زبيدة الايرانية للنجوم وعداءات إثيوبيا لخط النهاية

قيس قاسم

تستند المقاربة النقدية  بين الفيلمين الوثائقيين “زبيدة .. الوصول الى النجوم” و”قرية العدائين” إلى طبيعة الموضوع  المشترك الذي تناولاه والذي يخص أحلام  وطموحات الشابات والمراهقات في إيران وإثيوبيا، والتحديات التي تواجهن من أجل بلوغها في ظل ظروف اجتماعية واقتصادية قاسية يتقاسمها البلدان رغم اختلاف ثقافتيهما، والجامع الإضافي بينهما أن أصحاب الرؤية الإخراجية للموضوع أجانب ومن خارج البلدين، جاءا للإحاطة بعوالم غريبة عنهما، لكنها بالنسبة إليهما مثيرة للفضول وحب المعرفة وهما الشرطان الضمنيان لإنجاح أي منجز وثائقي طموح، هذا عدا ابتعاد الوثائقيين عن السياسة بمسافة،  ما أعطاهما اختلافاً عن أفلام أخرى ألَحت على معالجة القضايا الإشكالية، وأحياناً بدوافع سياسية ومواقف مسبقة من بلد معين أو منطقة لها خصائص دينية وثقافية هي موضع خلاف وجدل على مستويات كثيرة، ما يُضيّع عليهم فرص التقاط قصص إنسانية بسيطة ومثيرة للتأمل في مشتركاتها الإنسانية، كما في الفيلمين اللذين امتازا بجوانب مثيرة بل حتى غرائبية كالموضوع الذي عالجه المخرج الإنجليزي جيري روثوويل في فيلمه “قرية العدائين” وتناول فيه ظاهرة الهيمنة شبه المطلقة لدول إفريقية معينة على سباقات ركض المسافات الطويلة، بل الأكثر مدعاة للحيرة أن أغلب المتسابقين يأتون من قرى نائية بعينها ما يثير أسئلة تحفز للذهاب اليها والإلمام بتفاصيلها.

جيري روثوويل

وبمقدار مقارب يتجلى الفضول السينمائي في عمل الدنماركية بيريت مادسن التي توجهت إلى إيران لتسجل وخلال أربع سنوات تجربة الشابة الإيرانية زبيدة وحبها لعلم الفلك وطموحها غير المفهوم في الوسط الاجتماعي الفلاحي الذي تعيش فيه، في أن تصبح رائدة فضاء مستقبلاً.

بلوغ النجوم.. حلم زبيدة
في قرية سدات شهر، الواقعة في إقليم فارس جنوب إيران، تعيش صبية في سن السابعة عشر حلماً، تكرس جُل وقتها وجهدها من أجل تحقيقه: أن تصبح رائدة فضاء. في الليل وفيما البشر يخلدون للنوم تبقى الصبية يقظة تراقب بتلسكوبها الصغير النجوم والمجرات وتعيش في عزلة عن عالمها الأرضي متوحدة مع فضاء شائع، غامض تناجي كواكبه ونجومه بكلماتها البسيطة وتجد في مشاركتها عوالمه السرمدية متعة تحقيق الذات والابتعاد عن هموم الأرض ومشاكلها. كانت المراقبة تعني المشاركة في حياة آخرى، غير حياتها، وهذا ما كان يثير حفيظة أقاربها ويزيد من قلق والدتها عليها، لكنها ومع كل هذه الأجواء الحذرة تمضي في طريقها كل يوم نحو التلة تراقب ما يجري في ذلك العالم المترامي الأبعاد والهائل السعة.
لم تكن الضغوط الاجتماعية وحدها ما يحزن الصبية الإيرانية فالحياة نفسها قست عليها حين تركها والدها إلى عالم الأبدية مبكراً. عاشت اليُتم وظلت تتذكر أيام طفولتها السعيدة مع والدها الذي كان يحب علم الفلك ويسميه مثل بقية الإيرانيين “تنجيم” نسبة إلى النجوم ومراقبتها وليس للشعوذة وما شابهها. لقد قطعت مع نفسها عهداً على أن تصبح عالمة فلك ليفخر والدها بها وهو في قبره. لكن كيف لها أن تحقق وعداً وكل ما يحيط بها يحبطه؟ ليس هناك من وسيلة سوى الكتابة الى أينشتاين! عالم الفيزياء الشهير. كانت زبيدة تكتب رسائل إليه كلما تذكرت والدها أو مرت بظرف صعب. كان بالنسبة لها صديقاً افتراضياً، وإليه كانت تشي بأسرارها. كلماتها كانت شعراً وجدانياً من قلب محبة للعلم والفلك إلى عالم فيزياء غير وجه الأرض بنظريته الخاصة: النسبية. في اللحظات التي كانت تنشغل فيها بالكتابة كانت المخرجة الدنماركية تنشغل في تقريب ذلك العالم السرمدي إلينا عبر تصويرها المدهش للمجرات والكواكب وحركتها، ليصبح أمامنا عالمان: عالم تجسده الكاميرا وآخر تسجله زبيدة، وخلالهما نعيش تجربة نادرة وغير مألوفة لشابة صغيرة من قرية فلاحية بسيطة سكنها حلم أن تصبح فلكية ورائدة فضاء في بيت لم يكن بمستطاعه تأمين قوته اليومي بيُسر، فكيف بالمستقبل وشروطه العسيرة حين يتعلق بتوصيل شابة من جنوب إيران لتدرس في جامعات طهران.

