“الكرة تجمعنا”.. يوم وحّد تأهل منتخب البيرو للمونديال شعبا منقسما

حروب واضطرابات أمنية وسياسية، وأزمة اقتصادية واجتماعية، وانقسام شعبي وعنصرية وفساد ينخر الدولة ومؤسساتها، كل هذه العواصف ضربت البيرو في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، غير أن حدثا فريدا حصل بعد 36 عاما أعاد اللحمة والأمل، وضخ الثقة في مستقبل شعب كان قاب قوسين من الاستسلام.

يأخذنا فيلم “البيرو.. الكرة تجمعنا” الذي عرضته الجزيرة الوثائقية في رحلة داخل هذه البلاد التي عانت كثيرا، وكيف جاءت لحظة تأهل منتخب البيرو إلى مونديال روسيا 2018 بعد 36 عاما من الإخفاقات.

“لماذا تريد تشجيع منتخب يخسر كل مبارياته؟”

في يونيو/حزيران الماضي فشلت البيرو في التأهل إلى المونديال للمرة الثانية على التوالي، حين خسرت في الملحق العالمي أمام أستراليا بركلات الترجيح 5-4، بعد انتهاء الوقتين الأصلي والإضافي بالتعادل دون أهداف.

وكانت الشعب البيروفي عامة وجماهير كرة القدم خاصة يمنون النفس بنجاح المنتخب، بعد أن حقق مسيرة مظفرة في تصفيات قارة أمريكا الجنوبية، متفوقا على منتخبات كبيرة في القارة مثل كولومبيا وتشيلي، واحتل المركز الخامس ليخوض الملحق العالمي للمرة الثانية تواليا، ولكن لم يحالفه الحظ في الفوز وإعادة المشهد الوحدوي للبلاد الذي سيطر على البلاد عندما تأهل المنتخب لمونديال روسيا 2018.

للمرة الأولى خلال أربعة عقود يتأهل منتخب البيرو إلى مونديال كرة القدم ليمثل بلده في روسيا 2018

قبل التأهل إلى مونديال روسيا كان المنتخب البيروفي متواضعا ويخسر جميع مبارياته. وينقل الصحفي البيروفي بيدرو غارسيا لسان الشعب بطرح عدة أسئلة بينها: لماذا تريد تشجيع المنتخب إن كبرت وأنت تشاهد الفريق يخسر كل مبارياته؟ كيف تشجع فريقا يخسر دوما؟

لكن هذا الانكسار والروح الانهزامية التي شعر بها البيروفيون لم تكن في كرة القدم وحسب، بل امتدت إلى جميع أوجه الحياة، سياسية كانت أم اقتصادية أو اجتماعية.

“ريكاردو غارسيا”.. صانع النصر ومعلم حب الوطن

بما أن كرة القدم كانت قاطرة التغيير في هذه البلاد، فقد شكل تعاقد الاتحاد البيروفي لكرة التعاقد مع المدرب الأرجنتيني “ريكاردو غارسيا” في فبراير/شباط 2015 لبِنة التغيير الأول كرويا واجتماعيا.

فبعدها بعدة أشهر في 2016 كان الحصاد، إذ هزم منتخب البيرو نظيره البرازيلي في كوبا أمريكا بعد 41 عاما. وفي تلك المباراة طرد “دونغا” مدرب المنتخب البرازيلي، وخرجت البرازيل من البطولة على يد مجموعة تلعب في الدوري المحلي، هذا الفوز المهم غيّر الفريق، وأعطى اللاعبين جرعة من احترام الذات والثقة بالنفس.

وعند توليه مهمته صرح المدرب “غارسيا” أنه يريد من اللاعب البيروفيين أن يؤمنوا بمهاراتهم. وقال: سنصل إلى مجموعة تعرف ما تريده، لا أحد فيها يحظى بأهمية أقل أو أكثر من الآخر. سنبحث عن فريق يمثلنا ويتناغم مع تاريخ البيرو.

المدرب “ريكاردو غارسيا” يصنع أجواء ترفع من معنويات الفريق فيتأهل إلى مونديال روسيا 2018

ويبدو أن تأثير “غارسيا” على اللاعبين تجاوز كرة القدم إلى تعليم لاعبي المنتخب حب الوطن وإعطاء الأولوية له واحترام الجميع بغض النظر عن مهنته، وغيّر عقليتهم وجعلهم يؤمنون بأنهم يستطيعون تحقيق الفوز.

