قناة السويس.. خط النار الذي يجري فيه الماء منذ آلاف السنين

في العام 1866، كان “شارلز دي ليسبس” ابن القنصل الفرنسي بمصر “فرديناند دي ليسبس” يعمل في مشروع قناة السويس، فاكتشف نصبا تذكاريا من الغرانيت الوردي، وأصبح يُعرف باسم “نصب شالوف” أو “نقش الملك داريوس الكبير”. يحتوي ذلك النصب على نصوص منقوشة بالفارسية القديمة والبابلية والمصرية، وهي عبارة عن خمس لوحات نصبت في وادي طميلات في مصر بالقرب من السويس، وتخلّد هذه النقوش ذكرى إعادة فتح الملك الفارسي “داريوس” ما يُسمى بقناة الفراعنة بين النيل والبحيرات المرّة.

جزء من نصب شالوف

كان ذلك النصب أول الشواهد على الطموح المبكّر للدول من أجل شق قناة في مصر لتحقيق منافع اقتصادية وسياسية. يقول الباحث “راسل تومي” في دراسة له بعنوان “التاريخ المقتضب لقناة السويس” إن الملك “داريوس” الذي حكم حوالي عام 522 ق.م. قال في نصب شالوف “أنا فارسي، وانطلاقا من بلاد فارس غزوتُ مصر، وأمرتُ بحفر هذه القناة التي تتدفق من هذا النهر الذي يسمى النيل، ويتدفق في مصر إلى البحر الذي يبدأ من بلاد فارس. لذلك عندما حُفرت هذه القناة كما طلبت، مرت سفن من مصر عبر هذه القناة إلى بلاد فارس، كما كنت أطمح”.

وبعد مرور أكثر من ألفي سنة، أيقظ القنصل الفرنسي بمصر “فريدناند دي ليسبس” ذلك الطموح لصالح بلده، وحارب من أجل تحقيقه، حتى أصبح حلم ” دي ليسبس” شاهدا تاريخيا ثانيا على حلم إمبراطوريات العالم بشطر مصر إلى نصفين حتى يجري شريان مائي بها يمثل فتحة جديدة لها على مستعمراتها وعلى أعدائها أيضا.

ربط البحرين.. حلم الأباطرة والفراعنة منذ الأزل

كتب الفيلسوف اليوناني “أرسطو” في كتابه عن الأرصاد الجوية أنه في حوالي العام 1850 قبل الميلاد، حاول الفرعونُ “سنوسرت” الثالث (خامس فراعنة الأسرة الفرعونية الثانية عشرة) بناءَ قناة ري من النيل باتجاه البحر الأحمر، لكي تكون صالحة للملاحة خلال مواسم فيضان نهر النيل، لكن عُدِل عن الفكرة بسبب الخوف من خطر انغمار المناطق المنخفضة. ويُتصور أن بناء القناة قد بدأ ثم توقف قبل انتهاء المشروع.

الجندي المصري عبد الرحمن القاضي محتفلا بنصر حرب أكتوبر على ضفاف قناة السويس

وينقل المؤرخ اليوناني “هيرودوت” أن ثاني محاولة لحفر قناة بحرية، كانت في القرن السادس قبل الميلاد في عهد الفرعون “نخاو الثاني”، فحين ألحق البابليون هزائم عسكرية قاسية به فشل الملك المصري في السيطرة بشكل مباشر على طرق التجارة في فلسطين وفينيقيا، فسعى إلى تحويل جزء من حركة المرور البحري لصالحه.

ويذكر المؤرخ أيضا أن هذا الملك افتتح قناة تربط البحيرات المرّة بشرق الدلتا، وحفر مجرى مائيا عريضا بما يكفي للسماح بمرور مجرى ثلاثي، للسماح بالمرور من البحر الأحمر إلى البحر الأبيض المتوسط، بهدف تحويل التجار من الجنوب الغربي لشبه الجزيرة العربية نحو مصر، على حساب مدن الساحل الفلسطيني الواقعة تحت سيطرة البابليين.

