كرة القدم المصرية.. لعبة الإنجليز التي تحررت من عباءة الاحتلال

الرياضة شأنها شأن الثقافة والفنّ والسياسة والعادات الاجتماعية للشعوب، لها بصمتها الخاصة على من يمارسونها، تحتمل في أحد جوانبها اللهو والتسلية والاستمتاع، لكن لها جوانبها الأخرى من التحدي وإثبات الذات وحب الانتصار، بل والصمود والمقاومة إذا كان ذلك الشعب في مواجهة مع قوة غاشمة تهدده.

ولا تخرج كرة القدم عن هذا السياق، فهي وإن كانت صناعة إنجليزية خالصة، فقد غدت خلال سنوات معدودة لغةً تفهمها شعوب الأرض قاطبة، ويتنادى لأجلها الشباب والدول لإقامة البطولات والمنافسات، ولا تخلو حكاياتها من طعم المتعة، وطعم المقاومة والتحدي والثورة.

في هذه الحلقة من سلسلة “حكايات عن الكُرة والحرية” التي عرضتها قناة الجزيرة الوثائقية، نستعرض نشأة اللعبة الأكثر شعبية في مصر، وظروف ولادتها في ظل حقبة الاحتلال البريطاني لمصر، وكيف أصبحت أداة مقاومة سلمية تلتف حولها الجماهير للتعبير عن الغضب والثورة ضد هذا الاحتلال البغيض.

كرة القدم.. توجيه طاقات الطلاب إلى اللعب بدل المقاومة

بدأ تاريخ الحركة الوطنية المقاوِمة في مصر بعد الاحتلال البريطاني للبلاد عام 1882، فقد اكتشفت السلطات البريطانية جمعية سرية اسمها “جمعية الانتقام”، تشكلت للانتقام من المحتل وجنوده، وكان أحد أعضائها سعد زغلول الذي سيصبح لاحقا من أهم الرموز الوطنية المصرية.

بعد دخول الإنجليز إلى مصر كانت لهم أحياؤهم الخاصة، وكانوا يمارسون بساحاتها لعبتَهم المفضلة كرة القدم، وقد تأثر بهم العمّال المصريون الذين كانوا يعملون لديهم، فنقلوا لعبة “الكرة المنفوخة” هذه إلى بقية المصريين.

ومثل أي مهنة أو هواية أخرى، فإن التواصل البشري هو الأساس في انتقالها بين الشعوب، فكذلك الحال مع كرة القدم، فقد أصبح المصريون يلعبونها في الحارات والشوارع بدون قواعد أو قوانين مُعرَّفة.

انتقلت لعبة كرة القدم من الساحات الخاصة بالمحتل الإنجليزي إلى حارات مصر

كان الإنجليز أنفسهم حريصين على انتقال هذه اللعبة إلى المدارس المصرية، وذلك من أجل أن يفرغ الطلاب طاقاتهم فيها، ولا يفكروا فيما سواها من السياسة ومقاومة المحتل، وعمدت وزارة التعليم فيما بعد إلى اعتماد اللعبة كمادة أساسية في المدارس.

وقلما اجتمع المصريون مع المحتلين على شيء مثل اجتماعهم على كرة القدم، فكانت تقام المباريات بين فِرق إنجليزية ومصرية، وسرعان ما أصبحت هذه اللعبة الشغلَ الشاغل للطبقات الفقيرة من الشباب المصريين المحرومين من اللهو والفرحة على مدار حياتهم.

هزيمة المحتل.. لعبة وحدت طبقات الشعب ضد العدو

في البداية وُوجهت هذه اللعبة بالاحتقار والكُرهِ الشديدَيْن من قبل الطبقة الغنية المصرية، لا لشيء إلا لأن الفقراء يحبونها، ولكن ما هي إلا سنوات قليلة حتى اجتمع على هذه اللعبة جميع طبقات الشعب المصري، حبا في الانتقام من ظروفهم القاسية، ومن الإنجليز، عدوهم المشترك.

