حركة حماس.. التنظيم الذي أعلى راية المقاومة المسلحة في فلسطين
قبل أكثر من ثلاثة عقود، في أوج الانتفاضة الفلسطينية الأولى، أثمر اجتماع بين مجموعة من قيادات إسلامية في منزل الشيخ أحمد ياسين، ميلاد حركة المقاومة الإسلامية وسط تقلبات وتحالفات عالمية جديدة، ألقت بظلالها على الداخل العربي بما في ذلك الأراضي الفلسطينية.
فصعدت حركة حماس سريعا وسط ذلك السياق المتموّج، واستفادت منه في البداية، ثم أصبحت فيما بعد تنظيما يطارده الخصوم في الداخل، ويصنفه الخارج على أعلى قوائم المطلوبين.
يقول الوزير الفلسطيني السابق علي الجرباوي في دراسة بعنوان “حماس، مدخل الإخوان المسلمين إلى الشرعية السياسية”: إن انبثاق وصعود الحركة الإسلامية داخل فلسطين كان نتيجة عوامل مركبة، ولعل أهم أسباب ذلك الصعود هو نجاح ما يعرف بالثورة الإسلامية في إيران، وتأثير الحركات الإسلامية في مصر.
ويعلق الجرباوي على ظروف الداخل الفلسطيني قائلا: في ذلك الوقت، شهدت الساحة العربية انحسارا شديدا للحركة القومية، في حين عانت الساحة الفلسطينية من تضعضع مكانة منظمة التحرير بعد خسارة الساحة اللبنانية سنة 1982، ويجب ألا يغيب التنويه بالمساعدات المالية التي تلقتها هذه الحركة من مصادر تمويل عربية محافظة، كانت تهتم بإيجاد توازنات سياسية داخل الساحة العربية والفلسطينية.
وبغض النظر عن السياقات السياسية المحلية والدولية المتشابكة والمعقدة، يدفع أبناء حركة حماس عنهم اتهامات من خصومهم “العلمانيين”، تقول إن حركة المقاومة الإسلامية قد ركبت قطار المقاومة المسلحة متأخرة، وأنها قد ولدت في محطة داخل طريق عُبّد لظهورها قبل عقود من نشأتها.
وفي كل الحالات فإن الحقيقة واحدة، وهي أن حركة حماس تخوض اليوم واحدة من أشد المعارك الحامية مع إسرائيل منذ بداية المد الصهيوني في المنطقة، مع أنها حركة فتية لم تتجاوز 4 عقود من نشأتها.
حركة حماس.. شعلة انبثقت من رحم الإخوان المسلمين
من غير الممكن تحسس مسار نشأة حركة حماس بوصفها حركة مقاومة، دون تتبع المسار الكامل للإخوان المسلمين في فلسطين، وقد بدأ نشاطه فعليا في أواخر العام 1945. يقول علي الجرباوي: انصبّت أولويات الحركة الإسلامية الممثِّلة للإخوان المسلمين على إصلاح الفرد، وإيجاد المجتمع الإسلامي القادر على إقامة الدولة الإسلامية، وبهذا التسلسل تنضج الأوضاع لفتح سجل مقاومة الاحتلال، وهي المقاومة التي ستبقى عدمية إن هي قامت من دون توفر شروطها الإسلامية. ولم تنجح الحركة الإسلامية في الحصول على تأييد قطاعات فلسطينية عريضة، بسبب خطابها وممارستها السياسية المناوئة لمنظمة التحرير والمنافسة للقوى الوطنية داخل الأرض المحتلة.
ويذهب الباحث في التاريخ المعاصر محسن محمد صالح على عكس ذلك في كتابه “حماس.. دراسات في الفكر والتجربة”، فيقول: بعد النكبة في العام 1948، كانت الحركة الإسلامية -ممثلة في الإخوان المسلمين- من التيارات الأكثر شعبية في الوسط الفلسطيني، خلال الفترة بين العام 1949-1954، وذلك لدورهم المشهود في الحرب في الضفة وقطاع غزة.