وحتى “خوان كارلوس” المدير الرياضي في منتخب البيرو، يؤكد أن التأثير امتد إلى الشعب الذي بدأ “يشعر بأنه متحد مع الفريق، لأنهم لاحظوا أنه في الفوز أو الخسارة لا يتوقف اللاعبون عن القتال”.

“نسترجع الشعور بالفخر في انتمائنا”.. فرحة التأهل

هذه الأجواء التي صنعها المدرب “ريكاردو غارسيا” أعطت دفعا للفريق، وشكل الفوز على فنزويلا في إحدى مباريات تصفيات أمريكا الجنوبية المؤهلة لمونديال روسيا 2018 بداية تغيير جيل الفريق وإيمانه بأنه قادر على عبور هذه التصفيات والتأهل إلى المونديال.

واصل الفريق سلسلة انتصاراته ونتائجه الجيدة، واحتل المركز الخامس في تصفيات أمريكا الجنوبية، وعبر إلى ملحق أمريكا الجنوبية-أوقيانوسيا، وتعادل مع نيوزيلندا في الذهاب على أرضها، ثم هزمها في عاصمته ليما، وحجز آخر تذاكر المتأهلين إلى المونديال الروسي. وعن هذا التأهل يقول “راؤول رويدياز” لاعب المنتخب البيروفي: إن التأهل لمونديال روسيا أنسانا سنوات الإحباط، ودفع عنا سنوات عدة من السلبية والتشاؤم.

الجمهور البيروفي يسافر لروسيا من كل العالم ليشجع منتخب بلده في أول مشاركاته في كأس العالم

وتقول الصحفية البيروفية “باتريشيا ديل ريو”: أطفال البيروفيين الذين اضطروا لرعاية عائلاتهم خلال التسعينيات في ظل الإرهاب والأزمة الاقتصادية التي خيمت على رؤوسهم، هم لاعبو كرة القدم الحاليون، ويعرفون أن أهاليهم صمدوا وربوهم بعد أن بذلوا جهودا مضنية. ليحصلوا على ظروف حياة أفضل، وهو الجيل الذي سيتولى قيادة البلاد، هذا هو الجيل الذي يعرف تكلفة الأشياء، ولديه نوع من الحاجة إلى رد الجميل.

ويتحدث “بيدرو أكوينو” لاعب منتخب البيرو عن ظروف حياته التي تدفعه إلى الأمام قائلا: كانت حياتنا صعبة عندما كانت ابنتي طفلة صغيرة، وأنا أحب تذكر تلك الأوقات، لأنها تجعلني قويا أقاتل من أجل ما أحب؛ زوجتي وابنتي ووالدتي وشقيقاتي الذين كانوا موجودين من أجلي دائما، ودعموني عندما كنت صغيرا.

أما رئيس الوحدة الفنية لليافعين في المنتخب البيروفي “دانييل أحمد” فيشرح أسباب عدم التأهل خلال الفترة الماضية قائلا: خلال الأعوام الـ36 الماضية التي لم نصل فيها إلى كأس العالم، كنا نلقي اللوم على المدرب أو اللاعب الذي لا يهتم بنفسه ولا يتمتع بذهنية الفوز، ولكن هؤلاء ليسوا سوى ضحية نظام سيئ للغاية.

وتتحدث المغنية “إيمي” عن أجواء الوحدة التي صنعها المونديال قائلة: إن التأهل إلى المونديال جعلنا ننظر إلى بعضنا، ونتذكر أنفسنا كجماعة، ونسترجع الشعور بالفخر في انتمائنا، وهذا إحساس ثمين. إن كان في استطاعة كرة القدم أن تتحول إلى منصة بشكل ما لنبدأ الحديث أو نستمر في التحدث عن هذه الأمور مجددا فهذا مبهر.

خسارة بشق الأنفس وانتصار.. أداء استثنائي ضد الفرق العريقة

بعد نشوة التأهل التي وضعت الشعب البيروفي على سكة التوحد بمشاركته المنتخب في مونديال روسيا، قدم المنتخب البيروفي أداء استثنائيا في المونديال رغم وقوعه ضمن مجموعة ليست سهلة، وتضم فرنسا (التي فازت باللقب) والدانمارك وأستراليا.

ولم يكتفِ منتخب البيرو بالمشاركة المشرفة أو تقديم صورة حسنة عن كرة القدم في بلاده، بل كان قاب قوسين من التأهل إلى الدور الثاني من البطولة.