أسس محمد أفندي ناشد فريقا مصريا لكرة القدم كان يسميه “التيم”، ودعا فرقة “أورانس” الإنجليزية لملاعبته في “قرة ميدان”، وتذكر الصحافة القديمة أن المباراة انتهت لصالح المصريين بنتيجة 2-0، وكان هذا مبعث زهوٍ وافتخار للشعب المصري بعامة، فقد اكتشفوا أنهم يستطيعون هزيمة المحتل البريطاني في مجالات عدة.

انتشرت كرة القدم أولا في الطبقة الفقيرة من المجتمع المصري وكانت شكلا من سعادتهم

ثم ظهرت عدة فرق شعبية مصرية، بأسماء طريفة مثل “الأسد المرعب” و”الكتكوت المفترس”، لكن النشاط الكروي في مصر بدأ بتشكيل فِرق من الجاليات الأجنبية، إلى جانب الفرق الكروية في المدارس الثانوية والعليا، وكان التنافس بين الفرق المصرية والأجنبية يأخذ في غالب الأحيان الطابع الوطني وإثبات الذات المصرية في وجه المحتل.

تأسس نادي المدارس العليا على يد مصطفى كامل وعمر لطفي، حتى يتسنى للطلاب ممارسة النشاطات الاجتماعية والثقافية والسياسية في وجه الإنجليز، وكانت عضوية الطلاب تنتهي تلقائيا بانتهاء دراستهم في هذه المدارس، ومن هنا فكر عمر لطفي في إعادة لمّ شمل هؤلاء الطلاب بعد تخرجهم، فولدت من هذه اللحظة فكرة النادي الأهلي للألعاب الرياضية في أبريل/ نيسان 1907.

النادي الأهلي.. نواة الفرق الوطنية المصرية الثائرة

افتُتح النادي الأهلي رسميا في فبراير/شباط 1909، لكن انطلاقة كرة القدم الحقيقية في النادي كانت في 1911، واجتمع عليه المصريون من أجل “تمصير” كرة القدم، وكانت فكرة القائمين عليه أنه مشروع وطني، مثل باقي المشاريع القومية المصرية في مواجهة مشاريع الاحتلال الإنجليزي.

كانت محاضر اجتماعات النادي تكتب باللغة العربية فقط، وكان إذا اضطر لمخاطبة جهات أجنبية يخاطبهم باللغة الفرنسية، ولم يكتب إلى أي جهة باللغة الإنجليزية بتاتا، ثم عمت فكرة النادي الأهلي في عدة مدن مصرية، مثل المنصورة والزقازيق وأسيوط وسوهاج، حتى يكون للشباب المصري تجمعات رياضية في مواجهة التجمعات والنوادي الأجنبية.

في عام 1911 تأسس النادي الأهلي كأول ناد مصري ليس فيه أجانب

ولهذا كان تشجيع النادي الأهلي في أنحاء مصر، نابعا في الأساس من فكرة سياسية خالصة، مبنية على مقاومة المحتل الإنجليزي في جميع مناشط الحياة المصرية، وتبعه في هذا نادي الاتحاد السكندري الذي تأسس عام 1914 من اندماج عدة فرق شعبية في الإسكندرية، ثم جاء النادي المصري سنة 1920 والإسماعيلي في 1921.

نادي الزمالك.. بداية مختلطة ونهاية مصرية خالصة

رغم وجود نوادٍ أخرى مختلطة بين المصريين والأجانب، ويقوم على إدارتها مجالس أجنبية في الغالب، مثل نادي بور وفؤاد، والنادي المختلط الذي تأسس سنة 1911 بإدارة أجنبية، فقد حاول إبراهيم جهينة مع بعض المصريين الاستيلاء على إدارة نادي المختلط عام 1917، مستعينا ببعض “الفتوّات”، وبالفعل أُبعدت الإدارة الأجنبية عن النادي مدة 20 يوما.

لجأ الأجانب للنائب العام، واستصدروا قرارا بإعادة الإدارة السابقة بعد 20 يوما، لكن تُحسب لإبراهيم جهينة هذه الخطوة الجريئة لتمصير النوادي الرياضية، ثم تسلمت إدارةَ النادي المختلط (نادي الزمالك لاحقا) أولُ إدارة مصرية برئاسة محمد حيدر باشا الذي أصبح وزير الحربية في الأربعينيات.

