“جَدِّي الليندي”.. رحلة التعرف على جدّي الإنسان لا السياسي

عبد الهادي سعدون

ما أكثر صور القادة السياسيين التي تأتينا بها الأخبار وشاشات التلفزيون. نعرف عن هؤلاء الكثير، إذ نتتبع عملهم السياسي المستمر حتى مغادرتهم أو سقوطهم أو موتهم، لكننا نكاد لا نقبض إلا على اليسير من الحياة الشخصية والعائلية لهم، بينما يسوقنا الشغف دوما لمعرفة ما أريد له أن يختفي أو أُخفي عنوة.

يأتي هذا الفيلم التسجيلي المُعنون “جدي الليندي” (2015) متميزا بميزتين، هما التعرف إلى الجانب الشخصي والإنساني الخفي لرئيس تشيلي المعروف “سلفادور الليندي” الذي اندفعت إليه دبابات “بينوشيه” عام 1973، ففضّل أن ينتحر على أن يُسلّم نفسه، أما الميزة الأخرى فإن الفيلم من إخراج حفيدته “مارثيا تامبوتي الليندي”.

عندما وقع الانقلاب العسكري في تشيلي مُطيحا بحكومة الليندي الوطنية المنتخبة عام 1973، لم يكن للحفيدة من العمر سوى سنتين، ومنذ ذلك الوقت عاشت حياتها برفقة من تبقّى من العائلة في منفاها المكسيكي، بل إنها تعدّ نفسها مكسيكية بعد أكثر من ثلاثين عاما أمضتها في العاصمة مكسيكو سيتي.

المخرجة مارثيا الليندي التي جعلت من فيلمها ألبوما وحقا شخصيا تسترده

 

حفيدة الرمز التشيلي.. كشف للألغاز

حين رجعت “مارثيا” للمرة الأولى إلى تشيلي بعد زوال حكم العسكر الدكتاتوري، لم تستطع التكيّف مع واقعها الجديد الذي يُشير إلى كونها حفيدة لرمز وطني كبير في تشيلي، فكان أن غادرت البلاد ولم تعد لها إلا منذ عامين لغرض وحيد هو البدء في هذا الفيلم التسجيلي، مع رغبة حقيقية في داخلها هي التعرف إلى الجانب الإنساني لرجل تشيلي الأهم؛ الليندي.

أرادت مارثيا البحث عن كل تلك الآثار العائلية المسكوت عنها، لتبني من جديد ما فقدته من صور شخصية وعائلية حميمية ضاعت في تلافيف التاريخ السياسي، والمنفى الإجباري، وآلام أفراد عائلة ترفض الحديث عن كل هذا. الفيلم التسجيلي بدقائقه التسعين محاورات عائلية بين الجدة والأم والحفيدة والأحفاد الآخرين، مع سؤال وحيد تطرحه المخرجة الحفيدة هو: “منْ يستطيع منحي صورة ما عن “الليندي” الجد والرجل والإنسان؟”

لكنها في الحقيقة ما إن تدخل في حوارات مطوّلة مع الكل، حتى تكاد تكتشف أن الألغاز تتكاثر، والصور تبدو معتمة، وكأن الجميع يرغب في أن تبقى الصورة الأولى والأخيرة عن “الليندي” هي تلك الصورة المعروفة عالميا عن السياسي والأسطورة الحيّة المتبقية في أذهان الجميع. وهو ما يتكرر دائما بين الحفيدة والشخوص الآخرين الذين يذكرونها سرا أو علنا، بأن الحديث عن هذا الجانب يُعدّ مُحرما بين أفراد العائلة، لذلك تُصرّ الحفيدة على العمل في هذا الشأن، لأنها تعتقد أن “الليندي” يستحق أن نتحدث عنه من وجهة نظر أخرى غير تلك الصورة الملاصقة للسياسي المعروفة مسبقا.

