الإعلانات والسعادة المزيفة.. كيف تتلاعب صور الإعلانات بمشاعرك؟

 

آية طنطاوي

بعد يوم عمل مثقل بالتعب والمشاكل كان عليها أن تقطع بسيارتها مسافة 30 كيلومترا لتصل إلى البيت، لم تفكر في شيء سوى في الطريق الذي ستهرب إليه لتبتعد عن مبنى العمل الذي يذكرها بكل الإرهاق والضغوط.

 كانت الشمس تغرب، واللافتات الإعلانية تضيء جانبي الطريق، فتحولت واجهة سيارتها لانعكاس عشوائي لكل الصور اللامعة التي تعلن عن مدن سكنية جديدة ومشروبات المياه الغازية وتخفيضات ملابس الشتاء.

لاحظتْ بأسى أن النساء في اللافتات أكثر سعادة منها، وفجأة عند نهاية الطريق انعطفت يسارًا، هذا ليس طريقها إلى بيتها بل إلى مركز التسوق، حيث السعادة المفقودة التي تنتظرها هناك.

 

الإعلانات وبرمجة العقل

في فيلم الجزيرة الوثائقية “استبداد الصورة” يفسر أستاذ السيميائيات (علم يدرّس ويحلل دلالات الصورة) في جامعة محمد الخامس بالرباط سعيد بنكراد الدور الذي تلعبه شركات التسويق في ملاعبة رغبات المتلقي.

 فهذه الشركات عند تفكيرها في تنفيذ إعلان تجاري معين فإن هدفها الرئيسي هو المستهلك لا المنُتَج نفسه، وبالتالي فهي تلعب على نقطة أبعد داخل المستهلك وهي رغباته واحتياجاته، والصورة تساعد على تحقيق ذلك أسرع من الكلمة.

 لذلك يكون انتقاء صور الإعلانات التجارية من منطلق ما ستُحدثه الصورة من تأثير في ذهن المتلقي بشكل لا شعوري، ولأن اللعب على المشاعر هو أسهل الوسائل وأكثرها ضمانًا، تنجح الإعلانات في بيع الشعور الذي تريده، وهو ما يسميه بنكراد برمجة الإنسان.

وقديمًا كانت الإعلانات التجارية لا تكتفي بالصورة فحسب، بل كانت تعتمد أساسا على الكلمات الجذابة التي تثير انتباه المستهلك.

نجد مثلاً أن الملصق القديم ليس مجرد إعلان لـ”كوكاكولا”، بل هو إعلان عنها في فصل الشتاء حيث الأغلبية لا يُقبلون على شرائها، وما يقوم به الملصق أنه يلعب على مفردتين هما “الحب” و”الظمأ”، وهما كلمتان تمسّان الإنسان ومشاعره وتجذبه أكثر تجاه المنتج، فتتحول مشاعره تجاه المنتج إلى حب سيجعله مرتبطا به أكثر، وأنه في لحظات الظمأ يجب أن يختار المنتَج دون التفكير في شرب أي شيء آخر، فكل شعور بالظمأ سيذكره بشكل لا إرادي بـالكوكاكولا.

قديما كانت الإعلانات التجارية لا تكتفي بالصورة فحسب، بل كانت تعتمد أساسا على الكلمات الجذابة التي تثير انتباه المستهلك مثل إعلان كوكاكولا

 

من دعاية إلى ترسيخ قيم

يربط الناقد الإيطالي إمبرتو إيكو بين الوحدة السيميائية والوحدة الثقافية، فالمظاهر الكونية كلها حافلة بالصور والرموز وتشكّل ظواهر إنسانية وحياتية مختلفة، مثل علامات الطريق وصورة الإناث والرجال على أبواب الحمامات العامة ولافتات التدخين وإشارات المرور وغيرها من صور ورموز تُفهم بدون كلمات في سياقها، وتشكل في النهاية وحدة ثقافية ترتبط مع الإنسان بشعور ما أو بفهم ما أو بمكان ما.