ضربة جزاء ينفذها لاعب منتخب البيرو في مونديال روسيا 2018

ففي مباراته الأولى ضد الدانمارك خسر بشق الأنفس بهدف دون رد، بعد أن أهدر لاعبوه عشرات الفرص من بينها ركلة جزاء، وكان منتخب البيرو ندا قويا أمام منتخب فرنسا، وخسر أيضا بهدف نظيف، وفاز بالثلاثة على أستراليا ليحصد 3 نقاط ويخرج بفعل فارق الخبرات مع المنتخبين الفرنسي والدانماركي.

“لم يجدوا الوقت لأخذ أبنائهم إلى كرة القدم”

هناك كثير من المنتخبات التي شاركت في المونديال بعد سنوات طويلة من الغياب، فلماذا كل هذه الضجة والأهمية والحدة التي رافقت عودة البيرو إلى المونديال؟

يلخص “خوليو سيزار أوريبي” اللاعب السابق في المنتخب الصورة بالقول: الأمر يتعلق باللحظات الصعبة التي كان عليّ أن أعيشها في حياتي، لكن الحمد الله كنت قادرا على تخطي الصعاب، بيد أن كثيرين لا يستطيعون فعل ذلك، ربما لأنهم لم يتلقوا تعليما جيدا، أو المجتمع أحبطهم، أو لأن انعدام المساواة جعلهم عنيفين، فالسارق يريد أن يأكل ويحتاج إلى العمل، ولا يتوفر أي مشروع اجتماعي لمساعدتهم، ليس لدينا شيء لطالما كان مجتمعنا من دون هدف.

عصفت بالبيرو في الثمانينات والتسعينات حروب أهلية وخارجية لم تتح للناس الاهتمام بكرة القدم

أما الصحفية “باتريشيا ديل ريو” فتسأل عن إمكانية الحصول على لاعبين بارعين في مجتمع مكتئب مثقل بأزمات متشعبة، مثل أعمال العنف والأزمات الاقتصادية، وأمور أخرى كانت تشغل بال الآباء خلال التسعينيات. ويؤكد الصحفي “بيدرو غارسيا” كلام زميلته “باتريشيا” بالقول: لم يجدوا الوقت لأخذ أبنائهم إلى كرة القدم، فقد كانوا مشغولين بشراء الحليب أو تجنب الموت بسبب قنبلة.

وكانت قد عصفت بالبلاد في تسعينيات القرن الماضي أزمات سياسية واقتصادية ومالية واجتماعية استمرت سنوات، ودمرت البلاد في مختلف الصعد، وبالأخص اجتماعيا.

تقول الصحفية “باتريشيا”: لسنوات عدة كانت بلادنا تسير بلا هدف، ولم يكن المواطنون يجرؤون على المطالبة بحقوقهم، وجعلونا نصدق في الثمانينيات والتسعينيات أننا لا نستحق شيئا، فكيف يمكننا مطالبة المنتخب الوطني بتحقيق إنجاز في ظل هذه الظروف، في حين أننا لم نكن نطلب من الساسة الامتناع عن السرقة حتى؟

“نحن بلد عنصري للغاية”.. سد الطبقية يغلق طريق التقدم

ويقول “لويس أدفينكولا” لاعب منتخب البيرو: عشت طفولة صعبة، لكنني ممتن دائما لأمي، فبفضلها أصبحت ما أنا عليه اليوم. البيرو دولة فيها تنوع هائل من الأعراق، وفي الوقت نفسه نحن بلد عنصري للغاية، نهتم بالعرق والمكانة الاجتماعية، وأظن أن كثيرين هنا عانوا بسبب العنصرية في مرحلة ما في حياتهم، حدث هذا لي بينما كنت ألعب كرة القدم. حدث هذا معي عندما كنت طفلا، وأظن أن ذوي البشرة السوداء والكولوسيون وسكان سيبيرا جميعهم بيروفيون متساوون، وتنوع الأعراق أمر جيد يحسب لمنتخبنا الوطني، لو لم ألعب كرة القدم لكنت -غالبا- لا أزال أعاني بسبب العنصرية.

بسبب العنصرية، كان البيروفيين السود يمنعون من الوصول إلى كثير من المرافق داخل البيرو

ويفسر الصحفي والمؤرخ “جايمي بولغار فيدال” أسباب الأزمات في البيرو بقوله: الشعب يعيد انتخاب الساسة الفاسدين باستمرار، ونعلم أنهم يستخدمون سلطتهم لمنافعهم ومصالحهم الشخصية.

