محمود درويش.. رسم لأبعاد في صورة الشاعر

   

” إن الحقيقة في الأدب هي مثل الحقيقة خارجه، إنها
حقيقة نظامية يمكن إتباعها علنا على رؤوس الأشهاد”
رينيه ويليك –نظرية الأدب

هو ابن الساحلِ السوري وصدى كل الهلال الخصيب وأعالى العروبة وأعلى العرب، ابن البدايات التي صَعدتْ بنا وتَصعدتْ نحو النصر بالكلمات، فانتصرنا على يدي ملك ترك لنا الكلام أفاقاً ستبقى إلى أبد، ملكٌ عصف بالسقم الذي فينا وحول المعاني لجيش من الروح الناهضة التي تأخذ في طريقها كل شيء، كل شيء، وأعادنا لأنفسنا سالمين مع جروح بليغة ، كانت شرطا لاستعادة وعينا المنشود. ملكٌ أرسل النصوص في أربعة ارجاء وجودنا كي تستعيدنا من الخيبة والانكسار، وكانت مزودة بوصية  واحدة فقط: يعودون قتلى وُيعلن عن موتهم أو يعودون غانمين قادمين، ربحوا معركتَهم ضدَ شوائبهم، ليذهبوا في الطريق الشاق نحو الفوز بحروبهم ضد أعدائهم، محمولين على أمر واحد فقط: أن يكون اندحارُهم الوحيد وتنازلهُم الأخير هو النصر لا غير، فطوبى.

..  محمود درويش صاحب الجسد الرقيق المليء بالحزم والنزق في تفاصيله وثناياه، لطالما بدى كروحٍ تقوم في جغرافيا شكلاها ضباب إغريقي وصوان لتوهما، واستراحا قليلاً في أرجائه الحادة، قبل أن يتعهدهُ الغمام ويذهبُ به في النشيدِ: ليروي ويقول ويَشهد وُيدينُ ويَستولدُ ويَرفعُ ويَكشفُ ويُميطُ الحرير عن البسيطِ، ويَصعدُ بنا وَيهوي بجمال قاسٍ، ويُعرينا كي يؤثث روحنا وكبدنا ووجدنا بالقيامة من جديد، ويحملنا عنوة إلى هناك، الى حيث: يجب ويتعين ولا يفترض…!!

…على قلق اليقين نام، و”كآن كل الريح تحته”(1) أو لا شيء أصلا، وكان يصحو على نص لا يعودُ له ما أن يقوله(2). نصٌ ينتظم دون عناء في صيرورةِ إعادة تشكيل الوعي وإعماره، وفي هندسة الروح والمعاني والأزمنة والجمال والذائفة والثقة، وتوليد القوة والقدرة من العذاب  والخيبة والانكسار والوعد، ولطالما شد شعبه-الذي حولته ريح عاتية لعهن المنفوش_ لقرون يابسة ليقف عليها في طريقه لاسترداد معناه، لا، لم يشهد تاريخُ قولنا المعاصر نصوصاً معمارية، أعادت ترتيبَ الروحِ والوعيِ بجمالٍ موجوع مثلما حاولت نصوص درويش.
غير ان قائد جبهة الكلمات قد سقط في واد المقاومة العظيم مدرجا بالمعاني، لقد كان مقاومة بأكملها ترامت بين ثنايا شخص واحد وكان “صموداً بوجه الموت والاستبعاد وما لا يمكن اغتفاره وبوجه العارِ والحاضرِ ” (3) مُبشرٌا بالدروب الجديدةِ. وبينما يذهب  صوته بعيداً  بعيدا، فقد بقيت  فيالق الصدى تملأ الأفق. لقد تعين عليه أن يموت وبتواطؤ الابهر في قلبه، القلب أعظم الخونة في التاريخ والذي تتحدد(بعض) عظمته بخيانته، وما كان لعاشق أن يفني دون أن يسقط قلبه صفحة تلو صفحة وجبهة بعد أخرى.