من أرشيف العائلة، حيث سلفادور الليندي برفقة زوجته وعائلته

 

بحث عن آثار مفقودة.. عمل جماعي لعائلة

من هنا يبدو الفيلم كأنه عمل جماعي لعائلة تزيح النقاب شيئا فشيئا عن الآثار المفقودة لرجل قبل أن يكون سياسيا، كان أبا لعائلة وجدّا لأحفاد، وإنسانا عاديا مارس حياته بشغف، وخصّ أفراد عائلته بالمزيد من الوقت واللهو والعطل والمشاجرات والألعاب. حيث استطاعت الحفيدة من خلال 32 مقابلة مع أفراد من الدائرة المقربة آنذاك من الجد المغدور، معرفة ما يساعدها على تكوين صورة شخصية عنه.

تعترف المخرجة من خلال الحديث مع الأم والجدة أن ما يدفعها لذلك حق شخصي قبل كل شيء، ففي النهاية ما تحتاجه الحفيدة عن الجد هو تلك الصورة المقربة التي تستطيع أن تملأ بها ذاكرتها الخالية من آثاره، ولكي تصنع في النهاية حكايتها الخاصة عن جدّ لم تتعرف إليه إلا من خلال أحداث أخرى.

من خلال ألبومات الصور والأفلام العائلية التي مررتها المخرجة بذكاء مع أحاديث نساء العائلة، خلقت المخرجة جوّا من الحميمية العائلية، وكأن الجميع قد قرر الجلوس أخيرا لشرح تفاصيل كل تلك الأيام التي مرّت برفقة الجد.

في هذا الفيلم منحت المخرجة “مارثيا” أيضا بطولة رمزية لجدتها المريضة بالتركيز على شخصيتها الشجاعة التي حمت آثار الجد بعد الانقلاب من خلال عملها المستمر منذ عام 1973 وحتى اليوم؛ بالتذكير بمناقب رجل الديمقراطية التشيلية في كل المنابر العالمية، ولم تترك مناسبة واحدة تمر دون أن تكون الأولى فيها. هي هنا الجدة التي لمّت شمل عائلة شتتتها دكتاتورية “بينوشيه”، وكل جزء منها في مكان، بين أموات ومنفيين، والغرض في كل هذا أن تبقى صورة “الليندي” وعائلته عالقة في أذهان أبناء وطنه وفي أذهان شعوب العالم.

الجدة زوجة سلفادور الليندي في فراش المرض تحيط بها ابنتها وحفيدتها مارثيا

 

النبش في ذاكرة الجدة.. سنوات القهر والمنفى

تحاول الجدة -وقد تجاوزت التسعين بعدة سنين- في مرات عديدة تنبيه الحفيدة أنها غير قادرة على التذكر، لأن الذكريات تعود عليها بآلام عشرات السنين من القهر والمنفى والآلام الشخصية، لكن الحفيدة بالطبع لا تقف عند هذا التأنيب والتحذير، بل تغوص أكثر في تفاصيل حياة الجد الماضية.

تتعرف إليه من خلال التنقيب في الأرشيفات العائلية والرسمية، وتفرح كثيرا عندما تشاهده صغيرا وشابا قرب البحر أو في مطعم، أو في رداء الطبيب إبان الأربعينيات والخمسينيات، أو مع الزوجة وأفراد العائلة، أو حتى مع أشخاص مجهولين وغير ذلك، إضافة إلى علاقاته السرية والعلنية مع النساء، هل كان أبا حميما مع أولاده؟ وكيف كانت علاقته مع زوجته؟ وهل كان وراء دخول ابنته الكبرى في المعترك السياسي؟ ولماذا مضى لقدره حتى قصر الرئاسة المحاصر من قبل الانقلابين وقد ترك العائلة في مكان آخر مع علمه المسبق بأنه لن يراهم بعد اليوم؟

أسئلة وأسئلة تكشف بالتدريج كل تلك الحقائق المطموسة في الماضي، كما لو أن الحفيدة تقلب صفحات كتاب منسي. وقد استطاعت الحفيدة وهي تسترد ملامح الجد في فيلمها التسجيلي هذا، أن تؤرشف كل ذلك وتؤطره وتحتفظ به بما يشبه ألبومها الشخصي عن رجل عرفه الآخرون وقد بدأت التعرف إليه الآن فحسب.