لماذا فاز “البائع” الإيراني بالأوسكار؟

أمير العمري

شاهدت الأفلام الخمسة التي رشحت لجائزة الأوسكار لأحسن فيلم أجنبي في المسابقة الثمانين التي نظمتها الأكاديمية الأمريكية لعلوم وفنون السينما. كانت بلدان كثيرة في العالم قد تقدمت بترشيحاتها، لكن التصفية النهائية أفرزت من بينها خمسة أفلام هي “توني إيردمان” من ألمانيا، و”البائع” من إيران، و”رجل يدعى أوف” من السويد، و”تانا” من استراليا، وأخيرا “أرض الألغام” من الدنمارك.
كان نقاد ومتابعون كثيرون في العالم يتوقعون حصول الفيلم الألماني “توني إيردمان” على الجائزة، فقد كان هذا الفيلم في مقدمة استطلاعات آراء النقاد منذ أن عُرض في مهرجان كان السينمائي 2016 حتى نهاية المهرجان. وقد غضب الكثيرون بعد أن ذهبت “السعفة الذهبية” للفيلم البريطاني “أنا دانييل بليك” للمخرج الملتزم المخضرم كن لوتش، فقد سبق له الحصول على “السعفة” عام 2006 عن فيلم “الريح التي تهز الشعير”، كما أن الفيلم الألماني من إخراج مخرجة (أي امرأة) وهو أيضا من النوع الكوميدي، وبعض الناس يجدون أن بروز فيلم جيد وكوميدي من ألمانيا أمرا يدعو للاحتفال، ويقولون: هذا تحول سينمائي مهم، فمنذ متى كان الألمان يضحكون، أو يصنعون أفلاما مضحكة!

"البائع" ثاني فيلم لأصغر فرهادي يحصل على الأوسكار بعد "انفصال" في 2011

كان كثيرون يرون أن الفيلم الأفضل هو الفيلم الإيراني دون شك، لكنهم رغم ذلك دعوا إلى فوز “توني إيردمان”. ولم أفهم سر هذا الإصرار من جانبهم. لكني في الوقت نفسه وجدت أن الفيلم الألماني لم يكن يتمتع بنفس ما يتمتع به فيلم المخرج الإيراني أصغر فرهادي، من عمق، ودقة في السرد، وتحكم كبير في الإخراج. وأنا أعتبر فرهادي رائدا لسينما ما بعد كياروستامي في إيران، فأفلامه أقرب كثيرا إلى  المشاهدين من أفلام كياروستامي.
سأعود لتسليط الضوء على معالم التميز في فيلم “البائع” (فروشانده)، ولكن قبل ذلك يتعين المرور على باقي الأفلام التي رشحت لهذه الجائزة التي تحظى باهتمام كبير في العالم غير الناطق بالإنجليزية.

توني إيردمان

يدور فيلم “توني إيردمان” Toni Erdmann للمخرجة مارين أده، حول شخصيتين رئيسيتين هما وينفريد، مدرس الموسيقى المتقاعد العجوز الذي يعيش وحيدا، وابنته “إينيس” التي تجاوزت الثلاثين دون أن تتزوج، وركزت كل طموحها في إثبات وجودها من خلال وظيفتها في أحد فروع شركة عالمية للنفط في بوخارست، وهي تبدو صارمة متجهمة تعاني من الوحدة لكنها لا تفعل شيئا للاقتراب من الآخرين. يصور الفيلم سعي الأب بشتى الطرق للتواصل مع ابنته، وإقناعها بأن الحياة لا تستحق كل تلك الصرامة وذلك الحرمان. ومن خلال التناقض بين الشخصيتين، تتفجر الكوميديا. لكن الفيلم رغم براعة إخراجه، وجدة موضوعه، وزاوية تناوله المختلفة، ومشاهده المبتكرة، يتضمن الكثير من المبالغات والاستطرادات والتكرار من أجل إثارة الضحك، كما يحتوي على بعض اللقطات التي قد تكون مزعجة مثل إخراج إيردمان ريح بصوت مسموع، وممارسة صديق إينيس الاستمناء فوق قطع الحلوى التي تتناولها، مع هبوط الايقاع بوضوح في الجزء الأخير منه. لكن الأداء التمثيلي يحافظ على قوة الفيلم ويكفي للاستمتاع به. ويمكن أن أضيف أن براعة الأداء هي إحدى السمات البارزة في الأفلام الخمسة، التي منحتها قوة فوق قوتها.

توقع كثير من النقاد فوز فيلم "توني إيردمان" بالأوسكار قبل أن ينتزعها "البائع" الإيراني.