ويقول الباحث “راسل تومي” في بحثه “التاريخ المقتضب لقناة السويس”: ذكر “هيرودوت” أن الفرعون “نخاو الثاني” بدأ في بناء قناة تمتد من النيل إلى البحر الأحمر، ولكن في مرحلة ما أوقف المشروع، فقد حُذِّر من أن القناة المخطط لها تمثل خطرا استراتيجيا. وقد ورد أن ما يصل إلى 120 ألف عامل لقوا حتفهم خلال الوقت الذي كان العمل فيه جاريا. ويقال إن “داريوس الأكبر” قد تبنى رؤيته فيما بعد.

أصبح هذا الممر المائي يعرف باسم قناة الفراعنة”. ويقول الباحث “تومي” إن الفرعون المصري “بطليموس الثاني” الذي عاش بين القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد، استطاع حل معضلة تسرب المياه المالحة للبحر الأحمر إلى نهر النيل، بإنشاء أول قفل مائي في العام 273 ق.م، لكن بمرور الوقت أصبحت القناة طينية.

وتشير مراجع أخرى إلى القنوات المؤقتة التي شُيدت بين القاهرة والبحر الأحمر بين القرنين الثامن والعاشر للميلاد، ولكنها كانت أيضا عرضة للتراكم الشديد للطين. وما هو مؤكد هو أن البضائع بين أوروبا وآسيا نُقلت عبر قوافل في طرق تجارية أخرى مثل طريق الحرير، لكن ذلك الطريق أصبح خطيرا بشكل متزايد، نتيجة لنشاط قطاع الطرق.

مخطط قناة “سيزوستريس” في عهد الفرعون “سنوسرت الثالث” عام 1850 قبل الميلاد

وفي نفس السياق، يقول الباحث “هوناي كوفي” في دراسة له بعنوان “قناة السويس.. تاريخها ورمزيتها” إن محاولة الفرعون “بطليموس الثاني” إنشاء قناة بحرية سبقتها فكرة الملك الفارسي “داريوس” لإنشاء قناة مائية، وهو ما يوافقه عليه الباحث “راسل تومي”، إذ يقول: كان مشروع الملك الفارسي ناجحا، وهو عبارة عن قناة تمتد من فرع من نهر النيل إلى بحيرة التمساح، وقد سهلت بعد ذلك الوصول إلى البحر الأحمر وبلاد فارس عبر سلسلة من الممرات المائية الموجودة، مما أدى إلى إنشاء طريق تجاري من مصر. وقد تلا مشاريع فتح الممرات المائية مشروع آخر بدأه الإمبراطور الروماني “تراجان” في بداية القرن الثاني الميلادي، ثم محاولةُ عمرو بن العاص في القرن السابع الميلادي تنفيذَ مشروع مماثل حسب “هوناي كوفي.

وبعد أكثر من ألفي عام، أيقظت فرنسا مرتين طموح حفر قناة مائية في مصر لتسهل سيطرتها على مستعمراتها، الأولى في أواخر القرن الثامن عشر، والثانية في منتصف القرن التاسع عشر.

“نابليون بونابرت”.. إمبراطور فرنسي ينبش طموحا غابرا

ينسب الباحثُ “هوناي كوفي” في دراسته “قناة السويس.. تاريخها ورمزيتها” الجهودَ الأولى لبناء قناة حديثة في السويس إلى “نابليون بونابرت” أثناء حملته على مصر بين العامين 1798-1801. يقول كوفي: كان “بونابرت” يأمل في خلق مشاكل تجارية للإنجليز، وإجبارهم على الدفع للفرنسيين لاستخدام القناة، أو الاستمرار في المسار الأبطأ لإرسال البضائع برا، أو المرور حول رأس الرجاء الصالح.

وقد بدأ مشروع السويس عام 1799، ومع ذلك فإن جدواه أصبحت موضع شك بعد حساب غير صحيح من قبل رسامي الخرائط والمهندسين بأن البحر الأحمر كان أعلى بـ30 قدما من البحر الأبيض المتوسط، وإنشاء القناة سيؤدي إلى فيضان دلتا النيل، لذلك تخلى نابليون عن المشروع.

