ختام مهرجان برلين السينمائي الـ70.. ألق فني دون المستوى وحضور عربي

قيس قاسم

بإعلان نتائج مسابقاتها انتهت أيام الدورة الـ70 لمهرجان برلين السينمائي الدولي (20 فبراير/ شباط وحتى 1 مارس/آذار الجاري)، وبات الحديث يجري بصيغة الماضي القريب عن تفاصيلها واختيارات أقسامها للأفلام المشاركة فيها، أما الجوائز فقد فتحت بابا جديدا للنقاش بعد منح لجنة تحكيم المسابقة الدولية جائزة “الدب الذهبي” للفيلم الإيراني “لا يوجد إثم”، للمخرج الممنوع من السفر محمد رسولوف.

كعادته وتضامنا مع السينمائيين الممنوعين في بلادهم ولتعذّر وصولهم؛ يترك المهرجان كرسي صانعه شاغرا عند تقديم مخرجي الأفلام المشاركة في المسابقة أمام وسائل الإعلام وأثناء حفل توزيع الجوائز. حدث ذلك في الدورة التي عرض فيها فيلم المخرج الإيراني “جعفر بناهي” فيلمه “تاكسي”، ونال عليه جائزة “الدب الذهبي”، مما أثار نقاشا حول أسباب منحها له، هل هي سياسية أم فنية؟

هذه الدورة تشهد النقاش ذاته، ويبدو أنه سيستمر في كل مرة تتكرر فيها التجربة، وينسى بعض المنتقدين أن الجوائز في النهاية لا تُعبّر عن مستوى الفيلم الحقيقي، بل تعتمد عمليا على قرار يتخذه أعضاؤها، وغالبا ما يكون عددهم بعدد أصابع اليد الواحدة أو يزيد قليلا.

هذا لا يعني أنه ليس هناك اعتبارات سياسية وأمزجة شخصية تتحكم في الجوائز، غير أن جودة كل فيلم تتحقق فعليا خلال عروضه اللاحقة، وبعد أن يشاهده الجمهور والنُقّاد على شاشات العرض ويحكموا على مستواه، بعيدا عن لجان التحكيم وذائقة أعضائها ومواقفهم السياسية والشخصية.

 

“عالم لم نشهده من قبل”.. أفلام عربية قصيرة فائزة

إن الجدل حول معايير الجوائز مهما احتدّ لا يُلغي التوازن الموجود في أغلب جوائز مسابقات الدورة، وبالنسبة للمشاركات العربية فأفلامها القصيرة هي التي نالت بعض جوائزها، بينما لم ترتقِ البقية إلى مستويات جيدة باستثناء الوثائقي الجزائري “نرجس” للمخرج كريم عينوز. فهل يعود سبب ذلك إلى عدم تقديم أفلام عربية جيدة إلى المهرجان هذا العام، أم إلى استبعاد منظميه ما وصل إليهم منها؟

الأمر في الحالتين مدعاة للاستغراب ويؤشر إلى سلبية، فإذا كان العالم العربي لم ينتج أفلاما جيدة يقبل بها المهرجان، فهذا يُلزِم المعنيين بها طرح أسئلة حول واقعها وتشخيص نقاط ضعفها، وفي حال أن المهرجان قد رفض أعمالا جيدة واكتفى بالتجريبية منها، فلا بد من مناقشة توجهات “البرليناله” ودورها في تقديم الفيلم العربي.

الفيلمان العربيان القصيران الفائزان هما “كلاب” للمخرجة المغربية “حليمة الوردغي” الذي حصل على الجائزة الخاصة لقسم “جيل 14+”، وجاء في أسباب منحه الجائزة: “لقد قدّم لمحة عن عالم لم نشهده من قبل”. الفيلم يدخل إلى ملجأ في مدينة أغادير يؤوي مئات الكلاب السائبة في انتظار مَنْ يأتي لأخذها ورعايتها.