في ذكرى محمود درويش، يشعلون الشموع حبا له

…مات درويش بعد أن رسم للشعر سقفاً عالياً وشفافاً سقط دونه كثيرون رمياً بالكلام، وبعد أن حولنا سبابا لنصوص تأخذنا في المدى لتعيد تشكيلنا من جديد، وفي إحدى معاركه الفاصلة أطاح بوجدان أعدائنا بفصيله من الشعر حولتهم لـ “عابرين في كلام عابر”(4) وفي كل حروبه خرج منتصراً بدمه، بعد أن أطاح بسيف عدوه، ولم يحصل أن ترك الحصان وحيداً، لان جياده ظلت تنبثق في كل لحظة من ثنايا الكلمات، وكان القول يفر من جنباته ليعتلي الجياد، ويذهب بعيدا في المدى. وفي الأرض الأكثر مشقة “خاض الصراعَ بظفر”(5).

وكان محمود درويش سيد النشيد العذب، نشيد إستولده بروح سومرية من نفس الوجع والعذاب. زرع حياتنا بالفواصل وبالحروف وبالقوافي واودعنا بعدتها، قوافيٍ تكفي لانتصار “أمتين على شهواتها وعلى الغزاة”. وكان نصراً كامنا في وجه المآسي، نصرٌ يبشرنا بأنه على وشك الوصول إذا شئنا، ولطالما صعد بنا من الركام نحو أفق مختلف. ومضى في ومع “الصاعدين إلى حتفهم باسمين”(6). وصفى حسابه مع الراهن والعجز والخيبة بقسوة الشعر، واتجه نحو غده المنشود من صلب أمسه البسيط. وحاصر القادمين بإغراء العودة لأرض “فيها ما يستحق الحياة”(7) ولأهل “ذهب أبنائهم مع العودة”(8) فرجعوا بغنيمة المحاولة الكسيرة، فكان أن صار “الطريق إلى البيت أجمل من البيت”.(9) طريق كانت على عشرة طيبة مع التصدع والانزلاق، سقط فيها على هيئة قتلى من لم يستطيعوا فيها سبيلا، أما الماجدون فكانوا عتاةً في البحث عن “الطريق إلى الطريق” وما لانت لهم قناة، غير أن درويش لم يسقط ولم تنكسر رؤيته لانه مضى” مستسلمٌا لصواب قلبه”(10) وواصل التمادي في جمالات الطريق حتى سار منها وفيها: منارة ونبؤة ونشيداً وتعويضا ثمينا لمن كُسروا وما سقطوا.  لقد كان عكس الكسيرة والانهيار، قاسيا ورشيقا وهو يستولد من ثنايانا-بصعوبة و بصبر – أفضل ما فينا، لنواصل السير في الطرقات الأجمل من نهاياتها، بثمن الموت تماما كما يطلب الأمر ذلك.

… عاشق أفنى العمر في خرق القواعد، امتد من حيفا إلى حلب وبيروت وقرطاج وأندلس وشام وما تيسر من مدائن شرق وغرب، وفي أرض المعاني المفتوحة على كل مصراع. ، وكان “شاعر الشعراء منذ رسائل المصري في الوادي”(11) و”الأعلى من الشعراء شنقا وادناهم الى عشب يميل “(12).  شاعر ظل القلق يسلمه إلى يقين وبالعكس، وعندما وصله خريف العمر ترفق به وعلى مهل مشى، وكان كريما في منح الفرص: يوم إضافي، سنة أخرى فقط، لا بأس، لاباس؟؟ إلى أن وضع الخريف يده بيد الموت ليقول لنا بحزم هادىء: صباح الغد لن نعثر على الشاعر، فلا قهوة لقتيل كان يعشق عليل البن في الفنجان. ولا شعر ولا ضجر ولا نزق… ولا صدف، أما اللقاءات التي لم تتسع لها الدنيا على سعتها، فقد قطرت نفسها واثقة إلى الحياة الأخرى، وظل الموت هنا أيضا شرطها الوحيد.

