوادث الطرق في شوارع فوضوية وبين الاب الذي قتلت ابنته بلا ذنب تحت اقدام عربة نقل طائشة.

فخ السياسة
في تتبعه لخطوط ترتبط بعلاقة المواطن بالدولة والشارع فيما يخص المرور يتوقف المخرج أمام مسألة الفساد والرشوة التي كانت منتشرة بكثرة في فترة ما قبل ثورة يناير حيث نرى فتاة تتعلم القيادة مع مدرب خاص ولكنها تستخرج الرخصة بالرشوة دون أن تجتاز اي اختبار بل وتعلن عن هذا امام الكاميرا دون خوف او خجل فهذا امر عادي وطبيعي في مصر –قبل الثورة وربما بعدها ايضا- وبسهولة يمكننا الربط عبر تتابع اللقطات بين مجاهرة الفتاة بحصولها على الرخصة عبر الرشوة وبين لقطات رشوة عساكر المرور بشكل خفي للتغاضي عن مخالفات السائقين او كسرهم الأشارات او مرورهم من المناطق الممنوعة.
نعود هنا للتأكيد على ان ما يروي يروى عبر الكاميرا وصوت المونتاج وليس عبر صوت المخرج أو تعليقه الخاص ونقصد بصوت المونتاج اي التتابع الذي يخلقه المونتاج كي يحكي لنا الموضوع ويشير إلى مناطق القوة والصراع في الأزمة التي امامنا.
 وهذا الربط الذي نقوم به ليس ربطا مباشرا او متتابع ولكن تلك المشاهد تبدو متفرقة خلال زمن السرد ونعيد نحن كتلقين فكها وتركيبها بما يعطينا دلالات واشارات تفيد تشكيل رؤيتنا عن الموضوع.
ولكن الازمة أنه عندما توفرت للمخرج فرصة أن يحضر الثورة وبالتالي يمر بمرحلة تحول سياسي واجتماعي هامة في الشارع المصري نجده يبتعد قليلا عن موضوعه ويستغرق بشكل ما في الحديث عن الثورة والتحرير وانتخابات الرئاسة صحيح أنه حاول أن يربط هذا ولو قليلا باوضاع المرور والشارع ولكن استغراقه على سبيل المثال في تقديم احد مؤتمرات عمرو موسى اثقل ايقاع الفيلم كثيرا حتى عندما ربطه بعنصر اتوبيس الحملة الرئاسية الذي دخل إلى الشارع بشكل عكسي واوقف المرور وكأنه يريد أن يقول أن تلك الوعود البراقة التي يطلقها المرشحين لن تصبح ذات جدوى إلا اذا نزلت إلى ارض الواقع وتحققت في الشارع وها هو اتوبيس حملة أحد اهم المرشحين وقتها يدخل بشكل عكسي ويتسبب في ازمة مرورية خانقة لمجرد أنه يريد اللحاق بالمؤتمر.
المبدأ جيد ولكن الأيقاع خانه إلى حد كبير وافقدنا التواصل مع الخط الرئيسي المرتبط بالقيادة والمرور, وقد حاول المخرج استعادته من خلال العودة إلى النماذج التي كانت تتعلم القيادة وتحاول استخراج الرخثة مثل ربة البيت التي رفضت أن تستخرج الرخصة بالرشوة وقررت أن تستمر في المحاولة رغم ان الاختبارات صعبة بالدرجة التي تشعرك أنه لا يمكن اجتيازها سوى بالرشوة وكأنه توجه عام وخفي في نفس الوقت بينما الفتاة التي استخرجت الرخصة بالرشوة اضطرت في النهاية ومع فداحة الشوارع بعد الثورة  وغياب الشرطة والمرور تماما ان تحضر سائقا كي تتمكن من الذهاب إلى العمل.