رجل يدعى أوف

 الفيلم السويدي “رجل يدعى أوف” A Man Called Ove- للمخرج هانيس هولم- من الأفلام الكوميدية أيضا، التي تلمس موضوع المهاجرين أي اختلاف الثقافات، وهل يمكن التعايش رغم الاختلافات، خاصة وأننا إزاء شخصية رجل تقليدي تجاوز منتصف العمر، دون أن يفقد نشاطه ويقظة دماغه، وانضباطه الشديد حد الصرامة والتزمت، لا تعرف الابتسامة طريقها إلى وجهه. ولكن تدريجيا، ومن خلال بناء جدلي ثري ينتقل بين الماضي والحاضر في سلاسة وتدفق شاعري رقيق، نكتشف كما يكتشف جيران “أوف” الجدد من المهاجرين، أن وراء مظهره الجاف، هناك قصة رومانسية إنسانية مؤثرة، وأنه لا ينبغي أن نحكم على الأشخاص مما يظهر على السطح، ولولا تعامل السيدة الإيرانية المتزوجة من رجل سويدي، والتي حلت مع طفلتيها للإقامة في المنزل المقابل لمنزل السيد أوف في تلك القرية السويدية المنعزلة التي تبدو كجنة الله في الأرض، ولولا استمرارها في محاولات التقرب من “أوف” وإزاحة الغطاء السميك الذي يغلف شخصيته، ولمس الجوانب الإنسانية في داخله، لما استطاع الرجل الخروج من عزلته، وإخراج ما لديه من مشاعر رقيقة وحب للبشر والدنيا.

يدور فيلم "رجل اسمه أوف" حول إمكانية تعايش ناس من ثقافات مختلفة.

من معالم الجمال في هذا الفيلم أنه رغم صرامة الشخصية الرئيسية وتزمتها على الأقل في ثلثي الفيلم، ورغم موضوعه الذي يتعلق، على نحو ما، بالموت، بالفقدان المبكر، وبالوحدة، إلا أن براعة السيناريو تكمن تحديدا في قدرته على تفجير المواقف الكوميدية من خلال الكثير من المفارقات، بحيث يرتفع فوق الجانب المأساوي إلى آفاق إنسانية مؤثرة. هناك فقط بعض الإطالة في النصف الثاني من الفيلم، وبعض التكرار في نقل المعنى والإلحاح عليه أحيانا.

تانا

أما الفيلم الاسترالي “تانا” Tanna للمخرجين مارتن دين وبنتلي باتلر، فهو يروي قصة حب بين شاب وفتاة صغيرة مازالت في طور المراهقة الأولى، على خلفية نزاعات قبلية عميقة الجذور في تلك الجزيرة الصغيرة (تدعى تانا) وتقع جنوبي استراليا، تعيش فيها قبائل من السكان الأصليين، في عزلة عن العالم، يتحدثون لغتهم الخاصة، يسترون عوراتهم بأوراق الشجر، يخضعون لقوانين غير مكتوبة، وأعراف صارمة يحترمها الجميع ولو اقتضى الأمر أن تضحي القبيلة بأحد أبنائها إذا ما خالف تلك الأعراف. وهذا ما يحدث بعد أن يقيم ابن شيخ إحدى القبائل علاقة حب مع فتاة من القبيلة نفسها لكنها تكون قد أصبحت الزوجة الموعودة لابن شيخ قبيلة أخرى منافسة، ضمانا لوقف النزاع بين القبيلتين.

فيلم "تانا" يدور حول قصة حقيقية أقرب للأسطورة عن سكان استراليا الأصليين.

 

إنها قصة شبيهة ربما، بقصة قيس وليلى، وروميو وجوليت، مع بعض التفاصيل التي تضفي عليها جمالا خاصا، يتناسب مع البيئة التي وقعت فيها، وتقول المعلومات التي تظهر على الشاشة في نهاية الفيلم إنها قصة حقيقية وقعت عام 1980، بنهايتها التراجيدية، لكنها تبدو كما لو كانت قصة أسطورية، فهناك ذلك البركان المشتعل الذي يحج إليه السكان ليباركهم، فهم يؤمنون بأنه روح الأم الكبرى عندهم. ويتميز الفيلم بالسحر المستمد من التصوير الممتع الذي يسبر أغوار الجزيرة بمناظرها الطبيعية، مع الموسيقى الخاصة الفريدة، واشتراك مجموعات كبيرة من السكان الأصليين في أداء أدوار شبيهة بأدوارهم في الحياة. لكن الفيلم رغم جماله ورونقه وسحره، أقرب ما يكون إلى الأفلام التي كان يصنعها فلاهيرتي في العشرينيات، أي أفلام  الأقليات الإثنية بشكل عام التي تميل إلى الابهار بطابعها “الإكزوتي”.

