بغداد جراح الروح.. ابنة المنصور الحسناء التي أنهكتها المآسي

لمثل بغداد تهفو النفوس وفيها يحلو الشعر والتغني، بغداد هي صرح العلوم ومناره ودار السلام وآسرة القلوب. أسرارها عميقة وواضحة في ذات الوقت.

فيها شهرزاد واقفة تحكي روايات ألف ليلة وليلة، وفيها الحزن، فهي الجرح الغائر في ضمير كل عربي ومسلم.

دَمعٌ لـبـغـــداد.. دَمعٌ بالـمَـلايـيــن
من لي بـبـغــداد أبـكـيـها وتـبـكيـني؟

مَن لي ببغداد؟ روحي بَعدَها يَبـسَـتْ
وَصَوَّحـتْ بَعـدَها أبـهـى ســناديـني

عـدْ بي إلـيهـا.. فـقـيرٌ بَعـدَها وَجـعي
فـقـيـرَة ٌأحـرُفي.. خُـرْسٌ دَواويـني

بغداد مدينة عريقة قامت على أعتابها الحضارة وازدهر العلم، وسطّر التاريخ الإسلامي فيها أوج عظمته، فهي عاصمة الخلافة العباسية ورمز للحضارة العربية والإسلامية في أبهى صورها، ويزدحم تاريخ المدينة بقصص الجمال وأطماع الغزاة والحروب، ويغوص بنا في ذلك التاريخ فيلم “بغداد.. جراح الروح”، وهو جزء من سلسلة “قلب مدينة” التي تبثها قناة الجزيرة الوثائقية.

تمثال المنصور.. تكريم الخليفة الذي أنشأ بغداد

أسس مدينة بغداد الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور وجلب إليها أفضل المهندسين وصناع والمدن الذين بدأوا البناء فيها عام ١٤٥ هجرية، وقد اختار لها اسم “دار السلام” إما تيمنا بالجنة أو تيمنا بأحد أسماء الله الحسنى، وقد بنيت المدينة في الجانب الغربي لنهر دجلة، وأوعز المنصور للمهندسين أن تبنى على شكل دائري ليصبح هذا اتجاها جديدا في فن العمارة.

يومها أصبحت بغداد تعرف بالمدينة المدوّرة، ويقول الكاتب مظفر أحمد إن المدينة المدورة بنيت في المنطقة التي يتقارب فيها نهر دجلة والفرات في أقصر مساحة بحوالي 60 كيلومترا، وبنيت في منطقة الكرخ.

بغداد الرشيد.. المدينة المدوّرة بناها الخليفة المنصور

أحيطت المدينة بثلاثة أسوار مرتفعة، وجعل لها المنصور أربعة أبواب عظيمة يحمل كل باب منها اسم البلدة المتجه نحوها، وهي باب الشام وباب خراسان وباب البصرة وباب الكوفة، وأوصل المياه إلى بيوت المدينة عن طريق قناة، حيث أخذ جزءا من نهر دجلة وجزءا من نهر الفرات وأوصل المياه دون انقطاع، وفي وسط المدينة المدورة بني قصر الخلافة بقبته الخضراء فأصبحت رمزا وتاجا للدولة، وبشكل متناهي الدقة أحيط القصر بدواوين الحكم والخزائن ومكاتب الدولة وشؤون الوزراء، تلتها البيوت والأسواق.

بعد ذلك اتسعت المدينة عندما أمر المنصور ابنه المهدي أن يبني الضفة الشرقية لنهر دجلة بجانب الرصافة، وربط شطري المدينة بجسر وسط بغداد.

اختيرت بغداد بالقرب من النهر لأسباب أمنية واستراتيجية ولم تعد بغداد عاصمة سياسية فقط، بل هي من أنتجت الحضارة الإسلامية وكانت الوسيط الذي نقل تلك العلوم والمعارف العظيمة إلى الغرب، وفي وسط بغداد ما يزال تمثال أبي جعفر المنصور حاضرا، وذلك امتنانا لجهوده فهو الذي جلب لها الأفضل من كل شيء لتغدو عاصمة الدنيا، ومن أبرز معالم المدينة الباب الوسطاني بالقرب من الرصافة.