كما حصل فيلم “الصغيرة” للمخرجة الجزائرية “أميرة جيهان خلف الله” بتنويه خاص من لجنة مسابقة قسم “جيل ك. بلَس”. حيث يتناول الفيلم تاريخا مسكوتا عنه يتعلق بالتجارب النووية التي قام بها الاحتلال الفرنسي فوق الأراضي الجزائرية، وما خلفته من آثار تدميرية على الطبيعة والبشر.

 

“امرأة هاربة”.. تنويعات المشهد السينمائي العالمي

تشير بقية جوائز المهرجان إلى تنويع في المشهد السينمائي، مع ملاحظة طغيان الجانب السياسي، حيث تجلي مراجعة الأعمال الحاصلة على جوائز “الدب الفضي” تلك الحقيقة، فقد حصل صاحب “امرأة هاربة” الكوري الجنوبي “هونغ سانغ سو” على جائزة أفضل مخرج، وهو يستحقها دون شكّ لخصوصية أسلوبه المعتمد على نقل القصص البسيطة اليومية على الشاشة، ومن داخلها يُحاول تعميق نظرته إليها وتحليل دواخلها دون استعانة بمؤثرات تقنية كالموسيقى، أو إضافة أبعاد دراماتيكية عليها.

أسلوب قادر على خلق الفعل السينمائي المبهر من حكاية عادية، وهذا لا يمكن القيام به إلا المخرجين الكبار، والكوري سانغ سو من بينهم.

الإيطالي أليو جيرمانو الذي نال جائزة أفضل ممثل عن دوره في فيلم “مُخبأ بعيدا”

 

جائزة أفضل ممثل وممثلة

جائزة أفضل ممثل يستحقها حقا الإيطالي “أليو جيرمانو” عن دوره في فيلم “مُخبأ بعيدا”، الذي يُجسّد فيه شخصية الرسام والفنان الفطري “توني ليغاوبي”.

يلقي الفيلم الضوء على حقبة من تاريخ إيطاليا وبقية أوروبا التي ساد فيها العنف، وتعامل الناس فيها مع الأشخاص المختلفين كشواذ ينبغي التخلص منهم، وفي تلك المرحلة التي تزامنت مع صعود النازية؛ ظهر الفنان الفطري وعانى فيها الكثير منذ طفولته حتى سنوات شبابه، ولم تتغيّر إلا بفضل أشخاص تعاملوا معه ككائن سوي، مما ساعد على عودته ثانية إلى الحياة بعد فترة كاد أن يتحول فيها إلى مسخ بشري. يمزج الفيلم بين السيرة الذاتية وبين السياسة بأسلوب سردي ديناميكي يضعه بين أهم أفلام الدورة السبعين.

الأمر نفسه ينطبق على جائزة أفضل ممثلة التي حصلت عليها “باولا بير” عن دورها في فيلم “أوندين”، حيث تتداخل فيه الواقعية مع الخيال ويصعب الفصل بينهما، وقد جاءت جمالياته نابعة من قوة المتخيل فيه، بينما يكتفي سطحه لتقديمه كميلودراما عن الحب والخيانة، على عكس دواخله المليئة بالتعقيدات النفسية والروحية.

لقطة من فيلم “امرأة هاربة” للمخرج الكوري هونغ سانغ سو الذي نال جائزة الإخراج

 

“داو ناتاشا”.. تراجيديا روسية تنال جائزة أفضل إسهام

أما الفيلم الأوكراني “داو ناتاشا” الحاصل على جائزة أفضل إسهام فني فتتجسد فيه السياسة بأعلى درجاتها. إنه فيلم مهم تنقلب مسيرته الدرامية فجأة من حكاية تدور حول امرأة وابنتها تديران مطعما أغلب زبائنه من علماء ذَرة يعملون في مؤسسة سرية بالقرب منه؛ إلى تراجيديا سياسية تفضح القمع الذي كان يُمارس ضد المواطنين الروس أثناء فترة الحكم الشيوعي.