على أطراف الحكاية ثمة شخصيات ومساحات إضافية تستثمرها الدنماركية لتوسيع المشهد الدرامي الذي تتحرك وسطه زينب، منها على سبيل المثال خالها الذي كانت والدتها تستعين به على صعوبة أيامها وفي الضغط على ابنتها للجم طموحاتها وحركتها الدائبة نحو عالمها فوق التلة. لم يتردد الخال وهو يلعب دور الوالد بتهديدها بالقتل إذا ما استمرت في حضور دروس معلم القرية “أكبري” صاحب مشروع بناء المرصد الفلكي في منطقتهم، والذي كان يرتب من خلال جمعيته التطوعية لمحبي الفلك برامج خاصة لمراقبة النجوم يحضرها طلابه وطالباته. ليس هناك أفضل ذريعة لأقربائها لقتل موهبتها من التذرع بخطورة مخالطتها الشباب كي يخفوا عبره خشيتهم من ولعها بأمر لا يجدونه نافعاً، بخاصة وأن الأرض التي تركها والدها لهم قد أهملت وليس هناك من شخص موجود بعده يرعاها، سيما وأن الأم تجهل العمل الفلاحي والبنت منشغلة بالدراسة والفلك. حالة كانت تضغط كثيراً على الشابة التي قبلت بالزواج كحل من شاب اقتنعت به كان يحضر معها جلسات مراقبة النجوم. زواجها مثل انعطافاً حاداً أجبر الوثائقي على التحرك وسط مساحات متفرقة في محاولة من مخرجته، الإمساك بخيطه الدرامي وبزبيدة حتى لا تخسرهما وتخسر معهما فيلمها. مثل المصائر العجيبة في الحكايات، يخطر على بال زبيدة الاتصال بعالمة الفضاء الأمريكية الإيرانية الأصل أنوشه أنصاري وتطلب منها مساعدتها، وبعد أيام تعود الأخيرة لترد عليها وتعدها خيراً. انتعشت آمالها وعاد الوثائقي ليرافق ويكمل رحلتها العجيبة بين الأرض والسماء. دون شك ثمة ثنائية طاغية في حكاية البطلة تتجسد في توزعها بين عالميّن: الأرض والسماء، الطموح والواقع القاسي، الأمل والإحباط وبين التطلع إلى المستقبل وصراعها مع قوى تحاول سحبها نحو الخلف! بعد مكالمتها صارت كل تلك الثنائيات أكثر وضوحاً وتشجعياً للدنماركية على مواصلة ملتابعتها للأطراف المحيطة بها وأكثرهم غموضاً الجهات الرسمية وموقفها من مشروع بناء المرصد الذي بدأه المعلم أكبري؟ لم تتحمس الدولة لأحلامها ولا لمشروع معلمها وقد اتضح هذا حين جاءهم الرد دون التباس: لن ندعم مرصداً لا نتحكم نحن بإدارته!. والمعلم يعرف ما معنى هذا الكلام وبالنسبة لزبيدة سيدفعها بدوره إلى مواصلة تعليمها والذهاب إلى التلة برفقة تلسكوبها وسيليتها الوحيدة  للتواصل مع عوالم رحبة، عبرها يمكنها تحقيق وعدها الذي قطعته لوالدها. في مفاجأة ثانية تعلن رائدة الفضاء أنوشه عن استعدادها لدفع ثمن دراسة زبيدة وملازمتها كمساعدة لها حتى تحقيق حلمها في الوصول إلى النجوم بدون انتظار مساعدة الدولة الإيرانية.

حكاية الوثائقي مثل حكايات قبل النوم لكنها أشد واقعية وتحفيزاً للسؤال عن الكم الهائل المهدور من الطموحات في بلدان لا تراعي مواهب شبابها، وتتركهم للقدر ليرسم وحده مستقبلهم، مثل شباب قرية “بيكوجي” الإثيوبية التي خرجت منها أعظم متسابقات الركض للمسافات الطويلة في العالم ولم تقدم لهن الدولة إلا الشيء القليل والقليل جداً كما شاهدناه في الوثائقي الممتع “قرية العدائين”.