وتتحول الصورة بشكل تلقائي إلى مجاز يدرك معناها الكلي من النظرة الأولى، وتصبح جزءا من الثقافة الشعبية العامة، فإن الخط المائل على صورة سيجارة في أحد المقاهي تجعلنا نفهم أن هذا المكان غير مسموح فيه بالتدخين. فيبدأ الشخص المدخن بالتفكير في أن هذا المكان لا يناسبه وعليه الخروج منه، أو أن يجلس لساعات فيه دون تدخين مما يؤثر على رغباته وقراراته.. كل هذا يدور في عقله في اللحظة التي رأى فيها الصورة. وعليه فإن كل صورة في العالم ترتبط داخلنا بشعور ما.

“الصور لها قوة مميزة تؤثر في صورة الذات الخاصة بنا وهذا يعني أن معايير الجمال والحس الجمالي الذي تعرضه هذه الصور ترسّخ الملامح البيضاء والنحافة كنمط جسدي مرغوب” (عزيز العرباوي- كاتب مغربي)

من هنا نعود من جديد إلى صور الإعلانات التجارية التي تحيط بنا في كل مكان، فوق أسطح البنايات وعلى جانبي الطرق السريعة وفوق الأرصفة وفي الصحف والمجلات والفواصل الإعلانية في القنوات التلفزيونية، ويمكننا أن نطرح سؤالا: هل صور الإعلانات مجرد دعاية للمنتَج أم أنها ترمي لأبعد من ذلك؟

سعيد بنكراد: التمثيل البصري هو كتلة هائلة من الانفعالات التي هي أصل الرغبة وأصل الحاجات وهي السبيل إلى تلبيتها أيضا

 

الاستهلاك والرغبات.. نزعاة نفسية

في تحليله للافتات الإعلانات لا يستطيع الناقد الفرنسي رولان بارت أن يفصل الصورة عن إطارها الكلي والتي تهدف بالأساس إلى شراء هذا المنتج بعينه إلى جانب غايتها في إحياء فعل الشراء بداخل المتلقي، لأن هذا الفعل الاستهلاكي إذا تولد بداخل الفرد سيضمن استمرارية المنتج في الأسواق وعدم بواره، وهذا يسير وفق معادلة بسيطة تلخص تحليل رولان بارت وهو التزاوج بين الغاية الوظيفية المباشرة وبين إعادة إنتاج قيم مختلفة.

“أصبح المواطنون العاديون يذهبون في سعي يائس وراء أشياء جديدة ليشتروها” (روجر روزنبلات)

فبشكل لا إرادي تتحول الإعلانات من مجرد دعاية إلى ترسيخ قيم معينة داخل الإنسان، مثل الرغبة في الامتلاك والغنى والرفاهية والسعادة والحياة المثالية والجمال وغيرها من قيم وأفكار وأيدولوجيات، ستتحقق عندما يقوم الفرد بالشراء والامتلاك.

وهذه السعادة هي ما كانت ترغب صديقتنا في الحصول عليها بعد يوم عمل قاسٍ، لذلك غيرت مسارها وذهبت للتسوق، وهذه الملصقات دون أن تشعر ساعدتها على ذلك.

والامتلاك هو جوهر النزعة الاستهلاكية، وهذه النزعة تحولت إلى مزاج نفسي قد تصل بالبعض إلى البكاء المفرط لو لم يشتروا شيئا ما، أي شيء، فقط لأن هذا يذكرهم بكل الأشياء التي يريدونها ولم يمتلكوها بعد.

الوضع الذي ينتج عن الاستهلاك يدور حول الرغبات ويصبح تحقيقها هو الهدف وهو في ذاته استعباد غير محمود يبتعد كل البعد عن مفاهيم الحرية التي نسعى لتحقيقها

 

“استعباد” المظاهر و”شراهة” السلوك

في عدد من المقالات التي تنتقد ثقافة الاستهلاك وتأثيرها على المجتمع الأمريكي، يمكن إجمال خلاصة هذه التحليلات في عبارات تتعلق بنفسية المواطن الأمريكي الذي يُعتبر نموذجا لـ”الحزن الأمريكي” ويتعرض لـ”مجاعة الروح”، وذلك لأن الوضع الذي ينتج عن الاستهلاك يدور حول الرغبات ويصبح تحقيقها هو كل هدفه. وهو في ذاته استعباد غير محمود يبتعد كل البعد عن مفاهيم الحرية التي نسعى لتحقيقها.

