“خيوط المؤامرة”.. بداية التوغل اليهودي في الجسد الفلسطيني

تفرض علينا مشاهدة السلسلة الوثائقية “النكبة” في سياق نكبة فلسطين المتجدّدة اليوم؛ أن نهتم منها خاصّة بملاحقة الوقائع التاريخية واستقرائها والتفكير في أسباب إدارة العالم ظهرَه للفلسطينيين، واستثنائهم من الحرية دون سائر الأمم، قبل التفكير في جوانبها الإنشائية والجمالية. فالأفلام لا تكتسب معاني مطلقة، وتظل تتفاعل مع السياق التّاريخي والاجتماعي المتحرّك باستمرار، ومشاهدتها في ظروف معيّنة قد تدفع بمعانٍ منها لا تدفع إليها سياقات أخرى.

هذه الرباعية الوثائقية التي تحمل العناوين تواليا “خيوط المؤامرة” و”سحق الثورة” و”التطهير العرقي” و”النكبة مستمرة” وأنتجتها الجزيرة عام 2009، تعرض مسار الأحداث، منذ الاستيلاء على أرض فلسطين وإعلان قيام دولة إسرائيل.

فتراكُم الشهادات المتشابهة وتغلُّب نبرة الشجن الممضّ؛ يخلّصان الفيلم من المعالجة الذّاتية، فهي تستند إلى المؤرّخين الإسرائيليين أساسا. فكانت على قدر كبير من الأهمية على أكثر من مستوى.

وقعت السلسلة على وثائق بصرية مهمّة لما رافق النكبة من تدمير وتهجير، وأسهمت في حفظ شيء من الذّاكرة. ولئن بدا كثير من المعلومات معهودا لدى شرائح كثيرة من المتفرّجين، فإن شبابنا الحامل لهمّ القضية الفلسطينية اليوم لا يعرف الكثير عن بداياتها. وتعود الحلقة الأولى من هذه السلسلة “خيوط المؤامرة” إلى الأصل البعيد للتآمر المسيحي اليهودي على فلسطين.

“فرنسا تقدّم لكم يدها حاملة إرث إسرائيل”.. نداء المؤامرة

مثّل اليهود معضلة مستمرّة للمجتمعات المسيحية، ففضلا عن الخلفية الدينية التي تحمّلهم مسؤولية تسليم المسيح للرومان لصلبه، كان لهم من الحنكة ما جعلهم يسيطرون على أسواق المال والذهب، ويبسطون سلطانهم على الحياة الاقتصادية في المجتمعات التي يعيشون فيها، وكان لهم من الانخراط في دنيا الفكر والأدب ما جعلهم يسيطرون على الحياة الثقافية.

ومقابل استهدافهم المستمر في هذه المجتمعات، وجدوا في المجتمعات الإسلامية بيئة متصالحة، تخوّل لهم المشاركة في الحياة الاقتصادية مشاركةً فاعلة، فلم يواجهوا التضييق في تجارتهم ومهنهم، ولم يتحولوا إلى أقلية منبوذة.

ولا بدّ من أخذ السياقات التاريخية بعين الاعتبار، فذلك لم يكن يتحّقق إلا بعد تسليمهم بكونهم من أهل الذمة، فيتعيّن عليهم أن يدفعوا الجزية، وأن يلتزموا بعدم القدح في دين الإسلام، وأن يحترموا عادات مجتمعهم، وألاّ يعينوا أهل الحرب المعتدين عليهم.

وتفاقمت أوضاعهم في نهاية القرن التاسع عشر وازدادت سوءا في عامة القارة الأوروبية بالنّظر إلى التنافس الاقتصادي المحموم في ظل تنامي النزعات القومية والحمّى الاستعمارية، فكانوا مخيرين بين الذوبان في الكيانات المسيحية أو التعرّض إلى التمييز والاضطهاد.

في هذه الأثناء وجد العقل الأوروبي في فكرة جمع يهود الشتات في دولة إسرائيل -ضمن التراث اليهودي والمسيحي- ما به يتخلّص منهم، فاستعجل الأمر وأخذ يحثّهم على الهجرة إلى فلسطين، قبل ظهور المسيح لا بعده كما في هذا التراث.