ويعزو الباحث “راسل تومي” فضل إحياء فكرة حفر القناة إلى “نابليون بونابرت”، ويقول إنه خلال حملته على مصر، سافر إلى السويس بهدف البحث عن جبل سيناء التوراتي. وصادف خلال رحلته بقايا قناة الفراعنة التاريخية التي أثارت اهتمامه بإمكانية إنشاء قناة هناك، وأمر ماسحي الخرائط والمهندسين باستكشاف جدوى بناء قناة، ولكن بعد أربع مسوحات منفصلة، أفادوا مرة أخرى أن ذلك غير ممكن.

ويقول “تومي”: لم تردع نتائج المسوحات دولا أخرى عن المزيد من الاهتمام بإنشاء طريق أقصر من أوروبا إلى الهند والشرق الأقصى، ففي العام 1830، تلقى البرلمان البريطاني تقريرا مستقلا يفيد بعدم وجود فرق كبير بين مستويي البحر، وبالتالي يمكن القضاء على إحدى المعضلات الرئيسية في بناء القناة. لكن بريطانيا لم تتحرك بناءً على هذه المعلومات، بسبب القلق من أن القناة ستفتح الطريق أمام الدول الأوروبية الأخرى، ولا سيما فرنسا، وبالتالي ستكون ضد مصالحها الاستعمارية والتجارية في الهند وآسيا.

ومن جانبها تفطنت فرنسا إلى أخطاء المسوحات في عهد نابليون وعُدِّل هذا الخطأ في العام 1847، عندما قام أعضاء الحركة الفكرية الفرنسية بمراجعة مشروع السويس، وقدموا تقرير جدوى جديدا. وفي عام 1854، شجع هذا التقرير الدبلوماسي والمهندس الفرنسي السابق “فرديناند دي ليسبس” على السعي للتوصل إلى اتفاق مع نائب الملك المصري لبناء قناة السويس.

حفر القناة.. مشروع فرنسي يقلق اللاعبين الكبار

أقام “فرديناند دي ليسبس” علاقة قوية مع والي مصر سعيد باشا أثناء عمله دبلوماسيا هناك، وتذكر مصادر تاريخية عدة أن حلم “دي ليسبس” بحفر قناة مائية تشق مصر بدأ عند وصوله لتولي مهامه قنصلا في القاهرة، ثم في الإسكندرية لاحقا، فقد وضعت سفينة “دي ليسبس” في الحجر الصحي، وخلال تلك الفترة أرسل له أحد الأصدقاء كتبا لتمضية الوقت، احتوى أحدها على سرد لقناة الفراعنة التاريخية، مما أثار اهتمامه وجعل الفكرة تخالجه.

تمثال “فرديناند دي ليسبس” في مدينة بورسعيد

وقد حصل “فرديناند دي ليسبس” على اتفاق مبدئي مع محمد سعيد باشا في عام 1854، ثم على امتياز ثان في العام 1856 لبناء قناة تربط بين ساحل البحر الأبيض المتوسط وبين قرية السويس في الجنوب الواقعة على ضفاف البحر الأحمر. وتضمن الاتفاق عقد إيجار لمدة تسعة وتسعين عاما تعقده شركة دولية إلى جانب الامتيازات الضريبية، والاتفاق على إعادة 75% من الأرباح إلى مساهمي الشركة، بينما توفر مصر أيادي عاملة بنسبة 80% من مجموع العمالة.

وبين عامي 1854-1858، بدأ العمل على وضع خطط لبناء القناة، وطُرح عرض عام للأسهم. وفي ذلك الوقت كانت مصر جزءا من الإمبراطورية العثمانية، وعارض العثمانيون وبريطانيا العظمى بناء القناة لأسباب مختلفة، فقد خشي العثمانيون إمكانية استقلال مصر ماليا والانفصال عن الإمبراطورية، بينما كانت بريطانيا تخشى تهديد مصالحها التجارية في الهند وكل آسيا، وكانت تسعى أيضا لحماية البنية التحتية للسكك الحديدية البرية التي أنشأها المستثمرون البريطانيون في العام 1845. وكانت النتيجة أن غالبية التمويل جاء من داخل فرنسا، فقد ضخ “دي ليسبس” مبالغ طائلة في رأس مال الشركة.