وقد اتخذ تنظيم الإخوان المسلمين في فلسطين شكل العمل العلني بافتتاح مقرات وفروع له أواخر العام 1945، وصلت إلى 25 فرعا في فلسطين، وعمل التنظيم منذ نشأته هناك على حملات الدعوة والتوعية الإسلامية والتعريف بالخطر الصهيوني.
وحسب كتاب “حماس.. دراسات في الفكر والتجربة”، فإن فروع التنظيم قامت بالتعبئة للجهاد، وفق القرارات الصادرة عن المؤتمرات العامة للفروع في العامين 1946 و1947.
يقول الباحث محسن محمد صالح مؤلف الكتاب: تنظيم الإخوان المسلمين في فلسطين شارك في الجهاد عند اندلاع حرب 1948، إلا أن حداثة تنظيمهم وعدم نموه واستقراره بشكل مناسب وقوي، جعل مشاركتهم محصورة ضمن قدراتهم المحدودة وإمكاناتهم المتواضعة، ومع ذلك فقد تشكلت في صلب الإخوان بفلسطين قوات غير نظامية منذ بداية الحرب، عملت في الشمال والوسط تحت القيادات العربية المحلية هناك، التي تتبع جيش الإنقاذ أو جبهة الجهاد المقدس، وقد قامت بغارات ناجحة على المستعمرات اليهودية الصهيونية، على الرغم من الضعف في التدريب والتسليح.
إخوان فلسطين.. كر وفر في ميادين المقاومة المسلحة
بعد العام 1948، بدأ تنظيم الإخوان المسلمين في فلسطين هيكلة صفوفه، فأنشأ تنظيما عسكريا سريا في قطاع غزة، مستفيدا من وجود الضابط المصري عبد المنعم عبد الرؤوف ذي الخلفية الإخوانية، وقد وفر لهم سبلا للتدريب العسكري، وكانت أولى اختبارات ذلك التدريب -حسب بعض المصادر التاريخية- ما يعرف بعملية الحافلة التي نفذت قرب بئر السبع في 17 آذار/ مارس سنة 1954، وأدت إلى مقتل 11 إسرائيليا.
لكن فترة الرخاء النسبي لنمو الحركة الإسلامية الإخوانية في فلسطين لم تدم، ولا سيما بعد ثورة يوليو/ تموز 1952 في مصر، فقد وضعت كل العقبات أمام إخوان فلسطين للذهاب بعيدا في المقاومة.
يقول الباحث في التاريخ المعاصر محسن محمد صالح في كتابه: في تلك الفترة، فرضت حالة التضييق والمطاردة المفروضة على التيار الإسلامي -خاصة في مصر والقطاع- تساؤلات أمام شباب الإخوان الفلسطينيين عن وسائل العمل الممكنة لتحرير فلسطين، رغم أن التيار العام وسطهم كان يدعو إلى التريث والتركيز على الجوانب التربوية والإيمانية، إلا أن تيارا آخر أخذ يتجه للقيام بعمل منظم مسلح لا يتخذ أشكالا إسلامية مكشوفة، وإنما يتبنى أطرا وطنية تمكّنه من تجنيد قطاعات أوسع من الشباب، ولا تجعله عرضة للملاحقة من قبل الأنظمة، وكانت الثورة الجزائرية آنذاك إحدى الحوافز المهمة لهذا العمل.
وكانت هذه البذور الأولى لنشأة حركة فتح برئاسة ياسر عرفات، التي خرجت أساسا من أحضان الإخوان، وخصوصا في قطاع غزة. وقد انضم لفتح عند نشأتها عدد من المنتمين للإخوان مثل سعيد المزين وغالب الوزير وسليم الزعنون وصلاح خلف وأسعد الصفطاوي ومحمد يوسف النجار الذين تولوا مناصب فيها، وظلت فتح تركز في تجنيدها على العناصر الإخوانية حتى سنة 1962، ولكنها انفتحت على تيارات أخرى، لا سيما بعد أن صدر أمر من قيادة الإخوان في القطاع بالتمايز، إما مع فتح أو الإخوان.
