“بشار.. أنا أو الفوضى”.. معادلة البقاء في الحكم خلال السنوات العجاف

 

من هو بشار الأسد؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه المخرج الفرنسي “أنتوان فيتكين” في أول مشهد من وثائقيه، ويظهر الرئيس السوري وهو يقوم بزيارة إلى إحدى ثكنات جيشه صيف 2016، وقد أريد له أن يكون أكثر من وسيط للدخول إلى المتن.

فهو بذاته هنا يعكس حيرة، ويشي بصعوبة فهم شخصيته وطريقة تفكيره، وكيف ظلّ في سدة الحكم وبلاده ما زالت تغلي مثل فوّهة بركان حممها وصلت إلى العالم كله، وأقلقت الحرب الأهلية استقراره طيلة سنوات قُتل خلالها أكثر من ربع مليون سوري، وهُجّر الملايين منهم، ولا يزال آلاف من المعتقلين منسيين في السجون. تداعياتها وتأثيرها أحدثت تغيُّرات كبيرة على الخارطة السياسية العالمية والإقليمية، ومع هذا ظل محافظاً على سلطته. منطقياً سيقود السؤال صاحبه للبحث عن سر بقائه.

توصيفات الشخصيات المشاركة في فيلم “بشار.. أنا أو الفوضى” (Bachar, moi ou le chaos) للرئيس السوري لم تساعد كثيراً المخرج “فيتكين” على فهمه ومعرفة طريقة تفكيره، بل إن تناقضاتها الحادة صعّبت مهمته، فبعضهم اعتبره مجرد قاتل وديكتاتور، وآخرون اعتبروه سياسيا شجاعا، وقسم ذهب إلى الربط بينه وبين لغز والده الراحل حافظ الأسد وتأثره بأسلوب معالجته الأزمات، وغيرها من آراء واجتهادات فرضت عليه بناء معمار فيلمه وفق قراءته الخاصة، مُستعيناً بتسجيلات ووثائق قادرة على وضع ترتيب زمني لتكوينه السياسي، وقادرة على الرجوع إلى بداية استلامه زمام الأمور شاباً، وصولاً إلى اللحظة التي ظهر فيها في المشهد الأول مطمئناً على مستقبله.

من هو بشار الأسد، وما سر بقائه في السلطة؟ أسئلة يجيب عليها وثائقي المخرج الفرنسي “أنطوان فيتكين”

عزاء الأسد.. مسرحية الرئيس الأنيق تخدع وفود الغرب

صناعة الديكتاتور في العالم الثالث يتحمل جزءا كبيرا منها الغربُ وسياسته البرغماتية، تلك النتيجة التي توّصل إليها “فيتكين” أثناء قراءته لتجربة الرئيس الليبي الراحل في فيلمه “القذافي ميتا أو حيا” (Kadhafi, mort ou vif)، ووجدها أيضا في تجربة بشار الأسد، مع اختلاف العوامل الداخلية والموضوعية المساعدة، فحتى لحظة تشييع جثمان والده كانت أغلبية انطباعات الغربيين عنه طيبة.

ومن أقوال الذين قَبِلوا الوقوف أمام الكاميرا -وجُلهم من صناع القرار السياسي الغربي- يتضح حجم القناعة المتوفرة عندهم بقدرته على نقل سوريا إلى مرحلة جديدة؛ ديمقراطية عصرية صديقة للغرب، ومن ساعد على تكوين تلك الانطباعات كان بشار نفسه، فقد حرص على الظهور في أول عهده بالسلطة شخصا منفتحا تعلّم في الغرب واكتسب بعض عاداته، مثل الأناقة واحترام المرأة والإصغاء إلى الآخر بصدر رحب، وغيرها من صفات وجدوها فيه أو أضفوها عليه، أملا في تغيير جديد في سوريا ينقلها إلى جانبهم.

هكذا كانت صورته في مفتتح الألفية الجديدة، وإلى التشييع أرسَلَ الغرب كبار سياسييه، فقابلوه ونقلوا لمسؤوليهم انطباعاتهم عنه، ولاحقا سيكتشفون أنهم قابلوا ممثلا بارعا امتهن صنعة خداع زواره، وكيف يُخرجهم من قصره بانطباعات طيبة عكس ما يُضمر في داخله.

