ديكتاتورية البرتغال المنسية.. حكاية الطاغية الذي انحنت له الأمة ثم انقلبت عليه

لم تنجُ أوروبا من هيمنة الأنظمة الدكتاتورية خلال القرن الماضي، فقد سيطر الزعيم الإيطالي “بينيتو موسوليني” على سدة الحكم منذ عام 1924، كما استولى “أدولف هتلر” على السلطة في عام 1933، وبعد ثلاث سنوات قام الجنرال “فرانثيسكو فرانكو” بانقلاب في إسبانيا وأصبح رئيسا للدولة، وفي عام 1932 أصبح “أنتونيو سالازار” قائد “الدولة الجديدة” في البرتغال، وحكم البلاد بقبضة من حديد حتى سنة 1974.

تتناوب على هذا الفيلم الاستقصائي شخصيات عدة، منهم ثلاثة مؤرخين وعالمة اجتماع ومعارضون وناشطون سياسيون ومصوّر فوتوغرافي، إضافة إلى الخادمة التي كانت تعمل في منزل “سالازار”، وقد رافقته حتى اللحظات الأخيرة من حياته، بعد أن حكم البلاد على مدى 50 عاما، أجبر فيها شعبه على الطاعة والاحترام، وكان هدفه الرئيسي الحفاظ على نظامه الدكتاتوري مهما كان الثمن.

فقد انتشر الخوف والرعب في عموم البلاد، وانحنت الأمة البرتغالية لـ”سالازار” الذي كان أشبه بالإله، وأخضع البلاد لأطول فترة حكم دكتاتوري يميني في التاريخ. ولكن السؤال المهم جدا هو: كيف استطاع الطاغية البقاء في السلطة 5 عقود متتالية وهو يحكم البلاد بالحديد والنار والاستبداد؟

“كانت من آخر القوى الاستعمارية في العالم، وستظل كذلك”

مع أن فترة حكم “أنتونيو سالازار” طغت عليها سياسة القمع ومصادرة حقوق الآخرين ومطاردة المعارضين والمناوئين له، فإن هناك ألوفا مؤلفة من المواطنين البرتغاليين كانوا يهتفون له على مدى عقود طويلة، وكان يعرف جيدا أن الجماهير والفئات الشعبية المناصرة له والمؤيدة لطريقة حكمه تحبه وتحترمه، حتى وإن كانت طريقة استبدادية في نظر الكثيرين.

في عهد “سالازار” الذي كان أشبه بالإله في البرتغال، انتشر الخوف والرعب في عموم البلاد

كان المستبد “سالازار” خلال مدة عامين، يشن حربا بلا هوادة ضد المتمردين في مستعمرات البرتغال الأفريقية، وكان الصراع ينتشر بشكل مستمر، وكانت تكلفة الحرب تدفع البرتغال أكثر فأكثر نحو الفقر.

فقد دعا “سالازار” شعبه إلى المثابرة وقال عن البرتغال: “كانت واحدة من آخر القوى الاستعمارية في العالم وستظل كذلك”. وكان “سالازار” وحده يسيطر على الشؤون المالية للبلد، ووحده كان يحدد سياسة البرتغال الخارجية والداخلية وكيفية التعامل مع مستعمراتها.

تربية الدواجن في الحديقة.. طاغية يحكم المنزل والدولة بالتقشف

ثمة تركيز واضح في الفيلم على “روزاليا أروجو”، وهي خادمة في قصر “سالازار” كانت تتقاضى 300 أسكودو، أي ما يعادل 1.5 يورو لا غير. ولتغطية حاجيات منزل الدكتاتور، قام الموظفون بتربية الدواجن في الحديقة.

كان “سالازار” يتقشف في كل شيء، فعلى سبيل المثال لم يهدر أي كهرباء على التدفئة في الشتاء، بل كان يضع بطانية على ساقيه ليدفئ نفسه، وقد عاش بالطريقة نفسها التي حكم بها بلاده، فتجنَّب كل أشكال الاستثمار وكره الديون.

