مهرجان غوتنبرغ في دورته الـ42 .. مهرجان عربي مصغر

قيس قاسم

لا يقتصر اهتمام مهرجان غوتنبرغ على الأفلام ومخرجيها، بل يعتني كثيراً بالمُنتَج الذي يتناول مشاكل المنطقة بمنظور إنساني ورؤية موضوعية

يؤكد مهرجان غوتنبرغ السويدي في دورته الثانية والأربعين، الانطباع المترسخ عنه -خاصة خلال العقد الأخير من عمره- كونه من أكثر المهرجانات العالمية اهتماماً بالسينما العربية، وهو اهتمام يزداد باطراد عناية وتقديماً.

فهو لا يحصر السينما العربية بخانة واحدة أو اثنتين بل يفتح المجال لها لأخذ فرصتها بين خانات مهمة مثل “الماستر” كما فعل هذا العام حين أدرج اسم المخرج الجزائري مرزاق علواش بين كبار المخرجين العالميين ووضع فيلم جمانة مناع “حَبّ برّي” ضمن أفلام ثيمة الدورة: “نهاية العالم”.

وعلى مستوى إبرازه مواهب سينمائية جديدة من أصول عربية تقيم في الجزء الشمالي من القارة الأوربية؛ يكفي التذكير بأن المخرج العراقي الكردي المقيم في النرويج هشام زمان قد فاز بجائزة مسابقة أفلام الشمال الأكبر مالياً، والأهم بين جوائز الدول الإسكندنافية مرتين متتاليتين عن فيلميه “قبل سقوط الثلج” و”رسالة إلى الملك”.

وهذه الدورة يقدم المهرجان اسمين يشاركان في المسابقة نفسها هما: علا سليم، ومي الطوخي. في حين ستتسابق زميلتهما داليا الخوري على جوائز مسابقة “وثائقيات الشمال”.

 

قضايا عربية برؤية مغايرة

لا يقتصر اهتمام مهرجان غوتنبرغ على الأفلام ومخرجيها، بل يعتني كثيراً بالمُنتَج الذي يتناول مشاكل المنطقة بمنظور إنساني ورؤية موضوعية، والتي غالباً ما يتناولها مخرجون معنيّون بمعرفة ما يجري حقيقة في منطقة الشرق الأوسط ليتسنى لأفلامهم تقديم صورة مغايرة للسائد عن العرب والمسلمين على جمهور ربما لا يعرف الكثير عنهما، لهذا نلاحظ إقبالاً على حضورها وحماسة في النقاش الذي يتبع كل عرض من عروضها.

سيتسنى في هذا الأطار للجمهور “الغوتنبُري” مشاهدة الفيلم السويسري الفلسطيني “أبولو غزة” لنيكولاس واديموف و”تحت السلك” للبريطاني كريس مارتين ووثائقي كريستي غارلاند “ماذا تريد ولاء؟”، إلى جانب فيلم الفينلندية ريتا هوهتانين “آلهة مولينبيك” و”حمادة” للسويدي ألوي دومينغوز سيرَن.

في أغلب أقسام المهرجان هناك أفلام عربية مميزة يعكس اختيارها اطلاعاً جيداً عند منظمي برامجه. فقد ضموا في خانة أصوات جديدةفيلم السورية سؤدد كعدان يوم أضعت ظليوالمصري يوم الدينلأبو بكر شوقي وكلاهما عرض في مهرجان الجونة. وفي نفس القسم أدرج فيلم المخرجة غايا جيجي قماشتي المفضلةالمعروض في مهرجان كان.

اللافت بين اختياراتهم العربية فيلم “دشرة” التونسي الذي وصف بأنه أول فيلم رعب عربي، وهو اختيار يؤكد الانطباع العام عنه كونه فيلماً جيداً يدخل أرضاً لم تعرفها السينما العربية من قبل. أراده مخرجه عبد الحميد بوشناق فيلماً محدد السمات والخصوصية ينتمي إلى نوع عرفته السينما الغربية وأبدعت فيه، بينما السينما العربية ما زالت بعيدة عنه، ومن هنا جاءت بعض أهميته، أما البقية فتكمن في الاشتغال السينمائي نفسه والمعتمد كثيراً على العناصر المشوقة والتأثيرات الخارجية (موسيقى، مكياج وغيرها).