انتشرت النوادي الرياضية في طول البلاد وعرضها، وأصبحت الحاجة ماسة لتنظيم بطولات تتنافس فيها هذه الفرق، فكانت فكرة الإنجليز إيجاد بطولات هجينة تتنافس فيها الفرق المصرية مع الأجنبية، لكن كان للمصريين رأي آخر، فقام النادي الأهلي بتنظيم بطولة رياضية لفِرق المدارس العليا في كرة القدم والرياضات الأخرى.

في عام 1917 تحول الفريق “المختلط” إلى فريق مصري خالص ودعي من يومها باسم الزمالك

قدّم أحمد حشمت كأس كرة القدم، بينما قدم عزيز عزت كأس الرياضات الأخرى، واحتشد الناس على باب النادي الأهلي يشترون التذاكر لحضور المنافسات، وقامت الصحف بتغطية أخبار هذه البطولة، وتدريجيا اختفت البطولات والمسابقات الهجينة، ولم تستمر في عموم القاهرة إلا بطولة النادي الأهلي لكرة القدم والرياضات الأخرى.

كأس السلطان حسين.. انقلاب السحر على الساحر

في 1916 قام نادي “المختلط” بتأسيس الجمعية المصرية الإنجليزية لكرة القدم، ودعا إلى بطولة أسماها كأس السلطان حسين، وذلك من أجل اجتذاب المصريين إلى هذه الجمعية، بيدَ أن الأهلي لم يشارك في هذه البطولة لأنه رأى أن التمثيل المصري كان ضعيفا فيها، لكن في السنوات التالية، وبعد زيادة عدد المصريين في الجمعية بدأ الأهلي يشارك فيها.

كانت الجمعية المصرية الإنجليزية لكرة القدم مجرد بداية، وكان طموح رجالات الرياضة المصرية هو تأسيس اتحاد مصري خالص لإدارة اللعبة على مستوى عموم البلاد، وقاد هذه الفكرة حسين حجازي وإبراهيم جهينة، لتنضوي تحت هذه المظلة جميع النوادي المصرية، وتكون لها بطولاتها المستقلة تماما عن المحتل الأجنبي.

صورة تجمع أوائل رؤساء الاتحاد المصري لكرة القدم الذي أسس سنة 1919

تزامن ذلك مع تحرك الشارع المصري بشكل عام من أجل الحصول على استقلاله الوطني، وذلك من خلال توحده تحت راية ثورة سعد زغلول في 1919، وقد كانت هذه الثورة نتيجة مباشرة لتبعات الحرب العالمية الأولى، والأضرار الكبيرة التي خلفتها هذه الحرب على الطبقة الوسطى والشارع المصري عموما.

كأس مصر.. خروج كرة القدم من عباءة المحتل

بعد تأسيس الاتحاد المصري لكرة القدم، بدأ نشاطه بتقديم أول بطولة مصرية خالصة باسم كأس التفوق المصرية، ثم تغيرت فيما بعد إلى كأس مصر، كان ذلك في 1921، ومنذ ذلك الوقت توجهت الجماهير المصرية لتشجيع فرقها المصرية، وانصرفت كليا عن حضور النشاطات الأجنبية.

الاتحاد المصري لكرة القدم ينظم أول كأس مصري سنة 1921

في عام 1922 أعلن النادي الأهلي أنه لن يشارك في أي بطولة أو مباراة لا تكون تحت راية الاتحاد المصري لكرة القدم، وتبعته في ذلك أندية أخرى كثيرة، بل امتد هذا التوجه إلى الرياضات الأخرى. لم تكن مصر حصلت على استقلالها بعد، لكن الرياضة المصرية وكرة القدم خصوصا تحررت بالكامل تقريبا من القيود الأجنبية.

وتُوِّجت هذه الجهود في عام 1934 عندما تداعى رجالات الرياضة والاتحادات والأندية إلى اجتماع في النادي الأهلي، أسفر عن ولادة اللجنة الأولمبية المصرية، وهي هيئة مصرية خالصة مستقلة تماما عن سلطات الاحتلال البريطاني.