لم يكن الناس في البرتغال يجدون لقمة الطعام، بسبب سياسية الرئيس “سالازار” التقشفية

ويشترك عدد من الكتّاب والمحللين بهذا الرأي، إذ يقول “بيدرو أيريس أوليفيرا” -وهو مؤرخ وأستاذ بجامعة لشبونة الجديدة- إن “سالازار” قد اشتهر ببخله الشديد، وعاش حياة عادية متقشفة إلى أبعد الحدود، وقد وضعه هذا التصرف في تناقض شديد مع دكتاتوريي أوروبا في ذلك الوقت، الذين كان يُنظر إليهم على أنهم مصابون بجنون العظمة.

ويرى “بيدرو” أن أسلوب حياة “سالازار” كان جزءا من جاذبيته، وكان يُنظر إليه على أنه قدوة وبعيد عن الأنانية، فقد وضع جانبا كل احتياجاته الشخصية، وركّز على خدمة بلاده. وكانت كل علاقاته واتصالاته ذات طبيعة مهنية، وظل أعزب طوال حياته.

أسى الرفض الطبقي.. معاناة في الشباب تصنع الانضباط والجدية

ترى “أيرين فلونسر بيمينتل” -وهي مؤرخة بجامعة لشبونة- أن “سالازار” كان يشعر بالأسى، فهو لم يتزوج قط، ولم يكن قط على علاقة بامرأة، ففي شبابه تعرّف على نساء كثيرات كنّ في وضع اجتماعي أفضل منه، لكن في كل مرة لم تكن الأسرة راضية عن العلاقة، وهذا الرفض الاجتماعي هو الذي جعله على ما هو عليه.

وترى “أيرين” أنّ “سالازار” كان يعاني من عزلة اجتماعية، حتى أن فكرة أصوله المتواضعة لم تفارق ذهنه قط، فقد ولد في قرية فينتيرو لأب مزارع، ونشأ هو وإخوته في ظروف متواضعة، ولم يكن التقدّم الاجتماعي ممكنا إلاّ من خلال الكنيسة الكاثوليكية. وكان “سالازار” ذكيا، لذا حصل على الدعم، والتحق بمعهد تعليم اللاهوت في فيسيو، فأصبحت الكاثوليكية والانضباط جزءا من شخصيته.

“بيدرو أيريس أوليفيرا”، مؤرخ يدرّس في جامعة لشبونة الجديدة

كان “سالازار” موهوبا وطموحا، وأصبح أستاذا وهو في ريعان شبابه، وتخصص في مجال الاقتصاد والتمويل. وكان الوضع السياسي في ذلك الوقت يزداد هشاشة، فقد شهدت البرتغال 20 انقلابا في غضون 16 عاما فقط.

فقد حدث منذ نهاية النظام الملكي في عام 1910 حتى ذلك الوقت 44 تغييرا في الحكومة، وكانت الدولة تغرق في الديون يوما بعد يوم. وفي 28 مايو/ أيار 1926 أدّى انقلاب عسكري إلى إنهاء الجمهورية الأولى، فأصبحت البرتغال دكتاتورية عسكرية، وعُيّن البروفيسور “سالازار” خبيرا ماليا في مجلس الوزراء، وكانت مهمته الأساسية منع إفلاس الدولة والخسارة الوشيكة للمستعمرات الكثيرة المنضوية تحت راية إمبراطوريته المترامية الأطراف.

منقذ الإمبراطورية.. إجراءات مالية تخنق الميزانية الوطنية

يرى المؤرخ “بيدرو أيريس أوليفيرا” أنّ اتباع سياسة التقشف الصارمة، جعلت البرتغاليين يتحملون عبء هذا الإجراء، فقد خفف “سالازار” حجم الصادرات الغذائية، ونتيجة لذلك أصبح الطعام نادرا ومكلفا في الوقت نفسه، كما أنه رفع الضرائب وجمّد الأجور.

مستعمرات البرتغال المنتشرة حول العالم في عهد الرئيس “سالازار”

وقد قام “سالازار” بتعليق إجراءات البناء كلما استطاع، ونتيجة لذلك حقق في سنته الأولى في المنصب فائضا في الميزانية، وبدأ بخفض الديون الخارجية لبلاده، وهكذا استطاع تجنب البيع الفوري لمستعمرات البرتغال، وقد أكسبه هذا الإجراء تقديرا على نطاق واسع، وأصبح يتمتع بدعم غير مشروط من القادة العسكريين في البلاد، ومُنح صلاحيات استثنائية، وأسس دكتاتورية مالية حقيقية.

