“كابريني”.. راهبة واجهت غطرسة السلطة والكنيسة وانتصرت لفقراء نيويورك

يغطي فيلم “كابريني” جانبا من سيرة الراهبة الإيطالية “فرانشيسكا كابريني” المعروفة باسم “الأم كابريني”، لما قدمته من خدمات للأطفال الفقراء في مدينة نيويورك، منذ قدمت إليها نهاية القرن التاسع عشر.

وقد أمضت “كابريني” فيها سنوات تعمل من دون كلل، لوضع حد للبؤس الذي كانت تعيش فيه العوائل الإيطالية المهاجرة إلى أمريكا، وكانت سلطاتها الإدارية تراهم جالية غير مرغوب فيها، فلا فرص لهم فيها سوى العيش في أزقتها القذرة التي تنتشر فيها الأمراض والجريمة.

ينوه الفيلم في مقدمته إلى ذلك الجانب، عبر معلومات تفيد بأن حوالي مليوني مهاجر وصل إلى الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وقد تعاملت معهم السلطات الرسمية على أنهم أميون لا يجيدون سوى الأعمال اليدوية، ويشكل وجودهم خطرا على المجتمع الأمريكي، لهذا تركتهم يقيمون في أحياء معزولة، عملت الراهبة “كابريني” على انتشالهم منها وتخليص أطفالهم من بؤسها.

عُرض فيلم “كابريني” (Cabrini) في مارس/ آذار 2024، وقد أخرجه “أليخاندرو مونتيفيردي”، وهو من كتب له النص أيضا بالتعاون مع “رود بار”، وأدت دور بطلته ببراعة الممثلة “كريستيانا ديلانا”.

رحلة الغرب.. راهبة شابة تسعى لإنقاذ الأطفال المشردين

يستند فيلم “كابريني” على قصة حقيقية، وهو يوزع نصه على منطقتين؛ هما إيطاليا ومدينة نيويورك الأمريكية، ومن نيويورك يقدم مشهدا استهلاليا، يظهر فيه الطفل “باولو” (الممثل فيدريكو ليلابي) في عام ١٨٨٩، وهو يدفع عربة وضع فيها والدته المحتضرة باتجاه المشفى.

لم تجدِ نفعا توسلاته باللغة الإيطالية للممرضة، من أجل مساعدته على نقل والدته إلى الداخل، فقد تجاهلته ونهرته، وفي تلك الأثناء لفظت والدته أنفاسها الأخيرة، فلم يبق له أحد، فتوجه مثل آلاف الأطفال إلى داخل أحد أنفاق مجاري الصرف الصحي في منطقة “فايف بوينتس” المعزولة، حيث يعيش كثير من المهاجرين المشردين.

في إيطاليا تظهر راهبة شابة تعاني من مشاكل صحية، نتيجة لإصابتها في طفولتها بمرض صدري خطير، وهي تتهيأ للسفر من مدينة كوندوميو إلى روما، لكن أحد أساقفة الفاتيكان يُعيد جوابه برفض طلبها المتكرر بالسفر إلى الصين لمساعدة أطفالها الفقراء. ثم يوصلها إصرارها إلى البابا “ليو الثالث عشر” (الممثل جيانكارلو جيانيني)، وبدلا من الرفض يقترح عليها السفر نحو الغرب بدلا من الشرق.

رحلتها مع مجموعة من الراهبات إلى أمريكا وكفاحهن من أجل تحسين ظروف عيش الأطفال الفقراء فيها، يضفي على تجربتهن بُعدا اجتماعيا يتجاوز وظيفتهن الدينية، ويلقي نظرة على كفاح المرأة في سبيل انتزاع الاعتراف بها وبدورها الإنساني، ارتباطا بالوضع العام الذي كانت تعيشه الطبقات الفقيرة في أمريكا، وكان سببا في حرمانها من حقوقها، كما يحرم الأطفال المهاجرون من حقهم في عيش حياة سوية فيها.

