فيلم “قتل بن لادن”: مفكك، وتبريري وضعيف سينمائيا!

أمير العمري

دعاية هائلة صاحبت إنت��ج وتصوير وعرض الفيلم الأمريكي “ثلاثون دقيقة بعد منتصف الليل” Zero, Dark, Thirty وهي ترجمة أجدها أكثر قربا من عنوان الفيلم المتحذلق  باللغة الإنجليزية فسوف يصبح إسم الفيلم بلا معنى إذا ما ترجمناه حرفيا، كما يفعل البعض خطأ، فالمقصود بالعنوان- حسب التعبيرات العسكرية الأمريكية- “في أي وقت بعد منتصف الليل بنصف ساعة” ولكن خلال الظلام أي قبل أن ينبلج الفجر. وعموما أجد العنوان غير موفق على الإطلاق، وهذا هو الانطباع الأولي عن الفيلم. ولذلك فضلت دائما الإشارة إليه لتقريبه من القاريء العربي باعتباره فيلم “قتل بن لادن”.

الدعاية صورت الفيلم أنه إحدى تلك المعجزات السينمائية التي تخرج من هوليوود بين حين وآخر، خاصة على يدي تلك المخرجة الموهوبة بلاشك – كاثرين بيجلو- التي سبق أن أثبتت جدارتها في أن تسند إليها هوليوود مهمة إخراج أفلام من النوع الذي يتوجه للجماهير، وليس من أفلام النخبة، رغم أنها في الحقيقة لا تسند الأدوار الرئيسية في أفلامها عادة – كما هو الحال هنا – إلى أسماء لنجوم كبار في عالم التمثيل السينمائي، بل معظم ممثلي أفلامها من الصف الثاني والثالث.

وكان الفيلم السابق لكاثرين وهو يحمل أيضا عنوانا صعبا وسخيفا هو “خزانة الألم” – ترجمة العنوان بالإنجليزية وهو The Hurt Locker وكثير من الأمريكيين أنفسهم ربما لا يعرفون معنى كلمة “لوكر” في هذا السياق، بل يقتضي الأمر أيضا الكثير من الشروح لأن المقصود هو تلك الخوذة الخاصة والبذلة التي يرتديها جنود نزع الالغام والقنابل في العسكرية الأمريكية. ويبدو أن مؤلف الفيلمين أي كاتب السيناريو مارك بويل، مغرم بهذا اللعب باستخدام المصطلحات العسكرية، وتشاركه في هذه النزوة بيجلو، ولعل هذا أيضا يلقي بعض الضوء مبدئيا على عقلية القائمين على هذا الفيلم، فالاحتفاء بالنزعة العسكرية الأمريكية يبدو جليا عندهما كما رأينا في الفيلم السابق المشار إليه، الذي “أنسن” الغزو الأمريكي للعراق وقدم طبعة محسنة له، كما سنرى في الفيلم الجديد.

اتهامات
هذا الفيلم أثار الكثير من اهتمام الرأي العام منذ ما قبل تصويره، حينما اتهم صناعه بأنهم قرروا استخدامه لخدمة الحملة الدعائية الأمريكية للرئيس أوباما، مما اضطرهم إلى تغيير مواعيد عروضه الأمريكية وتأجيلها إلى يناير 2013 بعد أن كان مقررا لها أكتوبر 2012 أي قبيل الانتخابات الرئاسية الأمريكية.

ثم اتهم أعضاء بارزون في الحزب الجمهوري مؤلف الفيلم ومخرجته، بالحصول على الكثير من وثائق المخابرات المركزية، واتهموا جهاز المخابرات بتسريب معلومات ووثائق تعتبر “شديدة السرية” إلى مؤلف الفيلم ومخرجته، وهي وثائق تتعلق بعملية تعقب زعيم تنظيم القاعدة، أسامة بن لادن، لسنوات طويلة ثم تفاصيل عملية قتله في منزل محصن في باكستان في 2 مايو 2011.

وفي إطار الاهتمام غير العادي بالفيلم فقد رشح لأربع من جوائز الجولدن جلوب (الكرة الذهبية) ثم خمس من جوائز الأوسكار منها أحسن فيلم وأحسن ممثلة وأحسن سيناريو.