وترى المؤرخة “أيرين” أن ثقة “سالازار” بسياسة التقشف الصارمة هي التي جعلته يسيطر على الميزانية الوطنية بأكملها، حتى الأموال التي تنفقها الوزارات. وفي الخامس من يوليو/ تموز 1932، عُين “سالازار” رئيسا للحكومة، بعد إعادة تنظيم الدولة والحفاظ على الإمبراطورية الاستعمارية البرتغالية، وقد عُدّ هذا الخبير المالي مُنقذا للبلاد برمتها.

حاكم البرتغال.. نظام ينفر من الشيوعية ويكرّم المستعمرين الأوائل

تقول “آنابينا فينتي” -وهي عالمة اجتماع وأستاذة بجامعة لشبونة- إن الإيمان الكاثوليكي كان أحد أعمدة “سالازار”، وهذا ما يفسر نفوره من الشيوعية، فقد سُمح بحزب واحد فقط في الدولة الجديدة، وهو حزب الاتحاد الوطني الذي كان يترأسه “سالازار” بنفسه، وكان الوحيد الذي يتخذ القرارات.

أصبح “سالازار” الحاكم المطلق، ليس على البرتغال فحسب، بل على إمبراطورية استعمارية عالمية، فقد كانت البرتغال -بتاريخها الاستعماري الممتد 500 سنة- واحدة من أقدم القوى الاستعمارية في أوروبا، ولطالما كانت أمة تفتخر بالملاحة البحرية.

في عام 1940 أقام “سالازار” نُصبا تذكاريا لـ”هنري الملاح” في لشبونة تكريما لحقبة المستعمرين الأوائل

ويرى المؤرخ “بيدرو” بأن المستعمرات قد لعبت دورا مهما في صياغة الهوية البرتغالية الجماعية، فقد أقام “سالازار” في عام 1940 نُصبا تذكاريا لـ”هنري الملاح” بميدان الإمبراطورية في لشبونة، تكريما لحقبة المستعمرين الأوائل.

وعندما وصل “سالازار” إلى السلطة، كانت لا تزال لدى البرتغال مستعمرات في جميع أنحاء العالم، وقد تمسّك بقوة بالمستعمرات، فهي رمز للمكانة والإمكانات الاقتصادية للمستقبل، وكان مرعوبا من فقدانها، وكانت سياسته الخارجية موجهة للدفاع عن هذه الإمبراطورية من دون مساومة، لأنّ المستعمرات تمثّل قوة الإمبراطورية عالميا.

ضمان الحياد.. خطة لحماية أقدم تحالف دبلوماسي في التاريخ

كان هدف “سالازار” الرئيسي جعل البرتغال دولة منعزلة ومستقلة، وكان سعيدا بهذه العزلة وفخورا بها، وعندما نمت قوة “هتلر” في الثلاثينيات في ألمانيا، تبنّى “سالازار” موقفا خاصا به، فرفض قوانين التمييز العرقي النازية ومعاداة السامية. ثم أمر -في وقت مبكر من عام 1937- سفيره في برلين بفعل كل ما في وسعه لحماية اليهود البرتغاليين في ألمانيا.

وفي الأول من سبتمبر/ أيلول 1939، غزت ألمانيا بولندا، وكانت بداية الحرب العالمية فترة اختبار غرقت فيها عدة بلدان في أوروبا، لكن “سالازار” فعل كل ما بوسعه لتجنب التورط في الحرب.

“أيرين فلونسر بيمينتل”، مؤرخة تدرّس في جامعة لشبونة

وترى “أيرين” أن “سالازار” غير أيديولوجي تماما، وأن رؤاه الذكية تجلت في الحفاظ على الحياد البرتغالي، وكانت هذه الطريقة الوحيدة لضمان الاحتفاظ بجميع أقاليم ما وراء البحار، فأظهر نفسه على أنه بارع في المراوغة، فقد كان دخول الحرب إلى جانب ألمانيا غير وارد لديه، لأن ذلك يعني الحرب مع بريطانيا العظمى، وذلك هاجس لا يريده أبدا.