يمكن وصفه بـ”فيلم مرعب” عن انتهاك حقوق الإنسان والتعامل مع المواطنين كأرقام لا أكثر، حيث تستطيع السلطة في أي لحظة تريد أن تحولهم إلى آلات تُدار لخدمتها بفعل التهديد والتعذيب.

لقطة من فيلم “مشع” للمخرج الكمبودي ريتي بان الذي نال جائزة أفضل وثائقي في مهرجان برلين

 

ضعف يطغى على دورة العام.. محاولة باهتة لاستعادة الألق

السؤال الذي طالما تردد خلال أيام المسابقة كان جوهره كالتالي: هل مستوى المسابقة الدولية هذا العام أقل من سابقاتها؟ يصعب الجواب بنعم، لكن الدورة بمجملها لم ترتقِ إلى مستوى الدورة المنفرطة.

لم يظهر ذلك في نوعية أفلام المسابقة الرسمية فحسب، بل من خلال سوء تنظيم وتوزيع الأفلام على أقسامه، حيث بان الخلل في البرمجة التي داخلت أفلاما تنتمي لجغرافيات محددة مثل العربية، حيث برمج القائمون على المسابقة عرض فيلمين منها في نفس الوقت تقريبا، وتجلّى أيضا في قلّة الأوقات المتاحة للصحفيين والنُقّاد لمشاهد العروض.

كما ظهر الضعف في مسابقة “البانوراما” التي فاز بجائزة جمهورها الفيلم الصربي “أب”، مما أوحى لزوّارها بوجود ضعف عام شمل الدورة كلها. لكن في المحصلة النهائية لم تكن الدورة الـ70 فقيرة، ولأنها تُدار بطاقم جديد فإن منحهم مزيدا من الوقت واجبة، في انتظار أن يتحسن أداؤهم خلال الأعوام القادمة، ويعود ألق المهرجان إلى ما كان عليه.

 

“لا يوجد إثم”.. أهم جوائز الدورة

نال جائزة “الدب الذهبي” (أفضل فيلم) فيلم “لا يوجد إثم” للإيراني محمد رسولوف، أما جائزة “الدب الفضي” (جائزة لجنة التحكيم الكبرى) فنالها الفيلم الأمريكي “ليس نادرا بل أحيانا دائما” للمخرجة “أليزا هيتمان”. في حين حصد جائزة “الدب الفضي لأفضل إخراج” الكوري “هونغ سانغ سو” عن فيلمه “امرأة هاربة”، وأُعطيت جائزة “الدب الفضي” لفيلم “سيرة محذوفة”، كما نال “الدب الفضي لأفضل سيناريو” فيلم “حكايات سيئة”.

أما فيما يخص التمثيل فحصلت “باولا بير” على جائزة “الدب الفضي لأفضل ممثلة” عن دورها في فيلم “أوندين”، في حين نال جائزة “الدب الفضي لأفضل ممثل” الإيطالي أليو جيرمانو عن فيلم “مُخبأ بعيدا”.

ونال جائزة أفضل إسهام فني الأوكراني “داو ناتاشا”، في حين حصل على جائزة أحسن فيلم وثائقي فيلم “مشع” من إخراج الكمبودي “ريتي بان”. ونال جائزة أفضل فيلم قصير (الدب الذهبي) فيلم “تي” للمخرجة “كيشا راي فيترسبون”. أما جائزة مسابقة قسم “بانوراما” لأفضل فيلم روائي فذهبت للصربي “الأب”، ونال جائزة أفضل وثائقي “مرحبا بكم في الشيشان”. أما جائزة القسم الجديد في المهرجان “لقاءات” فذهبت لـ”أعمال وأيام” من إخراج “سي. دبليو. وينتر” و”أنديش أيدستروم”.