نهاية فيلم "تانا" كانت مأساوية

أرض الألغام

يفتح الفيلم الدنماركي “أرض الألغام” Land of mines للمخرج مارتن زاندفليت، ملفا من الملفات المسكوت عنها لما وقع بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، هو ملف أسرى الحرب من الجنود الألمان الشبان الذين دفع بهم هتلر في أتون الحرب وهم مازالوا أطفالا مراهقين، يبكون راغبين في العودة إلى أحضان أمهاتهم- كما يتردد حرفيا في الفيلم. الشخصية الرئيسية هنا شخصية ضابط شديد الصرامة والتجهم بل والقسوة أيضا يدعى “راسموسين”، والفكرة قد تتشابه في بعض جوانبها مع الفيلم السويدي، لكن الموضوع لا يعالج على مستوى الكوميديا، بل على مستوى المأساة. هنا ربما من المرات النادرة في السينما، لا يكون ما وقع ليهود أوروبا هو محور الأحداث، بل ما وقع للـ “الآخر”، أي لجنود “العدو” الألمان الذين كان يتعين عليهم أن يدفعوا ثمن ما تورط فيه نظامهم السياسي من ممارسات إجرامية، فقد نقلوا إلى وحدة خاصة يقودها هذا الضابط الدنماركي الشرس إلى المنطقة الحدودية مع ألمانيا، لنزع الألغام التي زرعها الألمان (2 مليون لغم أرضي) اعتقادا منهم بأن غزو الحلفاء لأوروبا سيأتي عن طريق الدنمارك وليس نورماندي الفرنسية.

جسد فيلم "أرض الألغام" شخصية الضابط "راسموسين" الصارم والمتجهم قبل أن يحدث التحول في شخصيته.

هذا الضابط يحيل حياة الشباب إلى جحيم ويتسبب في مقتل الكثيرين منهم. لكنه يدرك تدريجيا أنه يرتكب عملا إجراميا لا يقل وحشية عما ارتكبه الجيش النازي في بلاده، كما يدرك أن هؤلاء المجندين الذين التحقوا بالجيش الألماني قرب نهاية الحرب، دون تدريب كاف، لم يكن لهم يد فيما وقع بالدنمارك. هنا يبرز السؤال الأخلاقي الصعب: هل الخطأ يبرر الخطأ، أو هل من حق المنتصر، أن يلحق الإذلال ويفتك بالمهزوم لدرجة إرساله في مهمة يعلم مسبقا أنه لن يعود منها حيا؟
الفيلم مصاغ في سياق شديد القوة والتأثير، يتدرج في تصوير الحالة النفسية للضابط، مقارنة مع طفولية الجنود وجهلهم بما ينتظرهم من مصير، وقبولهم القيام بالمهمة بحماس، مصدقين ما وعدهم به الضابط من إعادتهم إلى بلادهم بعد أن تنتهي مهمتهم. ويمكن اعتبار الفيلم أيضا دراسة حالة هي الحالة النفسية للضابط (الذي يرغب في الانتقام ولو بأبشع الطرق)، وكيف يستيقظ حسه الإنساني، ليصل إلى حد الصدام مع رؤسائه، ولكن بعد أن تكون دماء كثيرة قد سالت على الرمال.

لاشك أن الموضوع جديد وتم تناوله بطريقة مؤثرة، خاصة وأنه يعتمد أيضا على قصة جرت وقائعها على أرض الواقع، من تلك القصص المسكوت عنها التي تمّت التعمية عليها طيلة عقود. ورغم الطابع التسجيلي الذي يطغى على الكثير من المشاهد، إلا أن درامية الحدث تتكشف بالتوازي تدريجيا لتصل إلى ذروة التأثير في النهاية. وفي رأيي الشخصي أنه لو لم يحصل “البائع” على الجائزة لكان ينبغي أن تذهب إلى هذا الفيلم، فهو دون شك العمل الأكثر اكتمالا بعد “البائع”.