أما إلى قسم “قارات العالم الخمس” فجلبوا وثائقي جواد رحيب “عندما كان العرب يرقصون” إضافة إلى السوري “لسه عم تسجل” لسعيد البطل وغياث أيوب.

اللافت بين اختياراتهم العربية فيلم "دشرة" التونسي الذي وصف بأنه أول فيلم رعب عربي، وهو اختيار يؤكد الانطباع العام عنه كونه فيلماً جيداً يدخل أرضاً لم تعرفها السينما العربية من قبل

نهاية العالم.. ثيمة المهرجان

في مقاربة للمخاطر البيئية والمتغيرات المناخية المهددة لعالمنا، تكرس الدورة الجديدة ثيمتها السنوية بالكامل وتعطي لها عنواناً مؤثراً هو نهاية العالم”.

المدير الفني للمهرجان يوناس هالمبوري عرض في افتتاحية الكاتالوغ تصوراته للموضوع وطبيعة الأفلام المنتقاة لتجسيده، وحرصه الشديد على انتقاء الأكثر تماساً بالواقع. ربما لهذا السبب تم اختيار فيلم الفلسطينية جمانة مناع “حَبّ برّي” كونه يقارب الخطر المحدق بالبذور الزراعية ومخزوناتها نتيجة الحروب والكوارث الطبيعية المترتبة علىش سلوك البشر التدميري لبيئتهم.

من الأفلام الأخرى المجسدة للخراب البشري فيلم “امرأة في حرب”، وتدور قصته حول نضال عاملة آيسلندية ضد مصنع لإنتاج الألمنيوم تضر تسريباته بالبيئة وسكان المنطقة التي تعيش فيها. تحركاتها “التخريبية” سلمية معتمدة على مبدأ الحرب الاقتصادية، وإلحاق أكبر قدر من الخسائر بالمصنع حتى يضطر أصحابه إلى إغلاقه.

مجموع أفلام “الثيمة” تقدم تصوراً تقريبياً لحجم الخطر المهدد للبشرية، ويعكس دور السينما وقدرتها على فتح أعين الناس على حقائق، صحيح أنها مؤذية وسوداوية لكن معرفتها واجبة لفهم ما يجري حولنا وأي الطرق أكثر نجاعة لمواجهتها.

 

تكريم واحتفاء بالإنتاج النسائي

كرمت النسخة الجديدة من المهرجان الممثل الدانماركي مادز ميكلسن، صاحب الأدوار القوية والموهبة الحقيقية التي رفعته إلى مصاف كبار الكبار. ومنذ وقت مبكر اعتبر المهرجان فيلم “بوتشر ـ 1996” أول علاماتها، وبعدها توالت الأدوار العالمية عليه، آخرها كان دوره المتميز في “روج وان”. وسيلتقي الممثل ميكلسن مباشرة مع الجمهور ضمن فعالية “وجهاً لوجه” وستُقدم له ميدالية المهرجان في احتفال خاص بالإضافة إلى عرض مجموعة من أفلامه، بينها تحفته الرائعة “مطاردة”.

ومن مساعي المهرجان الدائمة إتاحة الفرصة للمخرجات السينمائيات لعرض نتاجاتهن في كل نسخة من نسخه، والمطالبة عبر الندوات التي ينظمها بـ”مساواة” سينمائية، لدرجة صار فيها المهرجان مركزاً لدعم وإطلاق المواهب النسائية وملتقى لعرض خبرات السينمائيات من جميع أنحاء العالم. ضمن هذا السياق يأتي الاهتمام بالمخرجة الكينية وانوري كاهيوي المعروض لها فيلم “رفيقي” وتخصيص صفحات كاملة لها ضمن كاتالوج المهرجان.