عصر بغداد الذهبي.. مدينة الثورة العلمية

شهدت بغداد في الخلافة العباسية العصر الذهبي للعلوم، ولئن كان معظم الآثار العباسية ضاع وأتلف بفعل فاعل أو فاعلين، أو بسبب تقادمها، فإن روح تلك الحقبة علقت فيها. ومن أبرز أعلام تلك الفترة أبو حنيفة النعمان صاحب المذهب الحنفي، وينتسب إلى الكوفة جنوب العراق، وقد اختاره الخليفة المنصور ليكون أحد المشرفين على بناء بغداد، وعندما انتهى البناء نقل مجالس علمه إليها، حتى توفي عام ١٥٠ هجرية واليوم أصبح ضريحه في الأعظمية معلما بارزا ومزارا.

الخليفة المنصور يستقطب علماء العراق لتشييد بغداد دار السلام

أما هارون الرشيد خامس خلفاء بني العباس فهو أعظمهم على الإطلاق، وفي عهده اتسعت الإمبراطورية الإسلامية شرقا وغربا وعاشت بغداد عصرا ذهبيا، فقد كان قصره مركزا علميا، وفي عهده أصبحت دار السلام مضرب المثل بين حواضر العالم، وتحولت إلى مدينة للترجمة والتأليف في جميع المناحي كالطب والفلك والهندسة والرياضيات والكيمياء وسائر العلوم.

في تلك الفترة انتشر الوراقون في شوارع بغداد ونسخوا الكتب ودققوها وجلدوها، وقصدها العلماء وطلاب العلم من كل حدب وصوب، وفي عام ٨٤٠ للميلاد قام الرشيد بإنشاء بيت الحكمة، وهو صرح علمي ملأ الدنيا نورا وتنويرا، كانت المكتبة تضم مئات الآلاف من الكتب، وهي مركز للترجمة والتأليف.

ويقول د. عياش خليل المتخصص في التاريخ في عصر هارون الرشيد إن هذا الخليفة أسس أول بذرة لأكبر جامعة في التاريخ، وقد استوفد لبيت الحكمة أكابر القراء واللغويين والمترجمين، وأنفق الكثير على العلم.

عصر المأمون.. ثورة الفلسفة والرياضيات

بعد الخليفة هارون الرشيد جاء ابنه المأمون الذي شهدت بغداد في عصره تألقا عظيما في الحضارة وتطورا لا حدود له في العلوم، وكان المأمون يعطي المؤلفين والمترجمين أوزان كتبهم ذهبا. وفي هذه الحقبة ترجم العرب الكتب اليونانية والفارسية والهندية، ولذا اكتسبت اللغة العربية مكانا مرموقا وتحولت للغة آداب وفلسفة، وكان لدى المأمون رغبة عجيبة في العلم، وقد عرف بذكائه وبأنه صاحب عقلية علمية فذة.

وكان المأمون يرعى مجالس العلم كالرياضين والفلكيين، واختار أمهر المترجمين، وطلب أن توضع خريطة للعالم الإسلامي لتمكين المسلمين من تحديد القبلة وأشرف بنفسه عليها، وكانت أدق خارطة حتى ذلك الوقت، وقد وضع تلك الخريطة أبو عبد الله الخوارزمي أيقونة عصره وهو من علماء الرياضيات المسلمين الذين حظوا بثقة المأمون، فولاّه إدارة بيت الحكمة، كما أنه مؤسس علم الجبر والمثلثات المعروف بالخوارزميات، وقد أبتكر جدولا لحركة الشمس والقمر، وكان ذلك نقطة تحول في علم الفلك.

أشهر علماء الإسلام خرجوا من كنف بغداد المأمون بن الرشيد

ومن أشهر العلماء في تلك الفترة أبو بكر الرازي، وهو من أعظم أطباء الإنسانية على الإطلاق، وقد وضع تشريحا للجسم البشري، وهو مبتكر خيوط الجراحة.

ومن أعلام تلك الفترة أيضا أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي، وقد أوكل إليه المأمون الإشراف على ترجمة الأعمال الفلسفية والمنطق اليوناني، وهو من أهم المترجمين رغم تكريس جهوده للفلسفة والتوفيق بينها وبين العلوم الإسلامية، وبرع أيضا في الرياضيات والطب والكيمياء والموسيقى.

ومن علماء الفقه الذين ذاع صيتهم زمن المأمون الإمام أحمد بن حنبل وهو ابن بغداد، وقد عارض المأمون في مسألة خلق القرآن وتعرض للسجن والتعذيب، فقد كان المأمون ينتمي لمذهب المعتزلة الذي يقولون بخلق القرآن، وكان هذا زمن محنة للناس لأنه خلاف يمس العقيدة الإسلامية.