يصل الفيلم هنا إلى ذروة قراءته السياسية والاجتماعية للمجتمع المصري عبر فكرة القيادة في القاهرة ففي احد المشاهد قبل الثورة يقول رجل الأعمال الشاب الذي يعاني من القيادة في الشوارع عقب تعرضه لعربة نقل تسير بشكل عكسي ان هذا المجتمع اصبح على شفا الأنهيار او الانفجار وانه في غضون سنوات قليلة سوف يحدث شئ عظيم لان الامور لا يمكن أن تستمر هكذا حيث الفوضى والفساد وضياع القيم التي تتجلى في القيادة.
يمكن بأسلوب الفك والتركيب ان نربط هذا المشهد بمشاهد الشوارع واللقاءات التي حصل عليها المخرج بعد الثورة حيث لم يتغير شئ بل ذادت الأمور سوءا وهنا لا نتوقف امام الفكرة السطحية أن المخرج يحاول ان يقول أن الثورة لم تكن شيئا ولكن الأمر يبدو اعمق من ذلك فالمشكلة ليست فقط في الاوضاع السياسية والأجتماعية ولكنها في الانسان المصري نفسه في المواطن الذي يتحدث عن الحرية والكرامة ولكنه ينتهك كل شئ اثناء قيادته للسيارة على اعتبار ان مجرد مساحة خالية في الطريق امامه حق مكتسب حتى ولو على حساب القانون أو احقية الأخر او السلامة العامة.
المشكلة كما ذكرنا أن الكاتب تعثر قليلا في فخ الحديث السياسي المباشر رغم أنه كان يتحدث بالفعل عن ادق تفاصيل الواقع السياسي المصري ولكن عبر عنصر شديد التميز والقوة وهو قيادة السيارات- ولا ننس ان القاهرة هي عاصمة مصر وهي اختصار مكاني للدولة باكلمها-
في النهاية يعود الكاتب إلى مقطوعة كلاسيكية جديدة نسمعها على لقطات الشوارع المكتظة بفوضى جنونية ولكن هذه المرة بعد الربيع العربي وفي غياب المايسترو المستحيل/عسكري المرور.
هنا تغلق تلك المقطوعة الموسيقية الدائرة التي بدأت بمقطوعة مماثلة في أول الفيلم، كي تشعرنا بعبثية الواقع المصري وعديمته وان كل شئ لم يتغير حتى بعد حدث جلل كالثورة بل ان الصورة نقصت عنصرا كان يحاول ايجاد بعض الهرمونية والتوازن او هو جزء من تلك الفوضى الفاضحة.
ومن سحر الوثائقية على المخرج فيلمه وبدون تخطيط مسبق ينتهي على حادثة سير تقع بالفعل اثناء تصويره من داخل سيارة الفتاة التي احضرت سائقا بعد ان عجزت عن القيادة في القاهرة، حيث يعبر أحدهم الشارع مسرعا فترتطم به السيارة ويكاد يفقد حياته لتصبح تلك الحادثة اكبر دليل على تعاظم الخطر وسوء الحال وتردي الأوضاع بدرجة تبدو بلا نهاية فالمخرج لم يعدم طوال الوقت تصوير الكثير من المشاهد واللقطات الغريبة والشاذة والتي تعكس سلوك طبيعة وحال البلد من خلال القيادة وبما أن الوضع مآساوي فلم يعدم أيضا حادثة حقيقية يتعرض لها وتصبح خير ذروة لفيلمه وابرك من ألف نهاية مفتوحة أخرى على الشوارع او السيارات أو مستقبل المجتمع في ظل الثورة وحكم الاخوان وما تلاه.
بل ان المخرج يعتصر تلك الحادثة بأن يقدمها خلال التيترات كي تستمر حالة التوتر والانفعال التي نتجت عنها مستمرة مع المتلقي حتى وهو يغادر الفيلم وهي نقطة تحيب له كل لا يطمئن المتفرج في خروجه من الفيلم بل تستمر معه الأفكار والمشاهد والتعليقات نفسيا وذهنيا اطول وقت ممكن والقاعدة تقول طوبي للمخرجين الذين يملكون بث الاضطراب عبر تجاربهم في نفوس متلقيهم  لأطول وقت ممكن من زمن التلقي الحقيقي وهو ما بعد العرض وليس اثنائه.