مشاكل السيناريو
ومما يدعو إلى العجب أن سيناريو الفيلم هو أضعف ما فيه. هذا سيناريو لا يلقي أي ضوء على الجانب الأهم في الفيلم الذي كان الجمهور يرغب في رؤيته ولو بشكل مختصر وموجز، الطرف الآخر، أي أسامة بن لادن نفسه، كيف كان يعيش، ما الذي كان رفاقه على الأقل يقومون به، الشرائط التي كانت تهرب وتبث باسمه، طبيعة الحياة بشكل ما، داخل المجمع الحصين في باكستان الذي كان يعيش فيه مع زوجاته وأطفاله. بطبيعة الحال ليس من الممكن محاسبة صناع الفيلم على ما لم يصوروه، وربما كان هذا متعمدا لأن صناع الفيلم أرادوا تقديم ما حدث على الصعيد الأمريكي فقط، ولكننا نشير إلى نقطة تتعلق بغياب التوازن في الفيلم  حتى أنه يخلو من صورة لبن لادن مما يجعلنا نتشكك عند نهايته في أن يكون من قتله الأمريكيون هو بن لادن حقا، وهي نظرية هناك من يروج لها حتى داخل الولايات المتحدة!

يتعين علينا إذن أن نحاسب الفيلم من داخله، أي على ما جاء به فعلا، وهنا يمكن القول إن السياق القصصي للفيلم يبدو كما لو كان معتمدا بالفعل، على وقائع ويوميات عدد من ضباط وكالة الاستخبارات الأمريكية (سي آي إيه) طيلة أكثر من عقد من الزمان. ويتجه السرد أحيانا ناحية الطابع التسجيلي المصحوب ببعض التوابل المثيرة (انفجار فندق ماريوت في إسلام أباد مثلا، التفجير الانتحاري في قاعدة شابمان العسكرية الأمريكية في أفغانستان، الذي راح ضحيته ستة من ضباط المخابرات الأمريكية).

 وينتقل الفيلم طوال الوقت من مكان إلى آخر، ما بين واشنطن وباكستان وأفغانستان وأماكن متعددة ومدن مختلفة ومعسكرات وقواعد عسكرية متعددة في الدولتين الحليفتين للولايات المتحدة، ويصور تطور عملية الحصول على المعلومات عن شخص يعتقد أنه حامل رسائل بن لادن الذي كان ينقل رسائله إلى أعوانه في الخارج، إلى حين القيام بعملية اقتحام المجمع السكني في أبوت اباد على مسافة 150 كم من العاصمة الباكستانية إسلام اباد، وكيف تحطمت إحدى طائرتي الهليكوبتر اللتين كانتا تنقلان جنود الوحدة الخاصة التي ستقوم بالاقتحام، ثم عملية قتل بن لادن داخل المنزل وما اعتراها من عقبات (ولا ندري لماذا لم يقبضون عليه حيا رغم أن هذا – كما نرى- كان ممكنا، فلم تكن هناك أي مقاومة حقيقية هناك!!).

ما أريد قوله أن سياق الفيلم تقليدي الذي يتمثل في الانتقال من مكان إلى آخر، والانتقال في الزمن من عام إلى عام آخر، وتصوير المشاجرات وتبادل الصياح والسباب بين الضباط والمسؤولين الأمريكيين على بعضهم البعض وعلى مستوى رئيس السي آي إيه ورئيس مكتب الأمن القومي..إلخ) يشبه ما تعرضه عادة المسلسلات التليفزيونية الأمريكية البوليسية الشائعة التي لا ابتكار فيها ولا خيال ولا تضيف جديدا، لا على مستوى السرد وطريقة تجسيد الأحداث وابتكار ما يثري الحبكة التي نعرفها جميعا مسبقا، ولا على مستوى تعميق الحس الإنساني لدى الشخصيات، فمعظمها شخصيات “كلبية” سواء من الأمريكيين أو من “الأجانب” الذين يتعاونون معهم!

تبرير التعذيب
ولعل من أكثر الجوانب صدمة في هذا الفيلم هو الجانب التبريري الفاضح والفادح للتعذيب، بل إن النصف الأول من الفيلم كله يبدو وكأنه يتعمد أن يقنع المشاهدين بأنه لولا التعذيب الوحشي بشتى الوسائل البشعة بما فيها الإغراق بالماء وغيرها، لما اعترف أعضاء “القاعدة” وقدموا ما أفاد الأمريكيين وساعدهم في القضاء على أكبر عدو للولايات المتحدة.

في الفيلم يقول ضابط المخابرات الأمريكي “دان” لزميلته “مايا” إنه سيكون هناك تغيير في السياسات أي أن الإدارة الأمريكية الجديدة (بعد انتخاب أوباما) لن تسمح بممارسة التعذيب، وينصحها أن تنتبه جيدا إلى هذه النقطة، يقصد لأن من الممكن أن يقدم ضباط المخابرات الذين يمارسونه للمحاكمة، بل ويفضل هو نفسه الانتقال للعمل في واشنطن تاركا عمله في استجواب وتعقب “الإرهاب” في باكستان وأفغانستان وقيامه- بوجه خاص- بالتعذيب المنهجي بكل قسوة- كما نرى بالفعل- للأسرى ممن يشك في انتمائهم لتنظيم القاعدة!