المؤامرة على فلسطين تعود إلى عام 1799 بعكا، عندما دعا “بونابرت” كل يهود آسيا وأوروبا للقدوم إلى القدس تحت الراية الفرنسية

فتعود بدايات هذه المؤامرة إلى عام 1799 بعكا، لمّا توجّه “نابليون بونابرت” إلى يهود العالم بنداء قال فيه: أيها الإسرائيليون انهضوا، فهذه هي اللحظة المناسبة. إن فرنسا تقدّم لكم يدها الآن حاملة إرث إسرائيل، سارعوا للمطالبة باستعادة مكانتكم بين شعوب العالم.

وقد جعلت هزيمة “نابليون” هذا النداء يخفت، لكنه لم ينقطع، فقد رنّت أصداؤه في خطاب وزير الخارجية البريطاني “هنري بالمرستون” إلى سفيره في إسطنبول، لمّا طالبه بأن يقنع السلطان وحاشيته بأنّ الوقت قد حان لفتح فلسطين أمام اليهود.

وبعد جملة من الأفكار البدائية حول تجميع اليهود في وطن واحد للحاخامات “يهودا بيباس” و”تسفي هيرش كاليشر” و”يهودا القلعي”؛ اكتسب مشروع الدولة اليهودية بُعدا عمليا مع “تيودور هيرتزل”، فقد بسط في كتاب “الدولة اليهودية” الذي أصدره عام 1896 أفكارا عملية لتهجير اليهود إلى فلسطين، وتجنيد اليهود عبر العالم لخدمة “قضيتهم”.

“العروس جميلة مستوفية للشروط، لكنها متزوجة”

على المستوى العملي مثلت سنة 1885 بداية التحرك الفعلي لتنفيذ المشروع، فقد كان تعداد اليهود في فلسطين نحو 3 آلاف فرد، عندما تطوّع البارون الثري “أدواند روتشل” لتمويل إنشاء 30 مستعمرة يهودية، ثم أرسل الطبيب “نوردو” مساعدين من كبار رجال الدين اليهود لاستجلاء المكان، فكتبا له: “العروس جميلة جدا ومستوفية لجميع الشروط، ولكنها متزوجة”، ملمّحين إلى أنّ شعبا يسكنها منذ آلاف السنين، وأنّ الاستيلاء عليها يحتاج إلى الاستعداد الجيّد.

ثم عُقد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل السويسرية في أغسطس/ آب 1897، فتبنى فكرة تأسيس وطن معترف به للشعب اليهودي في فلسطين، وأوصى بالاتصال بدول العالم الكبرى لضمان قيام هذا الكيان وحمايته.

المؤتمر الصهيوني الأول في بازل السويسرية في أغسطس/ آب 1897
المؤتمر الصهيوني الأول في بازل السويسرية في أغسطس/ آب 1897

لقد كان أغلب الأوروبيين يريدون التّخلّص من اليهود. ووجدوا في فكرة الوطن البديل الذي يجمعهم تطهيرا عرقيا ناعما مفيدا للمُرحِّل والرّاحِل معا، وحجرا يصيب ثلاثة أهداف في الآن نفسه، يطهّر بلدانهم من عبئهم الثقيل، ويخلي الساحة للرأسمال القومي أولا، ويضمن حليفا مخلصا في الشرق ثانيا، ويغرس خنجرا مسموما في الجسد المسلم الخامل وقتها، بعد إقصائه من الأندلس قبل أربعة قرون.

ولم تكن البلدان الغربية منسجمة رغم تشابه تعاطيها مع اليهود وقتها، فكل منها كان يريد استغلالهم لصالحه، لذلك انتزع البريطانيون فكرة “وطن اليهود القومي” من الفرنسيين، وعملوا على تحقيقها، لكن بعد الحرب العالمية الأولى واتفاقية “سايكس بيكو” تحوّل صدامهم إلى تحالف، ووجدوا في هذا الكيان عونا لهم لتمزيق جسد الشرق.

