نهاية عصر التلفزيون!!؟

محمد موسى

نهاية عصر التلفزيون التقليدي في العالم الغربي باتت تلوح في الأفق، وأنه سيختفي تدرجياً لتحلّ بدله خدمات رقمية تجهز المواد الترفيهية حسب الطلب

أنذر المنتج التلفزيوني الهولندي الشهير جون دي مول في لقاء مع التلفزيون الهولندي أخيراً، بأن نهاية عصر التلفزيون التقليدي في العالم الغربي باتت تلوح في الأفق، وأنه سيختفي تدرجياً لتحلّ بدله خدمات رقمية تجهز المواد الترفيهية حسب الطلب، التي تشبه ما توفره اليوم شركات عملاقة مثل “نتفليكس” و”أمازون” الأمريكيتان، والتي سينضم لها في السنوات القليلة القادمة شركات وخدمات تجهز محتويات ترفيهية مختلفة تعوض ما تقدمه القنوات التلفزيونية العامة. وهذا هو التصريح المتشائم الأول لـ “دي مول” الذي كان يدافع دائماً عن أهمية القنوات التلفزيونية العامة والنموذج الاقتصادي الربحي الذي ترتكز عليه.

لا يلقي الهولندي “دي مول” الكلام جزافاً، وهو المعروف عنه قلة طلاته الإعلامية، ذلك أنه أحد الذين ساهموا في تطوير التلفزيون في العالم الغربي في الثلاثين عاماً الماضية وفتحه على عوالم جديدة، بحيث أن تأثيرات البرامج التي أنتجتها شركاته الهولندية وصلت إلى معظم الشاشات التلفزيونية في العالم. هَزَّ برنامج “الأخ الأكبر” في عام 1999، والذي أنتجته شركته “تالبا” التلفزيون التقليدي وقتها، وعبّد الطريق لظاهرة برامج تلفزيون الواقع التي مازالت تهيمن على الشاشات الغربية.

أنتجت الشركة العائدة للإعلامي بعدها عشرات البرامج التي عبرت الحدود الجغرافية وانتقلت إلى مئات القنوات المحلية في العالم. وعندما بدأت برامج البحث عن المواهب الغنائية تسقط في التكرار وتفقد شعبيتها، ساعد برنامج “ذي فويس” والذي أنتجته الشركة الجديدة للإعلامي الهولندي (ايندهمول) في إعادة هذه البرامج إلى قلب الاهتمام الجماهيري، حيث بيع حقوق إنتاج نسخ محلية إلى دول عديدة حول العالم.

ولعل “النهاية القريبة” التي تحدث عنها “دي مول” لن تقع في ليلة وضحاها، بل ستكون ضمن تغييرات بطيئة وحاسمة ترتبط بشكل أساسي بفئات مشاهدي تلفزيون المستقبل، فما أن يرحل عن العالم الجيل الوفي الذي يشاهد التلفزيون اليوم (من الذين تجاوزوا الأربعين من العمر)، حتى ينقطع معهم تقاليد مشاهدة التلفزيون التقليدية، ب��اصة أن الفئات العمرية الأصغر – وكما تُبيّن كل الإحصاءات المتوافرة من الأعوام العشرة الأخيرة – بعيدة كثيراً عن المشاهدة التلفزيونية التقليدية، وأنهم يتلقون جُلَّ موادهم الفنيّة الترفيهية عن طريق الإنترنت، ويكاد جهاز التلفزيون نفسه يختفي من غرف الجلوس في بيوتهم، حيث تحلّ محله منذ سنوات أجهزة إلكترونية صغيرة يتم مشاهدة المواد الترفيهية عبرها.

في الولايات المتحدة، تعدت المبالغ المصروفة على الإعلانات على الإنترنت مثيلاتها على القنوات التلفزيونية العام الماضي