يقول الكاتب “هربرت سيتوارت” في بحث له بعنوان “قناة السويس في السياسة العالمية” إن بريطانيا حثت الأتراك على أن يضعوا في اعتبارهم أن هذا المشروع قد يكون خطوة أولى نحو تفكك الإمبراطورية العثمانية، وأقنعت السلطان بالتنازل عن مساحة أقل للمشروع. فاشترى محمد سعيد باشا حوالي 25% من رأس مال الشركة، وأُجبر على الحصول على ديون أكبر من أجل الحصول على 25% الباقية من الأسهم، وبالتالي ضمان بدء القناة.

ساعة الصفر.. جوع واستعباد في أضخم مشاريع العالم

في 25 من أبريل/ نيسان من العام 1859 بدأ العمل على المشروع بعد إنشاء “الشركة العالمية لقناة السويس البحرية” (Compagnie Universelle du Canal Maritime de Suez) في 15 ديسمبر/ كانون الأول 1858، وعُيّن “دي ليسبس” رئيسا لها، إضافة إلى ممثلين من أربع عشرة دولة مختلفة في مجلس الإدارة، مع ميثاق ينص على أن سفن جميع الدول تتمتع بحرية استخدام القناة في حالة السلم والحرب أيضا.

صورة من أعمال حفر قناة السويس

في يناير/ كانون الثاني 1863، تسلم الخديوي إسماعيل السلطة، وواصلت بريطانيا ضغطها من أجل منع إتمام المشروع، وذلك بتوجيه انتقادات للخديوي بتشغيل قرابة 30 ألف عامل دون أجر، إضافة إلى معدل الوفيات الكبير في صفوف العمال، وأُجبر حاكم مصر على اقتراض أموال كبيرة أخرى لبدء دفع أجور المصريين العاملين في القناة.

يقول الباحث “لويس تومي” “إضافة إلى الديون المتراكمة على مصر، انتهز الخديوي إسماعيل الفرصة أيضا لاستخدام القروض التي حصل عليها في إنفاق ثروة كبيرة لتنمية صورته داخل المجال الأوروبي، واستمالة عدد من رؤساء الدول والمسؤولين الحكوميين، وبذلك تراكم عبء أكبر على الموارد المالية المصرية. وكان لهذا تداعيات سلبية، سواء على المستوى الشخصي أو على الملكية المستقبلية لقناة السويس في المستقبل غير البعيد.

أُجبر العمال المصريون بين العامين 1859-1864 على حفر حفرة بعرض 18 مترا على طول طريق القناة المخطط لها باستخدام مجارف ومعاول فقط، وذكرت بعض السجلات أن من العاملين من استخدم يديه للحفر. وكان أغلب العمال من الفلاحين المصريين والفقراء الذين استُعبدوا وحشروا في الأعمال الخطرة من قبل الفرنسيين. وتشير التقديرات إلى أنه خلال فترة البناء التي دامت 10 سنوات بأكملها، استُخدم أكثر من مليون عامل في المشروع، وتوفي قرابة مائة ألف منهم بسبب المرض والجوع وسوء معايير السلامة.

بيع حصة مصر.. لقمة شهية يبتلعها التمساح البريطاني

انتهى بناء قناة السويس في أغسطس/ آب من العام 1869، وافتُتح رسميا بعد ثلاثة أشهر من انتهاء المشروع. وقد وجدت مصر صعوبة في تسديد أقساط القروض التي تسلمتها من أجل حفر القناة، وهو ما اضطر إسماعيل باشا إلى عرض حصة مصر في القناة البالغة 44% للبيع، وذلك من أجل تسديد فوائد القرض المتزايدة.

حفل افتتاح قناة السويس في 1869

وقفزت بريطانيا للمفاوضات المباشرة مع إسماعيل باشا من أجل الحصول على حصته في شركة قناة السويس، وبالتالي استحوذت على النصيب الأكبر من أسهمها، وتمكنت من التنصيص على منع أي قوة أجنبية من السيطرة على قناة السويس، أو ما قد يضر بمصالح بريطانيا في الهند وخارجها.