فقد ربط البرتغال ببريطانيا منذ عام 1373 أقدم تحالف دبلوماسي في العالم، ولم يكن “سالازار” يرغب في تغيير ذلك، لكنه أعلن في الوقت ذاته أن البرتغال لن تنضم إلى بريطانيا في حربها مع ألمانيا، وقد وقّع في بداية الحرب العالمية الثانية اتفاقية حياد مع إسبانيا المجاورة، وإذا لم يدخل الجنرال “فرانكو” الحرب إلى جانب “هتلر”، فإن البرتغال أيضا ستظل غير متورطة.

ذهب النازية.. أموال طائلة تملأ خزائن البرتغال

مع أن “سالازار” رفض حروب هتلر، فإن ذلك لم يمنعه من التعامل مع ألمانيا النازية، فلم يكن هذا الدكتاتور البرتغالي براغماتيا فحسب، بل كان انتهازيا أيضا، فقد جلبت البرتغال أكثر من 120 طنا من الذهب المسروق الذي جرى تخزينه في البنك الوطني البرتغالي، وأدى هذا الدخل من الخارج إلى تعزيز سمعة “سالازار”، بوصفه خبيرا ماليا لامعا.

وترى “أيرين” أنّ كثيرا من المنتجات التي اشترتها ألمانيا النازية دُفعت بالذهب المختوم بالصليب المعقوف الذي ملأ خزائن البرتغال، وكان كثير من اليهود يفرّون إلى البرتغال المحايدة، وقد خططوا من لشبونة للهجرة إلى الولايات المتحدة أو أمريكا الجنوبية، وبهذه الطريقة تجنب نحو 100 ألف يهودي معسكرات الاعتقال. لكن مع تزايد أعدادهم أصبح “سالازار” قلقا بشكل كبير، خوفا من غضب هتلر، فأصدر في عام 1940 تعليمات لدبلوماسييه بالتوقف عن إصدار تأشيرات لليهود البرتغاليين.

الجنرال “فرانكو” الذي قام بعمل انقلاب في أسبانيا سنة 1936وأصبح رئيسا لها

كان “سالازار” حاكما محنكا، ففي عام 1943 شرع في إحدى رحلاته النادرة للخارج، والتقى بـ”فرانكو” في إشبيلية، وكان “هتلر” حينها يضع إسبانيا تحت ضغوط متزايدة للانضمام للحرب بجانب ألمانيا، لكن “سالازار” ناشد الدكتاتور الإسباني أن يظل محايدا، فقد كان وعده بعدم التورط.

ظل “سالازار” يظن أنّ جيوش “هتلر” يمكن أن تكسب الحرب، ولكي يحمي ظهره حافظ على علاقات متزنة مع ألمانيا النازية، لكن عندما بدأ هتلر في عام 1943 يخسر الحرب، تحوّل الدكتاتور البرتغالي إلى الحلفاء بطريقة لا تخلو من الذكاء والمراوغة لمصلحة بلده، فاحتفلت لشبونة في 25 مايو/ أيار 1945 بالدكتاتور باعتباره منتصرا من دون أن يقاتل، وأُسكتت دعوات ديمقراطية كانت تُسمع في بلدان أوروبية أخرى عن طريق الظهور الشخصي لـ”سالازار”.

مناهضة الشيوعية.. انحياز عنيف للكتلة الغربية ضد السوفيات

رأى كثير من البرتغاليين أنّ الديكتاتور صانع سلام، وأنه أنقذ البلاد، لكن الحرب الباردة كانت تلوح في الأفق بعد انتصار الاتحاد السوفياتي في الحرب العالمية الثانية، فقد أصبح الاتحاد يشكّل قوة عالمية، وبدأ يتصارع مع الغرب من أجل الهيمنة على العالم.

وترى “أيرين” أيضا بأن مناهضة الشيوعية كانت عنصرا أساسيا في سياسات “سالازار”، ولذلك فقد أصبح الاتحاد السوفياتي العدو الرئيسي لبلاده.

بعد انتصاره في الحرب العالمية الثانية، أصبح الاتحاد السوفييتي يشكّل قوة عالمية

أسس “سالازار” في خريف 1945 جهاز الأمن، وهو قوة شرطة سرية جديدة مصممة للقضاء على أي معارضة في مهدها، واضطهاد الشيوعيين البرتغاليين، وكان الدبلوماسيون الأمريكيون ضيوفا وموضع ترحيب كبير في البرتغال.