كان ذلك العامل محددا في حركة المقاومة الإسلامية الإخوانية، خاصة بعد أن توحد الإخوان المسلمون في الضفة مع إخوان الأردن، بينما اتجه إخوان قطاع غزة إلى أن يكون لهم مكتبهم الإداري الذي ترأسه عمر صوان إلى غاية العام 1954، وقد أدار أعمال المكتب سرا بعد زيادة الضغط، إثر صعود عبد الناصر للحكم في مصر، وهو ما دفعهم إلى تأسيس تنظيم فلسطيني في العام 1963، وترأسه هاني بسيسو، وقد ضم إخوان القطاع والدول العربية باستثناء الأردن.
هزيمة 1967.. خيبة أمل وبحث عن المنقذ الثوري العربي
بعد الهزيمة في حرب 1967، وفشل القومية في حسم قضية تحرير فلسطين، أصبحت البوصلة متجهة لخيار آخر، المقاومة الإسلامية، وقد تعززت مشاركتها في العمليات الفدائية ضمن ما يعرف بـ”معسكرات الشيوخ” في الأردن، على الرغم من انقسام تنظيم الإخوان الفلسطيني في مسألة المشاركة في تلك المعسكرات التي أدارتها حركة فتح، وذلك بسبب وجود تنظيمات فلسطينية يسارية مثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
كان ذلك سببا في حدوث مناوشات بين الفصائل الفلسطينية نفسها في تلك المعسكرات، بسبب الاختلاف الفكري، وهو ما نقله كتاب “القافلة.. عبد الله عزام وصعود الجهاد العالمي” لتوماس هيغهامر”، نقلا عن عبد الله عزام نفسه الذي ذكر أن إخوان الضفة شاركوا في التدريب وفي قيادة عمليات من مخيمات الشيوخ في شمال الأردن، في حين لم يتبن “التنظيم الفلسطيني” في القطاع المشاركة والتدريب هناك.
ياسر عرفات مع قيادات من منظمة التحرير الفلسطينية في معسكر تدريب في الصين 1969
وعلى الرغم من الانقسام، استفادت الحركة الإسلامية في فلسطين -ممثلة في تنظيم الإخوان المسلمين- مما يعرف بالصحوة الإسلامية في منتصف السبعينيات، مع أنهم “قرروا التريث في المقاومة المسلحة حتى يكملوا استعدادهم التنظيمي والتدريبي، لذلك كان ظهور حماس بشكلها الناضج ثمرة طبيعية لجهود طويلة، وتحولا محسوبا في جماعة متجذرة في الواقع الفلسطيني. وقد استفاد الإخوان ثم حماس في صعودهم السريع من التنظيم الإخواني الفلسطيني الذي يمثل أقدم تنظيم حركي فلسطيني، وكان لا يزال يحتفظ بفاعليته في الساحة” حسب الباحث محسن محمد صالح.
ويؤيد هذه النتيجة الباحث خالد نمر أبو العمرين في كتابه “حماس حركة المقاومة الإسلامية جذورها ونشأة فكرها السياسي”، إذ يعزو أسباب صعود التيار الإسلامي ومن ورائه حماس لأسباب كثيرة، منها تقهقر منظمة التحرير وقواتها في لبنان، وتشتيت قوى المنظمة ومؤسساتها بعيدا عن فلسطين في تونس، بينما ظل الفلسطينيون سنوات في انتظار المنقذ العربي الثوري، ولا سيما من مصر، لكنهم أصيبوا بالخيبة في هزيمة 1967 ثم عادوا ليشكّلوا صورة المخلّص من الداخل الفلسطيني ذاته. وكانت تجربة بيروت وهزيمة منظمة التحرير العسكرية وما تبعها من هزائم وتنازلات، خلّفت خيبة أمل كبيرة.