شراء الأراضي.. زراعة البذرة الأولى للدولة اليهودية

يرى مهدي عبد الهادي، رئيس الجمعية الفلسطينية الأكاديمية للشؤون الدولية، أنّ الفلسطينيين كانوا على وعي بما يحاك لبلادهم، ويستشهد بتحذيرات نجيب عزوري ونجيب نصار صاحب صحيفة الكرمل من المطالب الصهيونية، قبل أن يسجنه الأتراك ويلاحقوه.

لكنّ الدلائل التي يعرضها الجزء الأول من السلسلة تفيد بما يخالف تقديره، ففي عام 1907 وصل إلى فلسطين عالم الكيمياء الأمريكي وعضو الحركة الصهيونية “حاييم وايزمان” ليؤسس “شركة تطوير أراضي فلسطين” في يافا، ثم في 1910 اشترى الصندوق القومي اليهودي أكثر 200 ألف دونم من ضباط عثمانيين، عبر وساطة عائلة سرسق اللبنانية في سهل مرج بن عامر شمال فلسطيني، على شرط إخلاء الأراضي من ستين ألف مزارع يعمل فيها، وقد عُوّضوا بيهود من أوروبا الشرقية، ثم بآخرين من اليمن. ولكن لا أحد انتبه إلى هذه الخطوة الأولى من مسار تهويد الأرض، ثم تطهيرها العرقي.

بعدئذ شرع الصهاينة في غرس البذرة الأولى للدولة المستقبلية، فتأسس الحرس اليهودي “هاشومير” لحراسة هذه الأرض. وفي عام 1915 قُدّمت لمجلس الوزراء البريطاني مذكرة سرية بعنوان “مستقبل فلسطين”، كتبها “هربرت صاموئيل” أول وزير صهيوني يهودي، وتشير إلى أنّ الوقت الحاضر ليس مناسبا لإنشاء دولة مستقلة.

اللورد آرثر بلفور في زيارة لكنيسة القيامة في القدس عام 1920
اللورد “آرثر بلفور” في زيارة لكنيسة القيامة في القدس عام 1920

وتقترح المذكرة أن توضع فلسطين تحت السيطرة البريطانية، ريثما تشتري المنظمات اليهودية مزيدا من الأراضي، وتنظم مزيدا من الهجرات. وهو ما اعتُمد في توصيات اتفاقية “سايكس بيكو” لتقسيم سوريا الكبرى.

ثم تلتها في 1917 موافقة مجلس الوزراء البريطاني على إنشاء وطن لليهود وفق الرسالة التي كتبها “أرثر بلفور” إلى اللورد الصهيوني “ليونيل والتر روتشيلد”. وقد احتل الجيش البريطاني مدينة القدس بمشاركة فيلق يهودي مجهز بأوامر من “ونستون تشرشل” وزير المستعمرات آنذاك. وكان من أعضائه “دايفيد بن غوريون” و”نحميا رابين” والد “إسحاق رابين”.

مقابل كل هذا المدّ والحراك، كانت حالة الركود والانحطاط العربيين عامّة، وكانت الغيبوبة عميقة، فحالت دون الانتباه إلى هذه المؤامرات التي تحاك ضدّ الوطن العربي، رغم قوافل الهجرة اليهودية التي تمرّ أمامه. وكان الجسد العربي مفتقدا للمناعة، غير قادر على الدفاع عن نفسه ضد الفيروسات التي تهاجمه.

مؤتمر باريس للسلام.. تعاون عربي صهيوني لبيع الأرض

حقّق الوفد الصهيوني في مؤتمر باريس للسلام 1919 اختراقا معتبرا، فقد وقّع “حاييم وايزمان” رئيس المنظمة الصهيونية العالمية مع الملك فيصل الأول بن الحسين بن علي الهاشمي اتفاقيةً تعطي لليهود تسهيلات في إنشاء مجتمع للتعايش في فلسطين، والإقرار بوعد “بلفور”.