أما السياسة الخارجية، فقد اتخذ فيها “سالازار” موقفا واضحا، فكان ينوي البقاء بجانب الغرب في مواجهة الكتلة الشرقية الشيوعية، وعندما تأسس الناتو في 4 أبريل/نيسان 1949، كانت البرتغال من الأعضاء المؤسسين لهذا التحالف الكبير الذي وافق على دكتاتورية “سالازار”، لكونه شريكا قويا مساويا في مكافحة الشيوعية.

جهاز الأمن السياسي.. سوط على شيوعية البرتغال في الدول الغربية

استطاع “سالازار” اضطهاد المعارضين والشيوعيين، والاعتماد على المساعدة من الخارج، كما جمعت أجهزة المخابرات في الدول الغربية -ولا سيما ألمانيا وفرنسا- معلومات عن المواطنين البرتغاليين في المنفى، ثم نقلتها إلى جهاز الأمن السياسي، وكان هناك تعاون مباشر مع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية.

ويستعرض الفيلم سجون “سالازار” وطرق التعذيب المتبعة في ظل حكمه الدكتاتوري المستبد، فقد وسّع النظام شبكة السجون والمعتقلات، وقبض على كل من كان يعارض “سالازار”، وقد سُجن خلال فترة الحكم الدكتاتوري ما لا يقل عن 2500 برتغالي.

“خوسيه بيدرو سوارش” شاب برتغالي معارض تعرض لأصناف التعذيب بعد أن اعتقل من قبل نظام “سالازار”

كان “خوسيه بيدرو سوارش” واحدا من المعتقلين في تلك الحقبة، وهو أحد المعارضين لنظام الحكم، وقد اعتقل في صيف عام 1971 وهو ابن 21 عاما، فقد كان شيوعيا ناشطا نظّم عددا من الإضرابات والاحتجاجات، فأصبح بذلك عدوا مباشرا للدولة، وقد استُجوب بمقر الجهاز في لشبونة وتعرّض للتعذيب، قبل أن يُسجن.

يستعين مخرج الفيلم بشخصية أكاديمية ثالثة، وهو “دنكان سيمبسون”، وهو مؤرخ وأستاذ بكلية “كينغز” في لندن، ويقول عن جهاز الأمن السياسي: كان قوة تعسفية كبيرة جدا، وكان يتمتع بسلطة الاعتقال لمدة تصل إلى ستة أشهر من دون أي تهمة، وكان التعذيب ممنهجا، ومن ضمنها أشكال التعذيب النفسي التي تعتمد بشكل رئيسي على العزل، وهي تقنية طوّرها جهاز الأمن السياسي بعد اتصاله بوكالة المخابرات المركزية الأمريكية التي زوّدتهم بكثير من الخبرات في تحطيم إرادة السجناء وإهانتهم بقسوة لا مثيل لها.

“آنابينا فينتي”، عالمة اجتماع بجامعة لشبونة

وتنتقد عالمة الاجتماع “آنابينا فينتي” ظاهرة الفقر والعوز الاجتماعي، فتقول: القليل من الأطفال في مدرستي كانوا ينتعلون الأحذية، في حين كان هذا الأمر نادرا في المجتمعات الأوروبية، وقد ذهب معظمنا إلى المدرسة حافي القدمين على مدار السنة.

“تلك كانت بلادهم، ونحن كنا غزاة”

كانت البرتغال معزولة إلى حدٍ بعيد عن العالم الخارجي، ثم نالت 18 مستعمرة في القارات استقلالها، لكن البرتغال وحدها تشبثت بأراضيها فيما وراء البحار. وفي عام 1960 اندلع القتال في أنغولا، حين هاجم الثوار المزارع البرتغالية في شمال البلاد، فقُتل أكثر من ألف مستوطن وكثير من عمال المزارع الأنغوليين، وكانت تلك بداية حرب استعمارية، وبعد أسابيع قليلة عيّن “سالازار” نفسه وزيرا للدفاع، ودعا إلى مقاومة حازمة.