بعض مؤلفات محمود درويش

…ولطالما ” كان” يكره الفعل الماضي الناقص، بيد أنه كان رغما عنه:  قلق بأكمله يتمدد في سرير فيفيض فجراً وقد ترتل في نشيد، نام على ألف أندلس وأكثر ليستفيق على حلب وأخرى، ولم يعلن التوبات كي يُريح وَيستريح، وكان فوضى ينظمها الكلام، وامتلاك ساحر لا يستخدم اللمس إلا قليلاً. مُترع بشكوك اعتادت أن تسلمه لفيض سؤال كانت بسالة الجواب عنه تضع درويش في منحنى يقين أصيل. وكان طريدا لتكريم الملوك يخرج سالماً من التباسات العروش، وإن لم يخرج سالماً أو لم يشأ أن يخرج سالماً من التباسات الجمال.
…وذات يوم طمأننا بأننا سنبني ودون شك” على حجر سنبني دولة العشاق”(13) ولما تسألنا عن الحجر الشاق كي نضع عليه الدولة ونُنِزَلها من الفكرة والنص وغفوة الحلم ونثبتها في الصخر، وصلنا توبيخة القاسي: لا حجر يقول لا، ولكن يوجد رجال لا يعرفون كيف يطلبون”.أما الفكرة العالية فلا يجب أن تنزلق إلا في حيز واحد فقط، هو لياقة تعبيرها عن ذاتها.!!!؟؟؟
…لم يأخذ في آخر الرحلات وأطولها إلا قصيدته الأخيرة التي لم يقلها بعد، ترى أين أبقاها أم أنها ذهبت لتؤنسه في طريق النهاية، فطوبى لمن يذهبون إلى حتفهم وهم يحملون قصيدتهم أو ما تبقى.. وذات مرة قال؛ لا يهم الموتى ماذا يقول الناس عنهم لأنهم ماتوا، فقلت له: ولكن الأحياء يتحدثون لأنفسهم من خلال موتاهم، كما أنه ليس لدينا سوى كلمات. لا، “ليس هناك سوى الكلمات”(14) يلتقي فيها الأحياء والموتى، وها قد مت بعد أن استودعت المعنى أمانة عند الكلام؟؟؟؟؟.

…كتب المراثي كلها ولم يترك لنا ما نرثى به سوى ما قال “طوبى”. ولكن اسمع آية الموت: لطالما كنت شهماً وقاسياً ونعرف أننا سنلقاك وتلقانا، غير انك تطوي ما تبقى من كبارنا، وكالعادة، تفعل ذلك: بلا هوادة أو رحمة وبلا وارثين. أنستحق كل هذه القسوة؟؟ ربما لا، نعم، مرتان!!! وقد وصلتنا رسالتك: ستتركنا في العراء كي نعيد ترتيب المعاني بالقوافي أو بلا. غير انك جدير بالامتنان أيها الموت، لأنك لم تأخذ الكلمات والمعنى، وهذا ما سيعيد لنا درويش دائما وسيعدنا لأنفسنا كي نصبح غانمين بثمن الهول والوجع والانكسار ووعد النشيد. كما يستق الموت بعض الشكر، لأنه تأنى قليلا وتأخر قليلا وعَدلَ مواعيده إحتراما للقصيدة وحاجة النشيد الى الوجع، وتواطأ على تسلل المعنى من وراء ظهره، فطوبى لموت تمهل فأجل نفسه ثم طواك.