العمل الشاق والمشاهد القاسية تؤثر على صحة الراهبة المريضة

واقع نيويورك المخيّب.. طرق مسدودة في مواجهة امرأة عنيدة

تصل الراهبة “فرانشيسكا كابريني” إلى نيويورك وكلها ثقة بأن حلمها في بناء “إمبراطورية الأمل” سيكون سهلا في بلد صُوّر للعالم يومئذ بأنه الجنة الموعودة على الأرض، لكن مُشاهداتها وتجوالها مع زميلاتها في أحياء نيويورك الفقيرة، وبحثهن عن مكان يقمن فيه دارا لرعاية الأطفال، يصدمها ويشعرها بالهلع من واقع قاس.

وقد أرهقتها وأثرت على صحتها إقامتها في المدينة، ومحاولتها الدائمة لتخليص الأطفال المشردين في الشوارع والأنفاق القذرة من بؤسهم، لكنها مع كل ذلك أصرت على مواصلة ما جاءت من أجله.

يبلور مسار الفيلم وأحداثه شخصية الراهبة، ويقدمها امرأة صلبة لا تتراجع عن الهدف الذي وضعته لنفسها، وهذا النوع من النساء العنيدات لم يألفه رجال الدين في نيويورك، لهذا وقف رئيس أساقفتها “مايكل كوريغان” (الممثل ديفيد مورس) في وجهها ورفض مساعدتها، مفضلا العمل مع حاكم المدينة المتغطرس، مع أنه لا يرى في المرأة ولا في المهاجرين الإيطاليين ما يستحق أن يخصص له وقتا، أو يقدم لهم مساعدة يستطيع تقديمها.

بناء المأوى.. إصرار يحرك المياه الراكدة ويجذب الخيّرين

يشترط رئيس الأساقفة على الراهبة أن لا تطلب مساعدة من الجهات الرسمية ولا من أثرياء البلد، فليس لها إلا أن تطلبها من الإيطاليين الفقراء فقط، لكنها لم تأبه لذلك الشرط، فراحت تعمل كل ما في وسعها لإيجاد مكان في المنطقة الفقيرة من نيويورك، يصلح أن يكون مأوى للأطفال الأيتام والمشردين، فتعمل الراهبات بجهد كبير على جعله مساحة يتوفر فيها أدنى الحدود من شروط العيش السوي.

في هذا الجزء من مسار الفيلم تظهر شابة تدعى “فيتوريا” (الممثلة رومانا ماغيورا فيرغانو)، وكانت تمتهن الدعارة، لكن حين رأت ما تفعله الراهبة قررت الوقوف معها. ويخصص الفيلم جزءا من زمنه للتحولات التي تطرأ على حياتها، وتحولها من امرأة تعيش على بيع جسدها إلى أخرى طموحة وشجاعة، تواجه مستغليها وتتحمل عواقب طموحاتها الإنسانية في عيش يضمن كرامتها.

راهبات إيطاليات يقمن بدور مهم بعيدا عن وطنهن الأم

يتوسع النص السينمائي لعرض جوانب من تجربة حقيقية تفاعلت معها حيوات كثيرة، ولعبت شخصيات أمريكية نزيهة دورا في تحقيق ما أرادته “كابريني”، منهم الصحفي “تيدور كالوي” (الممثل جون ليثغو) الذي اقتنع بمشروعها الإنساني، وعلى ضوء مشاهداته الميدانية في الأحياء الفقيرة يقرر كتابة مقالات عن تجربتها، وعن الواقع الذي يعيش فيه ملايين المهاجرين، ولم يكن يعرف عنه الكثير من قبل.

ينقل “كالوي” بمقالاته صورة صادقة عن حياة الإيطاليين الفقراء، وما تقوم به مجموعة من النساء الغريبات من دور مهم، كان ينبغي في الأصل على الحكومة وحاكم المدينة أن يلعبوه بدلا منهن.

ومثله يلعب الطبيب “مورفي” (الممثل باتش داراغ) دورا مهما في دعم مشروع الراهبات، فيقدّم العلاج مجانا ويرعى صحة الأطفال المقيمين في المأوى الجديد، ومع الوقت يصبح الأطفال المقيمون في الملجأ أنفسهم قوة داعمة للاستمرار في مقاومة غطرسة رجال السياسة والأثرياء المتحكمين بالسلطة.