البائع

أما “البائع” فمن المستبعد أن يكون قد فاز بالأوسكار، وهي الجائزة الثانية لمخرجه فرهادي (الذي سبق أن فاز بالأوسكار الأولى عام 2011 عن فيلمه الشهير “انفصال”) لمجرد أن أعضاء الأكاديمية الذين صوتوا له كانوا يرغبون – كما زعم البعض- في توجيه رسالة  قوية للرئيس دونالد ترامب، احتجاجا على سياساته العنصرية خاصة قراره بحظر دخول الإيرانيين الأراضي الأمريكية مع جنسيات أخرى من العالم الإسلامي. فالفيلم يتميز بمستواه الفني وموضوعه القوي وتأثيره الذي لا يمكن تجاهله، والسر يكمن في طريقة السرد التي يتميز بها فرهادي ككاتب سيناريو، وبراعته في تجسيد رؤيته من خلال اختياره الجيد للأماكن والممثلين والسيطرة على أدائهم، والحصول منهم على أقصى ما يمكن التعبير عنه. 

"البائع" تحفة بصرية أخرى لفرهادي

لدينا زوج وزوجة، عماد ورنا، تتعرض الشقة التي يقيمان فيها لشروخ مدمرة بفعل هزة أرضية، وكأنما فرهادي يشير مجازا إلى الواقع الإيراني المهتز. ويعثر عماد على شقة أخرى بمساعدة صديق له، ولكن هناك غرفة واحدة داخلها محظور استخدامها، وتُصرّ رنا على فتحها لتجد بداخلها بعض متعلقات الساكنة السابقة للشقة التي ستعرف من كلام الجيران أنها كانت “تستقبل رجالا كثيرين في مسكنها”، أي أنها كانت تبيع جسدها للرجال. ورغم اتصال رنا بالساكنة السابقة إلا أنها لا تحضر لأخذ أشيائها. ويؤدي هذا الموقف إلى التوتر بين عماد وصديقه الذي كان وسيطا في استئجار الشقة. وأثناء غياب عماد، تتعرض رنا لاعتداء جنسي من قبل رجل لا نراه، هنا تنهار الدنيا فوق رأس عماد الذي يصر على الوصول إلى الجاني، وعندما يصل إليه، يعتقله ويقوم بحبسه واستجوابه وتعذيبه بطريقة ما، رغم أن الرجل مريض يثير الشفقة. 

لم يشفع للرجل العجوز سنه الكبير في النجاة من انتقام الزوج.

مفاهيم المسموح والممنوع، القانون العام وقانون الانتقام أي القصاص، وغير ذلك، مطروحة بقوة في الفيلم، فهل من الصواب أن يتم تعذيب رجل مريض طاعن في السن حتى بعد أن يعترف بخطئه ويتعهد بالتوبة؟ وهل من المشروع أخلاقيا ودينيا أن يتم فضح الرجل أمام أسرته؟ وهل كان قرار الزوجين عدم إبلاغ الشرطة بالحادث قرارا صائبا بدعوى التستر على “الفضيحة”، أم كان من الواجب ترك الأمر للسلطات لكي تنزل العقاب بالجاني؟
في الفيلم الكثير مما يخالف قواعد الرقابة الإيرانية: موضوع يقوم على العنف، اعتداء جنسي، إشارات واضحة إلى الدعارة، تعذيب نفسي شديد للمذنب ودفعه للانهيار الجسدي، سخرية من الرقابة نفسها. ولكن رغم ذلك يظل فرهادي متمسكا بوقوف الرجل على مسافة من زوجته حتى بعد أن تعرضت لأكبر صدمة يمكن أن تتعرض لها امرأة، فيواسيها دون أن يلمسها، يتحدث إليها حديث صديق لصديقه، دون أن “يتورط” في استخدام أيّ كلمات عاطفية.

فرهادي رائد سينما ما بعد كياروستامي في إيران

تتجسد معالم الأسلوب الواقعي الهادئ عند فرهادي في اهتمامه بأدق تفاصيل الحبكة، والاستفادة من كل تفاصيل المكان وتوظيفها من أجل خدمة الدراما، بل جعلها جزءا من الحدث نفسه، واستخدام الأطفال من أجل خلق نوع من التواصل بين الرجل والمرأة، كما نجد في طيات المشهد أيضا، نقدا مستترا للتزمت الأخلاقي والاجتماعي المفروض بفعل القيم الموروثة.
والفيلم يرتفع بلغة السينما، ويجعلك تسبح في فضاءات كثيرة، فكرية واجتماعية وفلسفية، فهو ينتمي إلى سينما مثقفة، لكنها تحتفظ بأهم أسرار السينما، أي القدرة على الإمتاع بعيدا عن التسلية البدائية التي تعتمد على دغدغة الحواس. ولاشك أن بروز عنصر التمثيل يضفي عليه سحرا أكبر ويجعله يصمد طويلا للزمن.