ثم اتجه البحث عن القوة الكامنة في المجتمع الفلسطيني تحت الاحتلال، مما كان سببا في زيادة المد الإسلامي وسببا في الانتفاضة الأولى، فقد كان لانتشار نفوذ الحركة الإسلامية تناسب عسكري مع انتشار نفوذ حركة المقاومة الفلسطينية في الداخل والخارج، وكان من أهم عوامل الانتشار تلك الإخفاقات التي منيت بها منظمة التحرير الفلسطينية.
“جهاز الأحداث”.. مؤرِّق الاحتلال ومشعل الانتفاضة الأولى
في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول سنة 1987، دهست شاحنة إسرائيلية سيارة فلسطينية عمدا، وكانت متوقفة وعلى متنها عمال فلسطينيون، فاستشهد منهم أربعة أشخاص، وكانت زجاجات المولوتوف والحجارة التي رشقها الفلسطينيون خلال الجنازة قد أعلنت بداية الانتفاضة الأولى، وتأججت الشوارع في فلسطين بالغضب.
يقول الكاتب خالد نمر أبو العمرين: في يوم 9 ديسمبر/ كانون الأول من ذلك العام، اجتمعت الهيئة الإدارية للإخوان المسلمين بقطاع غزة في منزل الشيخ أحمد ياسين، بحضور عبد الفتاح دخان أحد منظري الحركة، وصلاح شحادة الذي سبق أن اعتقل مع الشيخ أحمد ياسين سنة 1984، وعبد العزيز الرنتيسي وهو من الجيل الثاني الذي أعدته الحركة للقيادة، والذي اتهمته إسرائيل بصياغة البيان الأول لحركة حماس وأصبح معروفا كناطق رسمي باسم المبعدين. ودارت المداولات في هذا الاجتماع حول استغلال حادثة المقطورة في تصعيد المواجهات وانخراط الإخوان بالكامل في أعمال الثورة الشعبية، وتحويل جسم التنظيم إلى هيكلية مناسبة، فقرر المجتمعون إنشاء جهاز خاص بالانتفاضة أطلق عليه اسم “جهاز الأحداث”، وقد اضطلع بوضع الحواجز وقذف الحجارة وإدارة المصادمات ومنع العمال من التوجه إلى مكان عملهم في الأراضي المحتلة.
ويذكر الكاتب نقلا عن عبد العزيز الرنتيسي أن من الأفكار التي طرحت للنقاش خلال ذلك الاجتماع، تخوف بعض الأعضاء من أن هذه الأحداث قد تساهم في تقوية حركة فتح، لكن الشيخ أحمد ياسين كان يرى أنهم بحاجة إلى أن تكون حركة فتح قوية، وأنه عليهم الترحيب بالعمل مع كل المنظمات في الانتفاضة لتوزيع الأعباء.
وخلال هذا الاجتماع تقرر العمل تحت اسم “حركة المقاومة الإسلامية”، بوصفها جناحا سياسيا وإعلاميا يختص بالانتفاضة وتطويرها من خلال “جهاز الأحداث”، إضافة إلى الجهازين السابقين اللذين أسسا قبل ذلك والمتصلين بالشيخ أحمد ياسين، وهما الجناح العسكري “المجاهدون الفلسطينيون” الذي أسسه أحمد ياسين سنة 1983، ثم أعاد تشكيله أواخر العام 1986 وأسند مسؤوليته إلى صلاح شحادة، والجناح الأمني “المجد” الذي أسسه أيضا أحمد ياسين سنة 1985، وقد عمل فيه يحيى السنوار.
“جناح من أجنحة الإخوان المسلمين بفلسطين”
كانت الحركة الإسلامية خلال الانتفاضة الأولى في مرحلة الإعداد والبناء قبل الدخول في صراع مكشوف مع إسرائيل، وقد استخدمت من أجل الحفاظ على سرية التنظيم وعملياته توقيع بياناتها بأسماء مختلفة مثل “المرابطون على أرض الإسراء” و”الاتجاه الإسلامي في فلسطين” و”حركة المقاومة الإسلامية”، ولم تعلن مطلقا عن عمليات لها قام بها الجهاز الأمني حسب كتاب “حماس حركة المقاومة الإسلامية جذورها ونشأة فكرها السياسي”.