وفي القرن الرابع كان هناك حضور للفلسفة، وحدث جدل حول المنطق الإغريقي وكيفية الاستفادة منه، ومن الكتب التي حفظت جزءا من هذا الجدل كتاب الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي.

إن تأثير بغداد ودولتها كان مدويا على العالم بأسره حتى إن العملة البغدادية وصلت إلى البلطيق وتجاوزته إلى فنلندا.

زرياب الأسمر.. فنان بغداد الذي أطرب المشرق والمغرب

كان الإبداع حاضرا بقوة في الدولة العباسية. وهنا لا يمكن تجاوز الطائر الأسود (زرياب)، وهو أبو الحسن بن نافع الذي ملأ الدنيا فنا وطربا وإبداعا، وإليه يرجع الفضل في تطوير الموسيقى في العالم كله، وقد جعل للعود وترا خامسا، وكان مقربا من الخلفاء في بغداد، لكنه انتقل الى القيروان ثم إلى الأندلس ونزل قرطبة، وكان صاحب الفضل في ولادة الموشحات الأندلسية.

زرياب.. أشهر الموسيقيين العرب أضاف للعود وترا خامسا

يقول حسين الأعظمي سفير المقام العراقي: العراقيون هم أسياد العود من زرياب إلى اليوم، والمدرسة الوحيدة في الشرق الأوسط هي المدرسة العراقية، وعندما نقول مدرسة لا نعني قوة العزف لأنه فقط تطبيق لفكرة المدرسة.

وللحرف قصة إبداع في بغداد، فهناك عاش شيخ الخطاطين ابن مقلة خطاط العربية الأشهر وصانع خط الثلث، وهو من خط لبغداد تاريخ نهضتها خلال العصر العباسي.

المدرسة المستنصرية.. كعبة الأدباء والشعراء

لم تتوقف البصرة والكوفة في ذلك الوقت عن الإبداع، فمدرسة الأدب والشعر فيهما أقدم عمرا من بغداد، لكن بغداد أضحت محج الأدباء والشعراء، ويرى د. عياش خليل أن السلطة في بغداد وفرت مقومات الحياة والتغذية الفكرية والروحية للمبدعين فاستقطبتهم.

ويقول د. حيدر: هناك مدرستان نحويتان هما مدرسة الكوفة ومدرسة البصرة، وبينهما اختلافات في الاجتهاد النحوي عند التحدث عن الدرس النحوي، وفي بغداد درس يجمع بين المدرستين.

ما تزال المدرسة المستنصرية التي أسسها الخليفة المستنصر بالله عام ٦٣١ هجرية قائمة حتى يومنا

انتشرت في بغداد المدارس ودور العلم الكبيرة، ومن أشهرها المدرسة المستنصرية التي أسسها الخليفة المستنصر بالله عام ٦٣١ هجرية، وأعيد ترميمها في العصر الحديث كما كانت، وتوجد فيها مئة غرفة على طابقين، وكان يقيم فيها المعلمون والطلبة، وما ميزها أن المستنصر لم يحصرها في مذهب واحد.

وتقول الباحثة في العمارة البغدادية “سسيليا بييري”: العمارة الإسلامية في بغداد رائعة، والنماذج الباقية مثل القصر العباسي والمدرسة المستنصرية كانت في غاية الروعة وبطابع معماري استثنائي ليس فقط من حيث التفاصيل بالمقرنصات والمنحوتات، بل إنها جاءت متقنة للغاية، وهي مثال نموذجي للعمارة الإسلامية.

كثيرة هي معالم بغداد، لكن تبقى المراقد والمقامات هي الإرث الأكبر ومنها مرقد الإمام موسى الكاظم أحد أعلام الشيعة، والشيخ عبد القادر الكيلاني مؤسس الطريقة القادرية، ففي القرن الثاني الهجري ظهر كبار المتصوفة في بغداد.

سقوط الدولة العباسية.. ترنح بغداد اليتيمة تحت الغزاة

مثلما أن لكل بداية نهاية فقد بدأت الدولة العباسية تهوي، وبسبب ضعف الخلفاء قدم المغول في عام ٦٥٦ ومسحوا وجهها الحضاري، ولم يخلفوا وراءهم سوى الموت والدمار. ويرى د. حيدر سعيد أن السقوط كان حتميا، لكن بغداد لم تسقط بل إن الخلافة العباسية هي التي وصلت إلى مرحلة الضعف، وعندما دخل المغول لم يقدموا حضارة بل على العكس من ذلك احتوتهم الحضارة الإسلامية فأصبحوا مسلمين وأقاموا دولة إسلامية.