على المستوى الإسكندنافي توفرت للممثلة السويدية توفا نوفوتني فرصة إخراج أولى أفلامها، وعرضه مباشرة في الدورة الـ42. وعلى المستوى العالمي أدرجت النسخة الجديدة أفلام عشرات المخرجات وضمنت مشاركة بعضها في عدد من مسابقاته، كفيلم ملكة القلوب” لمي الطوخي وشباب ذهب” للفرنسية أيفا لونيسكو إلى جانب فيلم الروسية ناتاشا ميركولوفا الرجل الذي فاجأ العالم”. 

وثائقي داليا الخوري "خصوصية الجراح" يجسد تجربة ثلاثة سجناء سياسيين سوريين سابقين وصلوا إلى النرويج، وفي أحد سجونها جمعتهم مخرجته وطلبت منهم استعادة ذكريات السجن المريرة

مسابقات وجوائز.. فرص مواتية للعربية

لغوتنبرغ خمس مسابقات رسمية؛ الكبرى نوردكموزعة بين الوثائقي والروائي. قيمة جائزة الفيلم الفائز بالروائي مليون كرونة (ما يقارب 120 ألف دولار أمريكي) تقسم بالتساوي بين المخرج والمنتج، تشجيعاً للأول للمضي في عمله. أما الثالثة فمخصصة للفيلم القصير، والرابعة باسم المخرج الكبير إنجمار بيرغمان وهي مخصصة للأعمال الأولى، والمسابقة الأخيرة دولية.

فرصة فوز فيلم “أبناء الدانمارك” لعلا سليم وملكة القلوب للطوخي جيدة لأنها من بين 11 فيلماً فقط ستتنافس على الجائزة الكبرى.

مجال فوز وثائقي داليا الخوري “خصوصية الجراح” ربما أكبر لأن عدد الأفلام المتبارية أقل من الروائية، ولخصوصيته كونه يجسد تجربة ثلاثة سجناء سياسيين سوريين سابقين وصلوا إلى النرويج، وفي أحد سجونها جمعتهم مخرجته وطلبت منهم استعادة ذكريات السجن المريرة.

فيلم "أورورا" تعيد فيه مخرجته الفنلندية سؤال الهجرة والهوية إلى الشاشة لينضم إلى بقية الأفلام الإسكندنافية المهمومة بموضوع الهجرة والمهاجرين

من آسيا.. احتفاء بالهند وأفغانستان

آسيوياً، كانت تركيا وإيران والصين لها عادة نصيب الأسد في أغلب دورات غوتنبرغ، لكن النسخة الأحدث قررت تقريب بقعة الضوء أكثر على الهند وأفغانستان، عبر اختيارها عدداً جيداً من أفلامها، خاصة من أفغانستان المعروفة بقلة إنتاجها.

فمن الهند أخذت ستة أفلام بينها فيلم المخرج دار جاي “نامديف باو.. في البحث عن الصمت” وفيلم برافين مورتشهالي “نافذة للصمت، أما أفغانستان فأخذت منها “رونا، والدة أزيم” فيلمها المرشح وطنياً للمنافسة على الأوسكار، وفيه يجسد مخرجه حشميد محمدي دراما عائلية تتمحور حول المهاجرين الأفغان في إيران وظروف معيشتهم الصعبة التي تدفعهم لخوض تجربة هجرة جديدة إلى أوروبا. 

الدورة وضمن تقاليدها إحضار أهم المعروض عالمياً خلال العام لجمهورها، إذ تنتقي من المهرجانات الكبيرة التي سبقته أبرز عروضها. ويكفي الإشارة إلى خانة غالاالتي تحوي ستة أفلام مرشحة لنهائيات الأوسكار ناهيك عن تحف سينمائية أخرى كثيرة نالت جوائز ثمينة.

الدورة الـ42 تقام في أشد أيام السويد برودة (25 يناير/كانون الثاني – 4 فبراير/شباط) ويتوقع كالعادة أن يحضرها عدد كبير من أهالي المدينة، ليرسخوا مجدداً وجوده كواحد من أكبر المهرجانات السينمائية شعبية، وفق نسبة السكان. ويفتتح أيامها فيلم “أورورا” الذي تعيد فيه مخرجته الفنلندية سؤال الهجرة والهوية إلى الشاشة لينضم إلى بقية الأفلام الإسكندنافية المهمومة بموضوع الهجرة والمهاجرين.