يذكر الكتاب أنه في 16 أكتوبر/ تشرين الأول 1986، وزع الإخوان المسلمون في قطاع غزة بيانا بتوقيع “المرابطون على أرض الإسراء”، دعوا فيه إلى إضراب عام يوما واحدا، احتجاجا على التنكيل بالفلسطينيين في غزة، وظهر اسم “حركة المقاومة الإسلامية” قبل الانتفاضة مرتين، الأولى في شهر مارس/ آذار من العام 1987، والثاني في منشور وزع في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه.
بدأت الحركة توزيع بيانها الأول يوم 14 ديسمبر/ كانون الأول 1987 في جميع أنحاء قطاع غزة، ووزع بيانها الثاني في القطاع والضفة الغربية، وظهر اسم الحركة مختصرا في الأحرف “ح م س” في البيان الرابع، وظهر اسم حماس أول مرة في البيان السابع للحركة في فبراير/ شباط 1988، واستقر هذا التوقيع في بيانات الحركة. وبدأت حركة حماس تنشط في القطاع عن طريق مكتب الإخوان في نابلس، بحثّ الفلسطينيين على الانتفاضة.
وقد أظهرت حركة حماس انتماءها للإخوان المسلمين في بيان فبراير/ شباط من العام 1988، وذلك حين أكدت أن “حركة المقاومة الإسلامية تعتبر الساعد القوي لجماعة الإخوان المسلمين التي قدمت إمامها الأول (حسن البنا) شهيدا في مثل هذا اليوم من عام 1949″، وتكررت الإشارة إلى أنها ذراع الإخوان في البيان رقم 15 في أغسطس/ آب 1988، وينصّ على أن “حركة المقاومة الإسلامية جناح من أجنحة الإخوان المسلمين بفلسطين”.
يقول الكاتب خالد نمر أبو العمرين: هنا نستطيع أن نفهم كيف استطاعت هذه الحركة في فترة زمنية وجيزة لا تتعدى السنوات الثلاث الأولى من عمر الانتفاضة، أن تثبت وجودها على الساحة الفلسطينية ومنافسة تنظيمات يزيد عمرها عن العشرين عاما. إن حركة حماس تضرب بجذورها في فلسطين منذ الثلاثينيات بعد أن انتدبت جماعة الإخوان بمصر الأخوين عبد الرحمن الساعاتي ومحمد أسعد الحكيم لزيارة فلسطين وسوريا ولبنان، لنشر دعوة الإخوان، صحبة الشيخ عبد العزيز الثعالبي. وكانت هناك مبررات أمنية وسياسية للإخوان للعمل تحت هذا الاسم الجديد، وأصبح معروفا أن هذه الحركة الجديدة ما هي إلا الحركة الإسلامية نفسها التي وجدت في فلسطين منذ أكثر من نصف قرن، والتي استطاعت أن تحوز على تأييد جماهيري في الأراضي المحتلة.
استهداف جيش الاحتلال.. نقطة فاصلة في تاريخ الكفاح الحمساوي
كان شهر آب/ أغسطس سنة 1988 نقطة فاصلة في تاريخ حركة حماس وعلاقتها بمنظمة التحرير الفلسطينية وفي منهج المقاومة، فقد أعلنت عن إضراب منفرد في جميع الأراضي المحتلة بمناسبة ذكرى إحراق المسجد الأقصى، ودعت الحركة في ذلك الشهر إلى مواجهات مع قوات الاحتلال وُصفت بأنها الأعنف في تاريخ الانتفاضة وخاصة في الضفة الغربية، ونفذت أيضا هجوما على الجيش الإسرائيلي في مدينة نابلس.
وفي ذلك الشهر أيضا صدر ميثاق حركة حماس، وجاء فيه أن فلسطين دولة إسلامية من البحر إلى النهر، ورفض ميثاق الفكر العلماني، وطالب منظمة التحرير الفلسطينية بالالتزام بالمنهج الإسلامي للتحرير.