ورغم التفريط في حصتها في قناة السويس، فقد أدت ديون مصر المتراكمة وصراع النفوذ الفرنسي البريطاني على القناة إلى أزمة سياسية عميقة داخل البلاط الباشوي، مما ساهم في عزل إسماعيل باشا وصعود ابنه توفيق في العام 1879 إلى سدة الملك. ووصلت الأزمة حد دخول بريطانيا إلى مصر تحت نظام حماية مقنعة، قبل فرض احتلال كامل بعد دخول تركيا في الحرب إلى جانب ألمانيا في الحرب العالمية الأولى.

وأصبحت قناة السويس نقطة استراتيجية مهمة في الحرب العالمية الثانية. إذ يقول الباحث “هربرت ستيوارت”: كانت إيطاليا بقيادة “موسوليني” قد وضعت موطئ قدم لها في ليبيا، وبذلك فإن السيطرة المطلقة على قناة السويس هي مسألة مصيرية بالنسبة لبريطانيا وحلفائها من أجل غلق كل منفذ على قوات المحور للدخول إلى مناطق نفوذ الحلفاء.

جمال عبد الناصر.. خطاب يبعث بوادر الحرب العالمية الثالثة

أدى التمركز العسكري البريطاني في مصر بعد الحرب العالمية الثانية إلى تأجيج التوتر أكثر فأكثر بين مصر وبريطانيا، ويُذكر أنه كان هناك ما يقارب من 80 ألف جندي بريطاني مرابط في مصر لحماية قناة السويس آنذاك. ففي الفترة التي تلت الحرب، كانت بريطانيا في مرمى غضب المصريين، بعد أن رعت إقامة دولة لليهود في فلسطين. وتطورت الأوضاع السياسية في مصر بعد الإطاحة بالملك فاروق بالانقلاب الذي قاده جمال عبد الناصر في خمسينيات القرن الماضي، وسط توسع نفوذ للاتحاد السوفياتي في العالم.

وقد تلقت كتلة الدول الغربية أول طلقة تحذيرية للخطر المحدق بمصالحها في الشرق الأوسط خلال خطاب الرئيس جمال عبد الناصر الشهير يوم 26 يوليو/ تموز 1956، فقد قال يومها -مستحضرا بناء قناة السويس والديون التي تراكمت على مصر بسببها وأدت إلى احتلالها-: هل التاريخ يعيد نفسه ثانية بالخداع والتضليل؟ هل يكون الاستقلال أو التحكم الاقتصادي والسيطرة الاقتصادية سببا في القضاء على حريتنا السياسية واستقلالنا السياسي؟ لا يمكن مطلقا. أيها الإخوة، نحن اليوم لا نكرر الذي فات، نحن اليوم نقضي على الذي فات، نحن اليوم نبني بلدنا بناء قويا وسليما وجديدا.

كان ذلك خطاب تأميم قناة السويس واسترجاع مصر لملكيتها. يقول الباحث “هربرت ستوارت”: حث رئيس الوزراء البريطاني “أنتوني إيدن” على التحرك، ليس فقط من خلال البرلمان بالإجماع، ولكن من قبل الرأي العام البريطاني وبعض الدول الأجنبية. وبالنسبة لكثيرين، كان ذلك مقدمة لحرب عالمية ثالثة. ولم يكن القلق هو أن هذا الإجراء يهدد الاقتصاد البريطاني من خلال إغلاق الوصول إلى النفط، بل يمكن أن تكون لعبد الناصر مخططات أكبر في ذهنه في الشرق الأوسط.

وبينما اتخذت أمريكا موقفا محايدا، اتفقت فرنسا وإسرائيل على القيام بعمل عسكري، ثم حثّتا بريطانيا للانضمام إليهما، فعُقد اجتماع لمناقشة سبل المضي قدما في لندن بأغسطس/ آب، وحضرته 22 دولة ذات مصالح خاصة في مستقبل القناة. وقد حاول وفد برئاسة رئيس الوزراء الأسترالي السير “روبرت مينزيس” التفاوض على نهج متفق عليه بشكل عام للإدارة المستقبلية للقناة، لكن عبد الناصر رفض ذلك.