في عام 1960 اندلع القتال في أنغولا، حيث هاجم الثوار المزارع البرتغالية في شمال البلاد فقتلوا وقُتلو

ويشهد الجندي السابق “أنتونيو فيريرا دا سيلفا” أن سفينة الجنود انطلقت في عام 1966 إلى موزمبيق، وكان على متنها، وكان يبلغ من العمر 21 عاما آنذاك. ويقول: كنت أعلم أن الأمور لا تسير على ما يرام في الخارج، لكن ماذا يمكنني أن أفعل؟ فقد حُشرنا على متن السفينة، وظللنا نسمع صيحات التحشيد بأننا نسافر إلى الخارج للدفاع عن وطننا.

“أنطونيو فيريرا دا سيلفا” جندي برتغالي حارب في موزمبيق يوم كان شابا صغيرا

كان من المفترض أن يدافع “أنتونيو” عن الأراضي البرتغالية على بعد أكثر من 5 آلاف كم عن وطنه، ولم يجد غضاضة في القول “تلك كانت بلادهم، ونحن كنا غزاة”.

تمرد المستعمرات.. حرب هائلة التكلفة تثقل كاهل الدولة

واجه البرتغاليون خصوما حازمين تماما في غالبية المستعمرات التي شهدت تمردات عنيفة، وأصبحت الحرب عقيمة في الخارج أكثر فأكثر، لكن “سالازار” تمسّك بسياسته الاستعمارية الصارمة، فانخفضت الروح المعنوية للجنود، وتضاءل الدعم حتى في الوطن الأم.

وترى “أيرين” بأن الانتقادات الموجهة ضد الحرب قد ازدادت منذ عام 1966 إلى عام 1967، فقد كانت الهجرة من أوضح علامات التذمر، وقد غادر كثيرون البلاد، وتلك كانت طريقتهم في إظهار رفضهم للنظام.

“روزاليا أورجو”، طفلة بدأت حياتها كخادمة منزلية في قصر “سالازار”

فبين عامي 1961-1974 هاجر نحو مليون ونصف من الشعب، وكانوا لا يفرون من الخدمة العسكرية فحسب، بل يفرون من الفقر أيضا، لأن التكلفة الهائلة للحرب كانت تدمر البرتغال، وقد ارتفعت الأسعار في أواخر الستينات بنسبة تصل إلى 8% سنويا، في حين كانت البلدان الأوروبية الأخرى تتمتع بازدهار متزايد، وكان أكثر من نصف منازل البرتغال ليست فيها مياه جارية، وكان 7 ملايين برتغالي (أي جميع السكان تقريبا) يعيشون على عتبة خط الفقر، وكانت الأحياء الفقيرة تتزايد في لشبونة.

“جاء من ظروف متواضعة، فعاش متواضعا ومات متواضعا”

كما في السنوات السابقة، أمضى “سالازار” صيف 1968 في قلعة بالقرب من كاشتايش، وكان حينها يبلغ 79 عاما، وفي أغسطس/ آب من نفس العام أُصيب بجلطة دماغية خطيرة، وظل بحاجة إلى رعاية، ولم يعد قادرا على الحكم.

وقد جاء لزيارته سياسيون أوروبيون في المستشفى، منهم مستشار ألمانيا الغربية “كورت جورج كيسنجر”، وأعرب عن احترامه لـ”سالازار” ولخليفته “مارسيلو كايتانو” الذي عُين في سبتمبر/ أيلول عام 1968 زعيما جديدا للبرتغال، واتبع “كايتانو” سياسات الدكتاتوريين القدامى قبله بالقسوة نفسها.

في أغسطس/آب 1968، أُصيب “سالازار” بجلطة دماغية ولم يعد قادرا على الحكم

كان “سالازار” غافلا عن حقيقة أنه لم يعد يحكم البلاد، وتتحدث خادمته “روزاليا” عن ذلك قائلة: “لقد أخفينا ذلك الأمر عن الدكتور “سالازار”، بأنه لم يعد رئيسا للحكومة، ولم يخبره أحد عن القيادة الجديدة”. واستمر النظام نفسه في الوجود وعلى رأسه “تايتانو”، لكن الزعيم الجديد افتقر إلى جاذبية سلفه، فقد نشأ غالبية البرتغاليين مع “سالازار” وسمعته بوصفه خادما غير أناني لشعبه.

وقد دُفن أقوى رجل في البرتغال في قبر بسيط بقريته، وكُتب على ضريحه: جاء من ظروف متواضعة، فعاش متواضعا ومات متواضعا.