واللافت أن “دي مول” نفسه يملك عدة قنوات تلفزيونية في هولندا، والتي أصبحت همه الشاغل منذ أن باع شركته للإنتاج التلفزيوني في العام الماضي إلى مجموعة قنوات “آي تي في” البريطانية التجارية، لذلك تراه يعرف تماماً ظروف القنوات التلفزيونية الغربية التجارية في الوقت الحاضر، والصعوبات التي تواجهها، سواء على صعيد جذب الجمهور لبرامجها، أو الحصول على إعلانات تجارية، والتي تُشَّكل أحد المداخيل الأساسية لهذه القنوات. هذا رغم أن أرقام المشاهدة أو الإعلانات التي تحصل عليها القنوات التلفزيونية اليوم ليست سيئة على الإطلاق، بيد أن التغييرات في المشهد التلفزيوني في السنوات الأخيرة تسير لجهة انحسار مشاهدته وبالتالي موارده، وزيادة حصة قنوات الترفيه الرقمية، سواء تلك التي تعبر القارات والبحار، أو المحلية الصغيرة التي تتوجه إلى فئات محدودة من الجمهور.

وفي هولندا – التي تحتل المرتبة الثالثة في العالم بعد الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في قائمة مصدري الأفكار التلفزيونية (الفورمات) – قررت القنوات التلفزيونية الحكومية والتجارية أخيراً رفع تسعيرتها الخاصة بالإعلان التجاري للعام القادم (2018). الأمر اللافت أن القنوات التلفزيونية وبدل أن ترخص أسعارها استجابة لتراجع عدد الإعلانات التجارية على الشاشات التلفزيونية قامت برفعها، وذلك تماشياً مع النظرية التي تقول إن الإعلان التجاري على التلفزيون هو أكثر فعالية من مثيله على الإنترنت والقنوات الرقمية. وهي النظرية التي تحتاج أن تقنع بها الجهات المعلنة، التي تبيَّن الأرقام من الأعوام الأخيرة تحولها البطيء إلى شبكة الإنترنت للإعلان عن بضائعها، بخاصة مع قدرة الشبكة العنكبوتية على تقديم أرقام دقيقة للغاية عن أعداد المتصفحين للصفحات التي تعرض الإعلانات، وأعداد الذين ينقرون على هذه الإعلانات، والأوقات التي يقضونها على مواقع الجهات المعلنة.

لا يختلف الحال في العديد من الدول الغربية عما يجري في هولندا، حيث سجل العام الماضي (2016) أرقاماً تعد مفصلية على صعيد الإعلانات على شبكة الإنترنت في الولايات المتحدة، إذ تعدت المبالغ المصروفة على الإعلانات على الإنترنت مثيلاتها على القنوات التلفزيونية. فوصل إجمالي الإعلانات على الإنترنت 72,5 مليار دولار مقابل 71,3 مليار دولار للتلفزيون. هيمن موقعا “غوغل” و”فيسبوك” على سوق الإعلانات الرقمي في العالم في العام الماضي، فجمع موقع “غوغل” مبلغ 89,6 مليار دولار، فيما كانت حصة موقع “فيسبوك” مبلغ 27,6 مليار دولار.

الفئات العمرية الأصغر بعيدة كثيراً عن المشاهدة التلفزيونية التقليدية

ديمقراطية الترفيه

في خضم التغييرات الكبيرة التي تهزّ منذ أعوام المشهد الترفيهي في العالم، من دخول الشركات العابرة للقارة، وتحول المشاهدة حسب الطلب إلى أحد تقاليد الفرجة المعاصرة، تتواصل ولادة مبادرات إعلامية جديدة صغيرة تستجيب لمزاج الحرية على الإنترنت، ورغبة البعض في المشاركة في تشكيل طبيعة المواد الترفيهية التي تصل إلينا وإلى حدود المساهمة في إنتاجها، عبر المشاركة في شركات جديدة على الإنترنت تنتج أفلاما ومسلسلات وبرامج تلفزيونية.

يُمثل مشروع شركة “لايف تري” البريطانية إحدى هذه المبادرات الجديدة، حيث يُمكن شراء وعن طريق العملية الرقمية المشفرة (Cryptocurrency) حصة من هذه الشركة، وبالتالي المساهمة في خطط الشركة المستقبلية على صعيد إنتاج البرامج والمسلسلات والأفلام، بحيث تستجيب في المقام الأول لأهواء المشتركين فيها، ولتكسر هيمنة الشركات العملاقة التي تقلق شعبيتها الكبيرة وصعودها غير المسبوق الكثر في العالم، من الذين يرغبون أن يتوزع المشهد الإنتاجي على جهات عديدة، يعكس التنوع الإثني والثقافي والاجتماعي للمشاهد اليوم.