توالت الحضارات على بغداد بدءا من الخلافة الإسلامية مرورا بالتتار والعثمانيين ومن ثم العصر الحالي

كان سقوط بغداد مؤلما ومرت بأوقات عصيبة ومظلمة، إلى أن خضعت للخلافة العثمانية عام 1630 الميلادي، وقد ترنحت في الدولة العثمانية هبوطا وصعودا، لكنها شهدت حركة عمرانية كبيرة، وتعتبر “القشلة” من المعالم العثمانية التي بقيت شامخة على دجلة حتى هذا اليوم، وكانت في السابق معسكرا ومركزا لإدارة الدولة العثمانية.

ويرى د. حيدر سعيد أن تأثير الدولة العثمانية الذي استمر خمسة قرون كان الأكبر على بغداد، وهذا على مستوى العادات واللغة والمأكل.

أما المباني الحديثة اليوم فهي خليط جمع بين الإرث العباسي والعثماني مما جعل مبانيها متفردة. وتقول سسيليا بييري: ما ميز البيوت حتى الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي هو استخدام الطابوق التقليدي، وقد دمجوا نماذج سورية وإسلامية وحداثية في نفس البيت، فجاء الطراز إسلاميا سوريا أوروبيا بالطابوق.

بزوغ فجر الحركة القومية العربية

انتهت الدولة العثمانية مع احتلال العراق من قبل بريطانيا عام ١٩١٧ وكان زمن الاحتلال البريطاني ثقيلا على العراق، وظلت بغداد محتلة إلى أن جاءت الحرب العالمية الثانية وخرجت بريطانيا من العراق.

معروف الرصافي ابن الرصافة شاعر خلده التاريخ العربي

في بدايات القرن العشرين شهدت بغداد بزوغ فجر جديد وظهرت الحركة التحررية القومية العربية، وكان للشاعر الكبير معروف الرصافي دور ملهم للكثيرين، ومازال تمثاله أحد معالم بغداد الخالدة.

بغداد حسبك رقدة وسبات
أوَ ما تُمضُّك هذه النكبات

ولعت بك الأحداث حتى أصبحت
أذْواء خَطبِك ما لهنّ أساة

قَلَبَ الزمانُ إليك ظهر مجَنِّه
أفكان عندكِ للزمانِ ترات

ومن العجائب أنَ يمَسَّك ضرّه
من حيث ينفع لورعتك رُعاة

إذ من ديالة والفرات ودجلة
أمست تحُلّ بأهلك الكُرُبات

إن الحياة لفي ثلاثة أنهُر
تجري وأرضكِ حولهنّ مَوات

شارعا الرشيد والمتنبي.. رمزية الحضارة والأدب

شارع الرشيد هو شريان الحياة في بغداد، وقد شقه العثمانيون عام ١٩١٠ ليوصل أبواب بغداد القديمة ببعضها، وهو هوية بغداد ورمزها، ويحاذي نهر دجلة، وعندما شقه العثمانيون قوبل باعتراض شديد من أهل بغداد، لأنه أخذ معه الكثير من مباني المدينة، ودمر الكثير من الحمامات العامة والجوامع والبيوت. بني الشارع ليكون شانزليزيه بغداد وكان شارعا رئيسيا يضم المحلات التجارية والمكاتب الحكومية والبنوك، وقد تميز بناؤه بالأناقة، ويقوم على فكرة الشوارع المسقوفة ذات الأعمدة التي تقي من الشمس.

شارع الرشيد تم شقه ليكون شانزليزيه بغداد

أما شارع المتنبي فهو شارع العلم والأدب، وهو سوق لمثقفي بغداد، وفيه ازدهرت تجارة الكتب، ويضم مكتبات قديمة تعود للقرن التاسع عشر، وفيه المقاهي العريقة كالشابندر، وكانت المقاهي ذات دور بارز بالنهضة الأدبية والشعرية.