وقد كثفت حركة حماس في ذلك الشهر عملياتها ضد الجيش الإسرائيلي، فهاجم أربعة شبان ينتمون للحركة في مدينة نابلس يوم 14 أغسطس/ آب مركز الشرطة في المدينة، وكان فيه قرابة 50 جنديا إسرائيليا، وقذفوهم بالزجاجات الحارقة، وطُعن جندي إسرائيلي في بيت لحم، وهاجم طلال قويدر -وهو عضو حماس في غزة- دورية إسرائيلية، فقتل ثلاثة جنود قبل استشهاده. وفي اليوم ذاته، هاجم مسلحون من حماس دورية إسرائيلية بأسلحة آلية، مما أسفر عن مقتل جنديين.
وفي 16 فبراير/ شباط 1989، اختطفت مجموعة من قياديي حماس جنودا إسرائيليين من داخل إسرائيل، فقتلتهم واستولت على سلاحهم ووثائقهم. وشارك فيها القيادي محمود المبحوح، وهو أحد مؤسسي كتائب عز الدين القسام، جناح حماس العسكري، وكان معه محمد نصار أيضا، وكرروا تلك العملية يوم 3 مايو/ أيار 1989.
أطلقت عملية فبراير/ شباط موجة اعتقالات قامت بها السلطات الإسرائيلية، فاعتُقل فيها قادة حماس بغزة، كما اعتقل جميل حمامي الذي كان يمثل حلقة وصل بين قطاع غزة والضفة الغربية، وجاءت موجة اعتقالات أخرى مباشرة بعد عملية مايو/ أيار 1989، إذ اعتُقل الشيخ أحمد ياسين ومحمود الزهار في الضفة الغربية، وقُدر عدد المعتقلين بما يقارب 350.
اتفاق أوسلو.. فتيل يشعل النار بين حماس والسلطة
وصلت العلاقة بين حماس والسلطة الفلسطينية بعد اتفاق أوسلو -الذي وقع في العام 1993- إلى طريق مسدود، فقد عارضت حماس بنود الاتفاق، فأدى ذلك إلى موجة شديدة من الاعتقالات، قامت بها السلطة الفلسطينية في صفوف حركة حماس والجهاد الإسلامي، وقد وصلت إلى أوجها في العام 1995، حين بلغ عدد المعتقلين قرابة ألف شخص، وزادت حدة التوتر مع السلطة الفلسطينية في العام ذاته، بعد اعتقال قيادات من حماس في غزة، من ضمنهم محمود الزهار وأحمد بحر.
وكان الزعيم الروحي لحركة حماس الشيخ أحمد ياسين في تلك الفترة يقبع في سجون الاحتلال، ولم يزل بها حتى عام 1997، وقد دعا من معتقله عام 1995 الفلسطينيين إلى إيجاد صيغة للتفاهم، وتوجت تلك الدعوة بعقد حوار في القاهرة في ديسمبر/ كانون الأول 1995، وكان الاتفاق ينصّ على التزام حماس بعدم الدعوة إلى مقاطعة الانتخابات مع أنها ترفض المشاركة فيها، وفي المقابل لن تلتزم حماس بإيقاف عملياتها ضد الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما أدى بعد ذلك إلى تكرر حملة الاعتقالات التي شنتها السلطة الفلسطينية، وقد شملت قادة في حماس، مثل عبد العزيز الرنتيسي ومحمود الزهار وجمال سليم، وقائد كتائب القسام محمد الضيف، ووضع الشيخ أحمد ياسين رهن الإقامة الجبرية في منزله.
وحسمت انتفاضة الأقصى سنة 2000 الكفة لصالح حركة حماس التي زادت شعبيتها، وكان مؤشر ذلك الصعود متجسدا في الانتخابات البلدية التي نظمت في العام 2005، مع أنها لم تكسب الانتخابات، لكن تلك الشعبية وضعت ثقلها في صناديق الاقتراع خلال الانتخابات التشريعية التي نظمت في 25 يناير/ كانون الثاني 2006، إذ فازت حماس بـ74 مقعدا في المجلس التشريعي الفلسطيني، مقابل 45 مقعدا لحركة فتح، وأصبح إسماعيل هنية (الحمساوي) رئيسا للوزراء في فلسطين.