وعلى جانب آخر يتحول الاستهلاك الشره إلى جزء من تكوين الفرد ويمارسه ليس فقط في الشراء، بل يمتد للأكل والشرب ومشاهدة الأفلام وغيرها من سلوكيات تمارَس بجنون وشراهة.

ومن منظور آخر لفكرة الامتلاك أصبح ما تمتلكه هو تعبير عن “من أنت”، وهذا يضعنا أمام نمط ونظرة مجتمعية جديدة أصبحنا نقيّم بها الأشخاص حسب ممتلكاتهم، فمن يملك شقة صغيرة يختلف عمن يمتلك فيلا في مجمع سكني، ومن يرتدي ملابس عادية يختلف عمن يرتدي دائمًا ماركات شهيرة، ومن يحتسى قهوته اليومية على مقهى متواضع مختلف عمن يشربها يوميا في مقهى شهير.

 كل هذه المظاهر الاستهلاكية تعيد تشكيلنا في خريطة المجتمع، وتجبر البعض على الانغماس في فعل الاستهلاك حتى لو لم يكن قادرا عليه؛ فقط كي لا يكون في موقع متدنٍ في هذه الخريطة.

بعد ساعات طويلة من تجولها داخل “المول” خرجت صديقتنا سعيدة بكل الأشياء التي قامت بشرائها وهي متأكدة أنها ستستطيع الآن أن تواجه المشاكل التي تنتظرها في العمل، لكنها أيضا سحبت أموالا كثيرة من بطاقة ائتمانها، كما أنها مدركة تماما أن أغلب ما تحمله في حقائب التسوق هي أشياء لا تحتاجها.

نحن بجانب استيراد المنتج نستورد معه ثقافته، والتي ستتحول بمرور الوقت إلى جزء من ثقافتنا

 

استيراد السلع.. والثقافة أيضا

بعد حديثنا عن ثقافة الاستهلاك في أمريكا باعتبارها بلدا مستهلكا ومنتجا لما يستهلكه، ماذا عن المجتمعات الفقيرة التي تستورد إنتاج هذه الدول؟

يحلل المفكر الاقتصادي جلال أمين ظاهرة الاستهلاك في البلاد الفقيرة أو النامية من بُعد آخر يتعلق بالثقافة التي يجلبها لنا الفكر الاستهلاكي، فنحن بجانب استيراد المنتج نستورد معه ثقافته، والتي ستتحول بمرور الوقت إلى جزء من ثقافتنا وتعمل على إحلال مفردات ومفاهيم وأفكار هي بالأساس غريبة عنا لكنها تندمج في حياتنا اليومية وتصبح جزءا من تكويننا ورغباتنا.

وينطبق هذا على الماركات التجارية العالمية والوجبات السريعة أو حتى انتشار أكلات معينة هي جزء من مجتمع آخر (الهامبرغر مثلا)، وهذا قد يؤدي إلى اندثار ثقافة المجتمع المستورِد فتصبح الماركات المحلية غير لائقة، والمطبخ المحلي غير موجود في قوائم أشهر المطاعم، مما يُحدث إحلالا للثقافة والأفكار.

وعلى مستوى آخر فإن المستويات الاجتماعية الأقل في المجتمع تتطلع إلى المستويات الأعلى، وهذا ليس سعيا ينشد الجوهر، بل ينشد المظهر بالأساس، فنجد أشخاصا لا يملكون الكثير من الأموال يحرصون على ارتداء أشهر الماركات؛ فقط ليلتصقوا بشريحة مجتمعية معينة.

وهذا لا يختلف كثيرًا عن المجتمعات النامية التي تفتقد الكثير من احتياجاتها الأساسية، لكن أسواقها غارقة في المنتجات المستوردة التي نصنفها في خانة الرفاهيات.

في طريق عودتها إلى المنزل كانت اللافتات الإعلانية تحيط بها طوال الطريق، لكنها في لحظة أدركت أنها رغم شعورها بالسعادة بكل الأشياء الجديدة التي أصبحت تمتلكها، فإنها لن تصل إلى تلك السعادة التي تراها في هذه اللافتات، لأنها تعرف جيدًا أنها مزيفة.