“القديسة كابريني حامية جميع المهاجرين”

يقرر حاكم المدينة تخصيص قطعة أرض لا ماء فيها، لتبني “كابريني” فيها دارا للأيتام والمشردين، وإنما ذلك لإبعادها عن مركز الاهتمام الإعلامي، ولتخفيف الضغط على السياسيين، ومنذ لحظة وصولها توصي أن تدفن بعد موتها فيها.

تكسب بعملها قلوب الناس البسطاء

يعمل الجميع على إيجاد مصدر للماء، وتحويل المكان إلى تجمع يضم كل الفقراء الراغبين في التخلص من قذارة الأنفاق والتشرد، لكن من أراد إبعادها لم يتوقع أن تصبح أقرب إلى قلوب الناس البسطاء، ومثالا لهم، لهذا أراد الساسة ورجال الكنيسة إبعادها إلى إيطاليا، وحين تُبعد إلى بلدها تبدأ التحرك، وتذهب إلى مجلس الشيوخ الإيطالي، فتناشد أعضاءه لدعم أبناء بلدهم المتروكين لمصيرهم في بلد غريب.

تنجح “كابريني” بقوة خطابها في جمع الأموال لبناء مشفى كبير في نيويورك، يساهم فيه المغني الإيطالي الشهير “إنريكو ديسالفو”، ومعه رجال أثرياء من أصول غير إيطالية، وفي تلك الأثناء يحاول حاكم مدينة نيويورك في الطرف الآخر من الأطلسي أن يزيل كل أثر لها.

كابريني امرأة صلبة لا تتراجع عن الأهداف النبيلة التي تريد تحقيقها

فبعد حصولها على بيت كبير مهجور، وتحويله إلى مشفى مريح للفقراء، يخطط حاكم المدينة لإشعال النار فيه، ثم يقوم بجريمته خلسة، لكن الراهبة تعرف جيدا من يقف وراء تدميره، فتذهب إليه وتتفاوض معه وكأنها سياسية بارعة.

تطلب “كابريني” من الحاكم أن يكف عن محاربتها، لأن ذلك سيؤدي في النهاية إلى خسارته لأصوات الإيطاليين الذين باتوا مع الوقت مواطنين أمريكيين يحق لهم التصويت، فيقبل مرغما تهديدها المبطن، ويتعهد بمنحها حرية العمل لضمان إنجاح مشروعها الإنساني الذي جعلها “قديسة” في نظر الفقراء، وعلى المستوى الرسمي تسمى بفضله قديسةً في كاتدرائية القديس بطرس في الفاتيكان، وفي أمريكا أُطلق عليها لقب “القديسة كابريني حامية جميع المهاجرين”.

تقديم يد العون.. قيمة إنسانية تلخص مسار الرحلة

يتجاوز فيلم “كابريني” حدود السيرة الشخصية، ويصل إلى طرح أسئلة على مُشاهده حول أي عالم نحن نريد؟

لازم هذا السؤال رحلة الراهبة الإيطالية إلى أمريكا، ولكن ما زال يعاد طرحه اليوم في كل مكان يتوجه الناس للهجرة إليه، هربا من حروب مدمرة، أو بؤس عيش يريدون التخلص منه، فيذهبون إلى أمكنة أخرى ربما توفر لهم ما يحلمون به.

حققت “كابريني” الراهبة “إمبراطورية الأمل” كما وصفها الصحفي “تيدور كالوي” في سيرتها الشخصية، وكان قد كتبها عنها بعد موتها ودفنها في نفس المكان الذي أقامت فيه دارا للأطفال الأيتام والمشردين على أطراف مدينة نيويورك.

وقد انتشر حلمها في إقامة دور رعاية للأطفال وبناء مستشفيات للفقراء في مناطق أخرى من العالم، لكن أهم معاني تجربتها هي أن يقدم الإنسان -بغض النظر عن جنسه وجنسيته- يد العون لمن يحتاجها، وهي ما ينبغي ترسيخها في دواخل كل البشر.