فيذكر نص الديباجة ما يلي: إن الأمير فيصل ممثل المملكة العربية الحجازية والقائم بالعمل نيابة عنها، والدكتور “حاييم وايزمان” ممثل المنظمة الصهيونية والقائم بالعمل نيابة عنه، يدركان القرابة الجنسية والصلات القديمة القائمة بين العرب والشعب اليهودي، ويتحقق أنَّ أضمنَ الوسائل لبلوغ غاية أهدافهما الوطنية، هو في اتخاذ أقصى ما يمكن من التعاون، في سبيل تقدم الدولة العربية وفلسطين، ولكونهما يرغبان في زيادة توطيد حسن التفاهم الذي بينهما.

وتشتمل الاتفاقية على تسعة بنود تمهّد جميعها للتفريط في فلسطين. وفي المؤتمر عرض “حاييم وايزمان” خريطة تبين حدود الدولة اليهودية التي تقرر إنشاؤها، فكانت تشمل فلسطين وغور شرق الأردن، وتتمدّد في لبنان حتى صيدا وصور، وتتجه شرقا حتى القنيطرة في سوريا.

وبعد عام من هذا المؤتمر، اختير اليهودي الصهيوني “هربرت صاموئيل” صاحب توصيات 1895 حاكما بريطانيا لفلسطين، وبإشرافه بدأ العمل الفعلي على تنفيذ وعد “بلفور”، فضمّنت بريطانيا في البند الثاني من عقد الانتداب الذي صادقت عليه عصبة الأمم؛ تكليفها بالعمل على تحويل فلسطين إلى وطن قومي لليهود.

ثورة البراق.. بداية الصحوة العربية في فلسطين

في عام 1925 كرّمت المنظّمة الصهيونية “هربرت صاموئيل”، لإنهائه المرحلة الأولى من تأسيس الدولة اليهودية، فقد أمّن في هذه السنة وحدها وصول نحو 34 ألف يهودي ومنحهم الجنسية الفلسطينية. وأسهم في تأسيس 13 مستوطنة جديدة، ومنح البلدة اليهودية تل أبيب استقلالا محليا، وبعثت الوكالة اليهودية نقابة خاصّة باليهود، وافتتحت الجامعة العبرية رسميا، وأخذ الصهاينة يروّجون لفكرة أن وجود فلسطين عربية تمثّل خطرا على بريطانيا، أما فلسطين اليهودية فستكون مكسبا لها وبركة للعالم.

تفاعل رئيس الوزراء البريطاني “ديفيد لويد جورج” مع هذا الخطاب، فأشاد بالتطور الذي تشهده فلسطين وهي تتحول من مستنقعات تنشر الملاريا إلى أرض منتجة، وهي الرواية التي تُذكر إلى اليوم، لتصوّر العرب قوما رحّلا عاجزين عن إعمار الأرض، على خلاف اليهود أصحاب الخبرة والحزم.

وبعد أكثر من ثلث قرن، انتبه جهاز المناعة في الجسد الفلسطيني إلى الجسم الغريب الذي يزرع فيه، وظهرت بداية من 1921 بوادر الثورة، وكان مصدرها الوعي الشعبي التلقائي، ولكن على نحو بسيط غير مكافئ للتحالف اليهودي البريطاني.

وفي عام 1929، ظهر الصدام الديني لأول مرة بعد، فقد نظّمت الوكالة اليهودية تجمعا للصلاة عند حائط البراق، للمطالبة بإعادة بناء الهيكل، فكان هذا الحدث مبعث ثورة شعبية عرفت بـ”ثورة البراق”، وقد قادها الفلاح الفلسطيني فرحان السعدي، ثم تصاعدت المظاهرات في عام 1933، وواجهها البريطانيون بالقمع الشديد والاعتقال.

لكنّ التحوّل الكبير سيكون سنة 1935، فقد قاد السوري عز الدين القسام ثورة مسلحة، فكان أول عربي يهب لنصرة القدس، وخلق بذلك مرحلة جديدة من الوعي. أما القادة العرب فكانوا يبحثون عن حلول في بريطانيا، ويبرهنون على أنهم يتشكّلون من نخبة عاجزة، همّها المحافظة على مصالحها، عبر ضمان مصالح البريطانيين وعدم معاداة حلفائهم اليهود.