وهذه الأزمات يضاف إليها موضوع العنصرية تجاه الشعوب الأصلية والملونين. وتروي الأستاذة الجامعية “غابريلا كاريلو” قصة عنصرية وقعت في مكان عام، إذ تقول: اصطحب شابٌّ أطفالا إلى مركز تجاري، فأوقفهم رجل أمن بسبب لون بشرتهم السمراء، عندها سأل الرجل الأبيض الطويل عن المشكلة، فكان جوابه: أعتذر إن كانوا معك فيمكنهم الدخول. هناك تمييز ضد أصحاب البشرة السمراء، ثم نطلب منهم الفوز في الملعب، لعل الخسارة هي طريقتهم في الانتقام من هذا المجتمع الذي يحط من شأنهم.

“طبقة غير وطنية تسرق من الشعب”.. إرث الغزاة الإسبان

تذهب الممثلة المسرحية “تيريزا رالي” بعيدا في شرحها لجذور المشكلة قائلة: عندما أتى المستعمرون الإسبان قبل عدة قرون وكان لون بشرتهم مختلفا، استعبدونا ووضعونا تحت الأرض لاستخراج الذهب، وقتلوا المئات من شعبنا، وأبقونا بعيدين عن ثقافتنا وعاداتنا، وجعلونا نظن أننا أقل منهم شأنا بسبب لون بشرتنا.

وتتابع: في الماضي وخلال الحرب مع التشيلي، زودت الدولة الفاسدة سفينتنا الحربية الوحيدة بالفحم منخفض الجودة، وفي الحاضر، ترى القمامة خلف المستشفيات ويدخل أقاربك إلى غرفة الطوارئ وعليهم الانتظار 3 أيام قبل مقابلة الطبيب. لم تتغير الطبقة الحاكمة، إنها طبقة غير وطنية تسرق من الشعب.

البيروفيون يتوقون للنجاح وإلى الوطن الواحد الناجح في كل شيء

ويذهب عالم الآثار “أليكس هويرتا” إلى أكثر من ذلك، ويقول: الأمر المضحك أنه بالرغم من حصولنا على استقلالنا منذ 200 عام، فإن ذهنية ما بعد الاستعمار هذه بقيت على ما كانت عليه. فالمشكلة تكمن في أننا لا نستطيع الحديث عن هوية بيروفية موحدة، لأن لدينا عدة هويات تصطدم ببعضها، وعندما نحاول التعايش نتحول إلى مزيج يصعب فهمه.

وتابع: لسنا معتادين على التخطيط طويل الأمد، فالأسعار ترتفع والعنف يزداد وثقافتنا حادة، نعيش اللحظة لأن يوم غد قد لا يأتي أبدا. وإذا كانت التعبئة الجماهيرية من سييرا إلى ليما سمة الثمانينيات، فإن فقدان الرسمية المتزايد في الحكومة كان سمة التسعينيات، فقد نشأت ظاهرة تبادل الخدمات السياسية من أجل المناصب، فكانت تمنح حسب المصالح، ومن أسوأ الأمور وأكثرها مأساوية أن الحكومة بدأت تتجاوز القانون لتحقيق أهدافها، وأن تصرفاتها غير الرسمية والقانونية باتت واضحة للعيان.

نماذج التغيير.. بصيص أمل يمزق تراكمات الظلام

يبقى الأمل بالتغيير موجودا بفضل نماذج كثيرة من الشعب البيروفي، فكان من بينهم من أسس أكاديمية لتدريب الأطفال وتعليمهم كرة القدم وإبعادهم عن العصابات والمخدرات، وسيدة أنشأت مدرسة لبرمجة الإنترنت للشابات ذوات الدخل المنخفض، كاسرة جدار مهنة البرمجة التي كانت حكرا على الرجال فقط في البيرو.

أكاديميات تدريب كرة القدم للأطفال في البيرو تساهم في إبعادهم عن عصابات الشوارع والمخدرات

وهناك أيضا مزارع سابق بدأ قبل 20 عاما حركة في مجتمعه لإيقاف تدهور إحدى أكبر الغابات في البلاد وحافظ عليها وأسس مشاريع للتنمية المستدامة ليعيش من الغابة دون تدميرها.

ويلخص “رودريغو” عضو رابطة مشجعين لكرة القدم القصة بالقول: إن كرة القدم هي أول من يجمعنا، ولعلها الشيء الوحيد، أثبتت كرة القدم أنها قادرة على جمع كافة طبقات المجتمع لدعم منتخبنا الوطني.