وعود فرنسا.. ما قيل في باريس يبقى في باريس

اللافت في الوثائقي حرصه على إظهار سذاجة بعض كبار الصحفيين والإعلاميين الغربيين، وسهولة تمرير ألاعيب “صناعة الشخصية” عليهم مع أنها بضاعة غربية المنشأ. لقد كرّس السياسيون الغربيون فكرة خاطئة عن رجل ستُثبت الأيام توجهه الحقيقي وسلوكه المتطابق مع سلوك الأب الديكتاتوري البرغماتي بامتياز مثلهم تماما.

صورة تجمع الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي مع الرئيس السوري بشار الأسد

كان الفرنسيون أول الداعمين له وأول مستقبليه في باريس عام 2001، حيث وعدهم بالتخلص من الفساد المستشري في مفاصل الدولة، والانفتاح على سياسة السوق وإقامة المشاريع المشتركة، وإصلاحات سياسية تعزز التعددية وتشيع الديمقراطية في المجتمع. وحين عاد منها مباشرة استمع إلى نصائح المقربين من دائرته الضيقة بترك ما سمعه من الفرنسيين، والارتكان على منطق الدولة السورية.

وقد عززت ذلك الانطباع شهادات شخصيات مقربة منه، بعضهم غادر البلاد مثل رجل الأعمال فراس طلاس، وأكدت أخذه بنصيحة النخبة العلوية الخائفة على مصالحها وامتيازاتها من كل تغيير محتمل، فانسَ ما قالوه لك وأهمل العمل حتى بالتغييرات الشكلية والتلميعية التي شرعت بها، وتشبث بدلا منها بالسلطة التي لا يمكن الاحتفاظ بها إلا بالقوة.

اغتيال الحريري.. صدمة الغرب الأولى في الرجل النبيل

ستتجلى أولى مظاهر التشبث بالسلطة وقوة الإمساك بها في لبنان، وسيكون رفيق الحريري أول تجاربها التطبيقية، فطلبه من بشار الأسد إنهاء وجوده في لبنان سيُقابل بترتيبه عملية ينهي بها وجوده، فتفجير سيارته ومقتله داخلها صدم العالم والغرب خاصة، فلا يُعقل أن يكون “الرجل النبيل” (Gentleman) الذي قابلوه قبل سنوات قليلة هو نفسه من يقف وراء اغتيال رجل طالب باستقلال بلاده.

لا يدخل الوثائقي في تفاصيل حقيقة تورط الأسد في مقتل الحريري، لكنه يستند إلى شهادات مقربين إليه، بينهم المنفي عبد الحليم خدام رئيس الوزراء السابق، إضافة إلى المستشار سمير التقي، وكلاهما وصف غضب الرئيس الشاب والخوف الذي اعتراه بعد العملية، لكن بُطء التحقيقات الدولية واختفاء الشهود أعاد إليه بعض طمأنينة ستدفعه لاستبدال الغرب الغاضب منه بإيران وروسيا، ليفتح بخطوته صفحة جديدة من علاقات ستؤثر على أوضاع المنطقة برمتها لاحقا.

تشدده في لبنان ورخاوة قبضة الغرب ضده شجعه للالتفات إلى الحرس القديم والعمل داخليا على إزاحته، ويصف وزير الثقافة السابق رياض نعسان أغا تلك الفترة بمرحلة “تعظيم الذات”. فهو أراد الخروج من معطف أبيه الذي ترّبى تحته، والظهور كقائد قادر على بسط سلطته والإمساك بها بيد من حديد.

أحضان فرنسا.. محاولات انتزاع سوريا من أنظمة الشرق

كانت مراجعة الوثائقي للسنوات الست الأولى من حكم بشار الأسد مذهلة بالمعنى الدقيق للكلمة، فهي متينة البناء غنية بالشخصيات والوثائق والشهادات، وإذا كان الذهن أول الأمر يذهب للاعتقاد بأن الفيلم موجه بالأساس للمشاهد الغربي، فإن غنى مادته وعمق الاشتغال على مفرداته وطريقة تقديمها تقنيا ستكون حتى بالنسبة للمشاهد العربي موضع ترحيب واندهاش، على الأقل من ناحية صياغتها بصريا، فما يُقدم أمام الجمهور من معطيات وحقائق في كافة أفلام “فيتكين” لا يخلو من متعة الفرجة، وهذا واحد من أسرار نجاح أعماله.

في مرحلة ما بعد عام 2007 يركز الوثائقي على دور فرنسا ومحاولتها انتزاعه من بين أيدي الروس والإيرانيين، وما مبادرات الرئيس الفرنسي “نيكولا ساركوزي” المتكررة لفتح قنوات معه إلا تطابقا مع ذلك السياق، وسيُتوّجها بدعوته مثل كبار الشخصيات ضيفا على احتفالات اليوم الوطني الفرنسي.