كما أن المقاهي كانت الحاضنة للمقام العراقي، وهو نوع من الغناء يؤدى باللهجة العراقية الدارجة. يقول حسين الأعظمي “المقام هو الغناء المحلي يعبر بمضامينه عن البيئة العراقية، ويتمتع بعمق عربي إسلامي تاريخيا وثقافيا، وتأثر بتأثيرات غرب آسيوية نتيجة الغزوات التي تعرض لها العراق منذ سقوط العباسيين إلى يومنا هذا”.

صنع في بغداد.. بزوغ الشعر الحر في سماء الأدب العربي

كان للشعر الحر حظوة في العراق الذي انطلق على يد نازك الملائكة والسياب، وكلاهما تخرجا من دار المعلمين العالية التي أنجبت أعظم الشعراء ومنهم شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري، أما نازك الملائكة فهي نسمة من نسمات بغداد، وهي أول من كتب الشعر الحر في قصيدتها الكوليرا التي أصدرتها عام ١٩٤٧:

 

في كَهْفِ الرُّعْب مع الأشلاء
في صمْت الأبدِ القاسي حيثُ الموتُ دواء
استيقظَ داءُ الكوليرا
حقْدًا يتدفّقُ موتورا
هبطَ الوادي المرِحَ الوضّاء
يصرخُ مضطربًا مجنونا
لا يسمَعُ صوتَ الباكي
في كلِّ مكانٍ خلَّفَ مخلبُهُ أصداء.

“سلام على بغداد”.. كتب بين الرماد

توالت الحروب على بغداد الحديثة، ففي عام ١٩٨٠ كانت الحرب العراقية الإيرانية التي أثقلت كاهل بغداد، وما إن بدأت بالتعافي حتى جاءت حرب الخليج الأولى عام ١٩٩٠، وفيها ذاقت بغداد المر وجاء الحصار، وأخيرا وصل التتار الجدد فاحتلتها القوات الأمريكية في أبريل/نيسان عام ٢٠٠٣.

لم ينس العراقيون سقوط بغداد، فالمشاهد على شاشة التلفاز كانت مؤلمة ومروعة. ويقول الشاعر العراقي عبد الرازق عبد الواحد: لن أنسى صورة ذلك العالم الأمريكي الذي كان ينظر للصواريخ التي تقصف بها بغداد وهو يقول بفرح “ما هذا الكرنفال”، لن أنسى لأمريكا هذا الفعل.

حروب متتالية استهدفت بغداد وحضارتها حقدا وكراهية

ويرى الشاعر حميد السعيد أن “المدن العظيمة لا تسقط، فبغداد تعرضت للغزو، لكن ذلك خلّف جرحا في الروح”.

والذين احتلوا بغداد يعرفون من تكون، لذا هدموها وطال الدمار معالم بغداد الحضارة والنور وكأن للموت طقس في بغداد. حرقت مكتباتها كما فعل التتار، ونهبت المتاحف ودمرت المعالم.

ويقول الشاعر حميد: عندما أحرقوا المكتبات العامة التي تحوي كنوزا ونفائس ومخطوطات لا مثيل لها، أتذكر أني كنت وقتها جالسا في حديقة بيتي، وكان الرماد يتساقط من بعض الكتب المحترقة بين الرماد، أخذت أقرأ الحبر الذي كان ظاهرا ومغايرا للون الاحتراق.. لا يمكنني نسيان ذلك المشهد المروع.

تفرق أهل بغداد في مشارق الأرض ومغاربها لكنهم بقوا أبناء بررة تسكنهم بغداد ويسكنونها، يفتخرون بهويتهم وانتسابهم، ويبكون حالها على لسان شاعرهم عبد الرازق عبد الواحد:

كبيرٌ على بغداد أنّي أعافُها
وأني على أمني لديها أخافُها

سلامٌ على بغداد شاخَتْ من الأسى
شناشيلُها.. أبلامُها.. وقِفافُها

وشاخت شواطيها، وشاخت قبابُها
وشاخت لفرط الهمِّ حتى سُلافُها

فلا اكتُنِفَتْ بالخمر شطآنُ نهرِها
ولا عاد في وسعِ النَّدامى اكتنافُها

سلامٌ على بغداد.. لستُ بعاتبٍ
عليها، وأنَّى لي وروحي غلافُها

فلو نسمةٌ طافتْ عليها بغيرِ ما
تُراحُ به، أدمى فؤادي طوافُها

وها أنا في السَّبعين أُزمِعُ عَوفَها
كبيرٌ على بغداد أنّي أعافُها