بعض أقوال محمود درويش

أما أنت يا درويش فلم تخذلنا في عز حاجتنا إليك، لان الأبطال دائما ما يذهبون عندما يحتاج لهم الناس كما لم يحتاجوهم من قبل، ولكن يحق للقصائد والأيائل التي تركتها لذويك ان تعتب،  ولمن تذهب الكلمات بحثا عن معانيها، واين سَيحطُ الغمام وروح القدس الى اجل مسمى؟؟ ولمن نسمى الخلافة، ومن نسمي خليفة،  ليأخذ البيعات منا عنوة بخاطرنا في قيادة الكلمات.لمن؟؟؟؟.ومن سيعدنا لبصيرة بعد فقدان البصر؟؟ومن سَيحولُ موتنا لاغنية او نشيد؟؟وكيف سنستولدُ الندى والاريج من صخر ومن بؤس ومن وجع ومن توق؟؟؟ وكيف تتركنا “في بطن ليل من حديد”(15) تقطعنا الانكسارات ونقطعها ذهابا او إيابا، نحو وعد مؤكد للنصر في ارض القصيدة ؟؟
* * *
…لطالما أرهقنا محمود درويش وسيرهقنا أكثر، ونحن نجمع المعنى من حقول الكلمات ومن صداها، بيد انه لم يتعبنا كثيرا، ونحن نحاول العثور عليه “في قمر تلألأ في يد امرأة” (16) بشام أو بحيفا أو بيروت أو عمون أو قرطاج اواللازورد او بابل، أو، وهو يرسم للمحاصرين طريق خلاصهم ، ويرد الغزاة على أعقابهم مثخنين بالكلمات، طوبى.
..أما من كان منهم محمود درويش وفيهم، فقد: يُكسرون أو يُحطمون  أو يُغيبون أو يَهونون ، بيد أنهم لن يعرفوا طعم الهزيمة أبداً.

 

هوامش وإحالات

(1)رينيه ويليك وأوستين وارين:نظرية الأدب، ترجمة/محي الدين صابر(دمشق، المجلس الأعلى لرعاية الفنون والأدب الاجتماعية، 1972)ص.17
(2) المقتبس هو شطر بيت من الشعر لأبي الطيب المتنبي، وذات يوم مرة قال محمود درويش، إن كل ما قاله لا يوازي شطر بيت المتنبي “على قلق كأن الريح تحتي ”
(3)يقول جيل دولوز: مقالتان عن الأدب الإنجليزي الأمريكي، فصلية الكرمل، عدد47(1994)ص.154 ” أن نكت فإننا نهب دائما كتابة لمن لا يملكوها، إلا أن هولاء يهبون الكتابة صيرورة لن تكون هي بدونها ”
أما جان بول سارتر فيقول في(…….) “إن عمل الكاتب لايمكن أن يحقق كماله إلا بالقراءة[التي هي عقد مروءة بين المؤلف والقاري] ولآن إدراك جوهر العمل [يتم]عبر وعي القارئ فقط،فإن كل عمل أدبي هو في العمق نداء..”
(4)جيل دولوز وفيلكس غوتاريك: ما هي الفلسفة، عرض كاظم جهاد، فصلية الكرمل عدد41(1992)ص189
(5) من نص لمحمود درويش……….
(6) يقول شيلنغ “نقلا عن كاظم جهاد:محمود درويش:احد عشر كوكبا، فصلية الكرمل عدد47(1993) إن الفلسفة والفن هي التي يمكن خوض الصراع فيها بظفر.
(7) من نص لمحمود درويش……….
(8) من نص لمحمود درويش……….
(9) من نص لمحمود درويش……….
(10) من نص لمحمود درويش……….
(11) من نص لمحمود درويش……….
(12) من نص لمحمود درويش……….
(13) من نص لمحمود درويش……….
(14) محمود درويش: في وصف حالتنا، الطبعة الأولى (بيروت، دار الكلمة، 1983)ص. ويقول محمود درويش هنا “إن الأدب هو الذي قدم للفلسطينيين ومنحم تعويضا عن مهانات عندما فقدوا كل شيء، ولم يملكوا إلا الكلمات، وقد استمد منهم القوة ليؤسس لهم العلاقة مع [مكانهم الأول]”
(15) من نص لمحمود درويش……….
(16) من نص لمحمود درويش……….