زادت تلك الخطوة قناعة الرئيس السوري بأن صفحة الحريري قد طويت أو في طريقها لذلك، فالغرب ببرغماتيته قادر على طوي أصعب الصفحات والبدء بفتح أخرى جديدة. درس سيتعلم كيف يستفيد منه حين تدخل بلاده دوامة الحرب الأهلية الفظيعة، وسيزيده غرورا وعنادا.

“أجاك الدور يا دكتور”.. ثورة سلمية تقابل بالنار

حين حلّ الربيع العربي لم يخطر ببال الأسد وصوله إلى عرينه، وكان مخطئا، فقد انطلقت مظاهرات سلمية في مدن عدة تطالب بإصلاحات اقتصادية وسياسية لم يتحملها النظام، بل لم يتحمل جملة كتبها طفل من درعا على جدران مدرسته “أجاك الدور يا دكتور”، فما لقاه التلميذ الصغير من تعذيب على أيدي رجال مخابرات السلطة دفع الأهالي للخروج احتجاجا على ذلك.

انطلاق الثورة رغم سلميتها بادئ الأمر سيُواجَه بالنار والدبابات والطائرات وحتى بالسلاح الكيميائي، فقد أراد النظام قمعها في المهد ولم ينجح، فعمت الفوضى البلاد ودخلت على خط أحداثها دول وأطراف إقليمية ودولية، وما كان معنيا به الوثائقي ليس يوميات الثورة ولا جانبا منها، بل الطريقة التي أدار بها الأسد المعركة وابتكاره لمعادلة “أنا أو الفوضى”. سيغور الوثائقي عميقا في تفكيك مفرداتها وأرقامها ويتوصل إلى نتيجة تفيد بنجاعتها وقدرتها على تغيير المعادلات الدولية كلها.

لقد رسخ الرئيس السوري وآلته الدعائية فكرة تقول “إذا أزحتموني من الحكم كما أزحتم الرئيس العراقي صدام حسين فسوف تحلّ الفوضى، وسيأتي المتطرفون إلى سوريا لتحويلها إلى مركز إرهابي يهدد العالم بأسره”.

معادلة الرعب.. دهاء يربك المخططات العسكرية الغربية

كانت تفاصيل بناء المعادلة السورية مخيفة، وطريقة فرضها كحقيقة على الأرض تكشف دهاءً أذهل خصومه، ولتثبيتها واقعا أطلق سراح بعض المنتمين إلى منظمات إسلامية متشددة وعاد ثانية لمحاربهم، ثم عامل المعارضة بكل فصائلها كمنظمات إرهابية، وضربها في مرحلة أشدّ مما ضرب المتشددين، وفي أحيان أخرى عمل العكس، وحتى حين خرجت الأمور من بين يديه وتوسعت “الدولة الإسلامية” اتخذ ممارساتها ورقة يخوّف بها الغرب.

تكريسه لمعادلة الفوضى أو بقائي في الحكم عطلت عمليات عسكرية جهزها الغرب لمهاجمته، وربما يطلع عليها المشاهد لأول مرة، ومن بينها تراجع “أوباما” في آخر لحظة عن خطة وضعت لقصفه مع الفرنسيين، والسبب خوفه من حدوث الفوضى وخروج الأمور عن السيطرة، فقد أربكت سياسته المتشابكة حتى الأمم المتحدة.

يكرس الوثائقي جانبا لتحرك الرئيس الروسي “بوتين” ودوره في تعزيز المعادلة العجيبة، والاستفادة لأقصى حدّ من حاجة سوريا له باتجاه تقوية نفوذه في الشرق الأوسط وسط صمت الأمريكيين، وتشير التفاصيل الكثيرة المتوفرة في المتن بوضوح إلى اتفاق بين العملاقين على إبقائه في موقعه مؤقتا، والعمل على جوانب سياسية أخرى تُنسي القضية الأساسية، قضية شعب يرفض حكمه ويدفع غاليا كل يوم أثمان موقفه.

لا يخرج الوثائقي بخلاصة نهائية ولم يرغب أصلا في ذلك، فيكتفي فقط بإعلان استغرابه من قبول العالم نظرية الإبقاء على الأقل شرا، وبطرحه سؤالا عن المفارقة التاريخية التي جعلت بلدا صغيرا مركزا للعالم، يحرص قادته على حفظ نظامه بالرغم من كل الفظاعات التي ارتكبها؟ وكيف صارت معادلة “أنا أو الفوضى” حقيقة تطغى على غيرها من الحقائق؟