التبرير واضح في تسلسل أحداث الفيلم، كما أن “مايا” التي تبدو كما لو كانت “عصفورة الفيلم” تتبناه أيضا في مرحلة لاحقة رغم ما كان يبدو على وجهها من نفور في البداية وهي تشاهد ممارسات زميلها ومغالاته أحيانا في تعذيب ضحاياه.

شخصيا وعلى مستوى “الصنعة” السينمائية، لم أجد فيلم “ثلاثون دقيقة بعد منتصف لليل” عملا مثيرا جذابا، يشدنا إليه طيلة ما يقرب من ثلاث ساعات، بل وجدت في الكثير من الأحيان، نوعا من الإطالة والإسهاب والاستطرادات والإغراق في التفاصيل الدقيقة والخناقات التي لا معنى لها والمواجهات الحادة بين العاملين في الأجهزة الأمريكية في ردهات مباني المخابرات في لانجلي بولاية فيرجينيا، وكان من الممكن جدا ضبط إيقاع الفيلم بشكل أفضل، إذا أراد صانعو الفيلم، أن يصبح الفيلم أكثر إتقانا وتماسكا، خاصة وأن هذه المشاهد لم تضف جديدا لا من الناحية الإنسانية، ولا من الناحية السياسية، على مسار الأحداث.

وقد وجدت أيضا أن العثور على هذا النحو الساذج، على شخصية مراسلة بن لادن وهو يقود سيارته في السوق بينما يتحدث عبر هاتفه المحمول، مشهدا ساذجا حتى لو كانت هذه هي الحقيقة التي حدثت في الواقع، كما وجدت استحالة في أن يتجه هو بعد ذلك بمنتهى البساطة إلى حيث يقيم بن لادن في حين يقف أحد عملاء المخابرات الأمريكية وحيدا منفردا، على مقربة من المنزل المحصن، يراقبه عن كثب دون أن ينتبه!

ضعف الصورة
ولعل من أسوأ النقاط الفنية في الفيلم تلك المشاهد التي تملأ النصف ساعة الأخيرة من الفيلم، التي تصور مشاهد اقتحام منزل بن لادن وقتل البعض من سكانه وعلى رأسهم بن لادن نفسه، وما يحدثه الاقتحام من جلبة وفوضى وسط صراخ الأطفال والنساء.

عيب هذه المشاهد أنها مصورة في الظلام الدامس. وهو أمر  مفهوم في إطار الرغبة “الثابتة” دائما عند معظم السينمائيين في “محاكاة الواقع” غير أن محاكاة الواقع في السينما، لا تعني ألا أرى أنا الصورة كمشاهد إلا بصعوبة شديدة، أو أن تصبح المشاهدة مرهقة للعين البشرية، وتصبح الرؤية مشوشة، مشوهة تجعلك لا تعرف في الكثير من الأحيان، ماذا يحدث بالضبط، ومن هذا أو ذاك، وما يفعله هنا، وفي أي مكان من المنزل يحدث ما يحدث، وغير ذلك. نعم يجب أن يؤكد المخرج والمصور على الطبيعة الليلية للمشاهد، لكننا في نهاية الأمر، في حاجة إلى رؤية صورة ذات طبيعة فنية، باستخدام نوع من الإضاءة المناسبة، وليس مجرد التطلع ومحاولة فك شفرات حبيبات متناثرة مرهقة للعين، وهو ما كان الفيلم كصورة، يرتد إليه لأن المصور مضطر لتصوير الجنود وما يفعلونه من وجهة نظر محايدة، ولم نكن نشعر بنوع من الراحة البصرية إلا عند تصوير الحدث من وجهة نظر الجنود المقتحمين أنفسهم أي من خلال مناظير الرؤية الليلية التي تعمل بالأشعة تحت الحمراء التي يستخدمونها.
كانوا هم يرون وكنا نحن نعاني من أجل رؤية ما لم يسمح لنا به صناع الفيلم!

لا أعتقد أيضا أن أداء جيسيكا تشاستان لدور “مايا” يتميز بحضور خاص رغم جودته، مما لا يبرر كل هذه الترشيحات لنيل جوائز التمثيل الأولى، أو التهليل الصحفي لأدائها التمثيلي الذي وجدته تقليديا و”حسب الكتاب” كما يقال. ولم أفهم كيف أنها بعد كل رحلتها في عالم القسوة المفرطة في التعامل مع “الأعداء” تنساب دموعها الأنثوية في نهاية الفيلم، لكي يكون مطلوبا من المشاهدين التعاطف معها بل وربما أن يحتضونها ويقولون لها “لا عليك أيتها الرقيقة.. إنسي الأمر.. فقد نجحت في القضاء على أعدائنا وأعداء الإنسانية ولا تلقين بالا إلى الأساليب، فالغاية تبرر الوسيلة دائما كما تعلمين”!