ثم تدهورت الإمبراطورية العالمية التي تركها المؤسس بشكل كبير، حتى أصبحت أفقر دولة في أوروبا. ولم يكن هناك بلد آخر بمستوى انخفاض الدخل فيها وارتفاع مستوى الأمية، فواحد من كل أربعة برتغاليين لا يجيد القراءة والكتابة، وردّ خليفة “سالازار” على المقاومة بمزيد من القمع.

ويقول المؤرخ “بيدرو أيريس أوليفييرا” إن مئات الآلاف من البرتغاليين حُشدوا على مدى أكثر من 10 سنوات في 3 مناطق بأفريقيا، وقد وضع ذلك ضغوطا هائلة على الجنود، فكان يتعيّن عليهم التعامل مع خطر الموت أو الإصابة بالشلل، وكان هناك أيضا اضطراب ما بعد الصدمة، فقد كان للحرب أثرها، ونتيجة لذلك أدارت قطاعات كبيرة من الناس ظهورها للنظام.

ثورة القرنفل.. فوّهات عسكرية تحمل الزهور وتسقط النظام

يقول المصور الفوتوغرافي “ألفريدو كونيا”: “جاءت اللحظة عندما طفح الكيل بالقوات العسكرية، فألقوا أسلحتهم، وقالوا لن يذهب جندي واحد بعد الآن”. بثت المحطة الإذاعية في لشبونة في الصباح الباكر من يوم 25 أبريل/ نيسان 1974 أغنية “غراندولا فيلامورينا” الثورية، وكان ذلك إشارة للتمرد، لكنه انهار ببساطة.

تمثال لجندي يضع على صدره زهرة القرنفل تخليدا لذكرى ثورة القرنفل التي أطاحت بالحكم العسكري في البرتغال

أيقظت أم “ألفريدو” ابنها في الثالثة صباحا، وقالت له: “انهض، أظن أن ثورة تحدث”، فقد ظهرت الدبابات في شوارع لشبونة، وسيطر الانقلابيون على النقاط الإستراتيجية في العاصمة، فاحتلوا بعض الوزارات ومركز البث الحكومي، لكن الجنود جاؤوا محررين، وكان الناس مبتهجين، ووضعوا الزهور على فوهات بنادق الجنود، فأكسبت هذه اللفتة الثورة اسم “ثورة القرنفل”.

لم يسقط النظام القديم ذلك اليوم، بل انهار الداعمون الرئيسيون له، وهم القوات المسلحة والشرطة، فتداعى الهيكل بأكمله. وقد التقط “ألفريدو” في ذلك اليوم صورا لنهاية الدكتاتورية، وكان ذلك يوم 25 أبريل/ نيسان 1974، وهو أهم يوم في حياته، لأنه اليوم الذي كانوا يتطلعون إليه، كما التقى “فرناندو خوسيه مايا”، وهو النقيب الذي أصبح وجه ثورة القرنفل، وكان مسؤولا في وسط المدينة، وقد حثّ الجميع على الحفاظ على السلام، وقبض على كل عنصر غير متعاون في الجيش.

في 27 يوليو/تموز 1970 توفي “سالازار” عن 82 عاما ودُفن في “سانتا كومبا داو”

وها قد مرّ أكثر من نصف قرن على نهاية الدكتاتورية، لكن عصر “سالازار” لم ينتهِ التعامل معه بشكل كامل، وقد توفي في 27 يوليو/ تموز 1970 عن 82 عاما، ودُفن في “سانتا كومبا داو” ولم يصبح قبره مزارا، بل أصبح ضريحه نسيا منسيا، والمنزل الذي وُلد فيه مهدّم لا يزوره أحد أو يحاول صيانته. إنه يقف رمزا لموقف سياسي من رجل كان ذات يوم أبا للأمة.

يقول المؤرخ “بيدرو” إنه لا يوجد حنين لأيام “سالازار”، ولا يوجد حزب سياسي يطالب بإرثه أو يرغب بإحياء سياساته، واليوم نجد الحرية السياسية طبيعية كأي نظام ديمقراطي، ولذلك فإن أطول دكتاتورية يمينية في أوروبا تغرق في النسيان.