كرسي القيادة المفخخ.. قادة تحبهم صواريخ الاحتلال
من المعلوم أن الشيخ أحمد ياسين هو أبرز مؤسسي حركة حماس وزعيمها الروحي، وكان ناشطا في الدعوة الإسلامية، ومؤسسا لتنظيم عسكري في بداية الثمانينيات سُمي “المجاهدون الفلسطينيون”، وهو ما جعله أهم المطلوبين لدى إسرائيل. وقد كان أيضا سياسيا بامتياز، وظل يقاوم على جبهتين من سجون الاحتلال، ثم من إقامته الجبرية التي فرضتها عليه السلطة الفلسطينية.
وفي يوم 22 مارس/ آذار عام 2004، أطلقت مروحيات الأباتشي الهجومية عالية التسليح 3 صواريخ باتجاه أحمد ياسين المقعد، وكان متوجها نحو السيارة بعد صلاة الفجر، فاستشهد مع سبعة من مرافقيه، وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي “أرييل شارون” قد أشرف بنفسه على عملية اغتيال الزعيم الروحي لحماس.
وبعد يوم من اغتيال أحمد ياسين، بايعت حماس لخلافته عبد العزيز الرنتيسي، وهو أحد مؤسسي الحركة، وكانت تلك المبايعة مفهومة، فقد كان الرنتيسي يسير على خطى سلفه، فعمل على حل الخلاف مع السلطة الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات المحاصر آنذاك، حتى أنه تحدث معه في بداية شهر أبريل/ نيسان عام 2004 بخصوص تشكيل حكومة وحدة وطنية وجيش وطني موحّد، لكن قوات الاحتلال لم تمهل الرنتيسي سوى بضعة أيام على رأس حماس، فاستهدفته المروحيات بثلاثة صواريخ جو-أرض موجهة يوم 17 أبريل/ نيسان سنة 2004.
بعد يوم من اغتيال عبد العزيز الرنتيسي، نشرت حركة حماس بيانا قالت فيه إنها اختارت زعيما جديدا لحركة حماس، وأنها لن تفصح عن هويته بعد اغتيال زعيمين لها في أقل من شهر، لكن المكتب السياسي بدأ يمسك فعليا بزمام إدارة الحركة، وبرز خالد مشعل الذي كان على رأس المكتب السياسي للحركة منذ 1996، بوصفه قياديا بارزا في حماس التي قاد مكتبها حتى العام 2017، قبل أن يتسلم منه إسماعيل هنية المشعل في ذلك العام.
أما على الصعيد العسكري والميداني، فقد كان قادة كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحماس، هدفا ذا أولوية للجيش الإسرائيلي. فقد اغتال قائد الكتائب صلاح شحادة عام 2002، وبعده أصبح محمد دياب المصري -المعروف باسم محمد الضيف- القائد العام لكتائب القسام، فصار أهم الرؤوس المطلوبة لدى إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية أيضا، التي صنفته ضمن قائمة الإرهابيين الدوليين في العام 2015.
واليوم، يمثل يحيى السنوار الذي خلف إسماعيل هنية في العام 2017 على رأس المكتب السياسي للحركة بغزة، أهم المطلوبين لدى الجيش الإسرائيلي، كما أدرج اسمه أيضا في قائمة الإرهابيين الدوليين التي أصدرتها الولايات المتحدة الأمريكية عام 2015.
وأخيرا، يصعد إلى السطح اسم جديد، يخطف كل الأضواء، هو أبو عبيدة، المتحدث الرسمي باسم كتائب القسام، في أكثر الحروب وحشية التي تقودها إسرائيل، لا على حماس أو كتائب القسام فحسب، بل على كل الشعب الفلسطيني بلا استثناء.