عداءات عالميات.. من قرية منسية
من تلك القرية البعيدة عن العاصمة أديس أبابا خرجت متسابقات عالميات في الركض للمسافات الطويلة ما استرعى انتباه المخرج جيري روثوويل لزيارتها وتصوير ��فاصيل الحياة فيها ليتعرف من خلالها على الظاهرة التي عبر عنه المشهد التمهيدي وفيه يظهر فتيان القرية وقد تجمعوا أمام التلفاز في مقهى شعبي بسيط عام 2008 ليتابعوا فيه سباقات الألعاب الأولمبية في الصين وبقلق شديد ينتظرون اللحظات الأخيرة من سباق 10000 متر حيث ابنة قريتهم تيرونيش ديبابا على بعد أمتار قليلة من تحقيق إعجاز رياضي تاريخي تسجل فيه بطلة واحدة رقمين عالميين في سباقي 5000 و10000 متر. وجد روثويل أمامه صبيتين هما: هاوي مكرسا (سنة14) وصديقتها الأقرب آلمي سيغاي (15سنة) المحبتان للركض والحالمتان في أن تصبحا بطلتين مثل الكثير من بنات القرية اللواتي عرض الوثائقي موجزا عنهن وولَّد شعوراً عندنا وكأن كل  العداءات في العالم جئن من هذة القرية المنسية. في القرية ثمة طفل صغير يقف في دكان جد بسيط لبيع السكاكر وبعض الحاجيات، تطوع بنفسه ليحكي حكاية الشابتين بصوته وتعليقه الطفولي والفكه. حتى لا ننسى لا بد من القول إن أسلوب الفيلم مرح وفكاهي مع ما فيه من حزن شفيف لم يعكر أبداً صفو الجو المريح الذي رسمه الوثائقي لنفسه وحققته له عفوية الفتيات وصدق تعبيرهن أمام كاميرته.

يسرد الصبي كل الأحداث التي تقع أمام حانوته الخشبي، ومنها تدريبات المعلم سنتايهو إثباتو لشباب القرية، والذي تخرج من تحت يديه كل أبطال المنطقة تقريباً. تفيق القرية كلها فجراً ويجري شبابها ركضا.لا تسمع فيها إلا صوت المدرب وتعليماته وتعليقاته المقتضبة “هذا المشهد العادي في القرية، بالنسبة للناس الآخرين ربما يعتبرونه جنوناً”. هو الهوس بالركض وتحقيق الحلم في أن يصبح كل واحد منهم بطلاً عالمياً. أولى الحقائق التي يكتشفها الوثائقي أن التدريب القاسي والمواظبة ما هي إلا محاولة للتخلص من الفقر والحصول على العمل. فبالنسبة لسكان القرية ممارسة رياضة الركض ما هي إلا مشروع عمل، يأملون منها في توفير حياة أفضل لهم، تشجعهم عليها تجارب الأبطال الذين خرجوا منها وعادوا إليها متمكنين مادياً. طبيعة القرية التي تقع وسط الغابة وتحيطها المرتفعات مكنت الناس فيها من التمتع بقدرة على الجري والتحمل وكان هذا ما يراهن عليه المدرب الذي يعودليه الفضل الكبير في تخريج عدائين أكفاء. يلاحق الوثائقي حياة الصبيتين ومراحل تطور مهارتهن خلال سنوات ظل فيها فريق العمل يصور لسنوات داخل القرية ويرافقهن في سباقاتهن في العاصمة أو في مدن ثانية. التحول الشديد الذي يمثل مرحلة انتقال في حياة الصبيتين تمثل في قبولهن في ناديين تكلفا بإعدادهن كمحترفات. لقد فصلت الحياة الصديقتين وعاشت كل واحدة منهن تجربتها الخاصة. هاوي لم يحالفها الحظ لأنها وقعت في ناد لم يقدم لها شيئاً لأنه لا يتوفر على شروط الأندية المحترفة فمرضت فيه وتراجع مستواها كثيراً. أما صديقتها آلمي فحظها كان أوفر وظلت تتابع تدريباتها في ناديها الجديد البعيد عن القرية كثيراً. علاقة القرية مع الدولة تتضح من خلال الصبيتين. فكل مرحلة من عمرهن كانت تظهر مؤسساتها كعائق أمام نمو مواهبهن وكانت تبرز على طول الخط تحيزات وغش يمارسه المسؤولون. الأسباب هذه نفسها ستدفع هاوي لترك النادي والعودة إلى القرية الفقيرة وبدء التدريب مع مدربها القديم.
 الحياة في القرية تصنع بؤساً وأملاً في آن، ما يضفي عليها التباساً، فهي من جهة تنجب أبطالاً يرفعون اسم بلادهم عاليا ومن جهة يتعذب الفقراء فيها من أجل تأمين قوتهم اليومي. مفارقة قدمها الوثائقي بكل تفاصيلها وتركنا نتابع عبرها عالماً إفريقياً مختلفاً، البطولة فيه ممزوجة بالعذاب وكأنه القدر هو من  جعل من بيكوجي قرية أسطورية بامتياز.