اجتياح الاحتلال الإسرائيلي.. صراع في سيناء يرهق التجارة

بعد ثلاثة أشهر تقريبا من خطاب عبد الناصر، اجتاحت إسرائيل شبه جزيرة سيناء، وأدى ذلك إلى دخول قوات الحلف البريطاني الفرنسي إلى المعركة. ودامت المعارك قرابة شهر قبل أن تنسحب القوات البريطانية والفرنسية في ديسمبر/ كانون الأول 1956، وتحل مكانها قوة لحفظ السلام تابعة للأمم المتحدة. وأعيد فتح القناة للشحن الدولي في أبريل/ نيسان 1957 تحت إشراف مصري بحت.

صور من الدمار الذي ألحقه العدوان الثلاثي على مدينة بورسعيد

يقول الكاتب “جيمس بويتن” في دراسة بعنوان “الضفة الغربية الشمالية لقناة السويس.. أزمة قناة السويس 1956 وصندوق النقد الدولي”: يُنظر إلى هذا التصعيد الخطير على مستوى العالم على أنه أزمة ترجع في المقام الأول إلى الاضطرابات التي حدثت في العلاقات السياسية. لقد بلغت ذروتها بنجاح حملة مصر الطويلة من أجل الاستقلال الكامل عن الهيمنة الأوروبية. وأظهرت قدرة إسرائيل على الدفاع عن حدودها وتوسيعها عسكريا وبالتالي البقاء كأمة. وقد أضعفت فرنسا في الوقت الذي كانت فيه الحرب الجزائرية تتصاعد.

كما كشفت عن صدع في العلاقات بين بريطانيا والولايات المتحدة حول سياسات ما بعد الاستعمار، في وقت أراد فيه كلاهما مواجهة النفوذ الإقليمي المتزايد للاتحاد السوفياتي. في بريطانيا وضع هذا الأمر نهاية حزينة للوزارة الوجيزة لـ”أنتوني إيدن”، ومن المفارقات رفع السياسي “هارولد ماكميلان” مكانه. وفي ضوء المكانة المركزية للسويس في أساطير الإمبراطورية البريطانية، فقد أطلق عليها “إيدن” ذات مرة اسم “بابنا الخلفي إلى الشرق”. وكان فقدان السيطرة على القناة مدمرا لأولئك الذين لديهم تطلعات للعصر الفيكتوري في الشرق الأوسط، خاصة أن الدور القيادي الناشئ لعبد الناصر ألمح إلى احتمالات الوحدة العربية.

لم تخفت التوترات بين الاحتلال الإسرائيلي ومصر خلال السنوات العشر التي مرت بين نهاية أزمة السويس وحرب الأيام الستة التي اندلعت في يونيو/ حزيران 1967. كانت تلك الحرب نصرا كبيرا من جانب إسرائيل لدفع مصر إلى الجانب الغربي من قناة السويس والاستيلاء على شبه جزيرة سيناء.

القوات المصرية تعبر قناة السويس في حرب أكتوبر 1973

حينها توغلت قوات الاحتلال الإسرائيلية في قطاع غزة وعبر صحراء سيناء سعيا وراء انسحاب القوات المصرية، ووصلت إلى الضفة الشرقية لقناة السويس. وفي ذلك الوقت، أمر عبد الناصر بإغلاق القناة عند كلا المدخلين، وأُجبرت السفن على الإبحار عبر رأس الرجاء الصالح للوصول إلى الهند والشرق الأقصى، ومن هناك تكبدت عدة دول خسائرَ بملايين الدولارات، بعد أن أصبحت قناة السويس ورقة ضغط قاتلة.

ولم تنتهِ قصة قناة السويس عند هذه النقطة، بل تواصلت بعد ذلك في دور إستراتيجي وعسكري وسياسي كبير في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 التي أفضت إلى لقاء “كامب ديفيد”.

193 كيلومترا هو طول قناة السويس، ومن الحمق أن تقاس القناة بطولها أو عرضها، فقد أرقت الملوك والأباطرة قرونا عددا، وسال على جنباتها الدم، وكانت خط نار يجري فيه الماء.