المقام العراقي.. سردية موسيقية تروي ألف عام من التاريخ

تذكر كتب السيَر أن الخليفة العباسي المعتمد بالله سأل ابن خرداذبه مؤلف كتاب اللهو والملاهي، من هو المغنّي الحاذق؟ فأجاب ابن خرداذبه “المغنّي الحاذق يا أمير المؤمنين، من تمكن من أنفاسه، ولطّف من اختلاسه، وتفرّع في أجناسه”.

لعل هذا الوصف من أصدق ما يمكن أن يوصف به قارئ المقام العراقي، ذلك الفن الذي تضرب جذوره في التاريخ، لتصل إلى دولة العباسيين، فهو نسيج عراقي خالص، انتقل إلى التاريخ الحديث مشافهة عبر الأجيال.

بهذا الفن وبنغماته تميَّز العراق، وقدّم نموذجا فريدا يعكس مكانة وتاريخ وطبيعة الأرض والإنسان العراقي العربي الأصيل، تصحبنا الجزيرة الوثائقية في فيلم “المقام العراقي” للتعرف عليه وعلى موسيقاه الجميلة، من حيث النشأة والأصول ومن حيث التركيبة الفنية ومن حيث استعراض تجارب أهم رواد هذا الفن.

المقام العراقي يعود في نشأته إلى النوادي أو الزورخانة

ويمثل هذا الفيلم محاولة لتعريف المشاهد بهذا الفن وأصالته من خلال استعراض تاريخي لفن المقام العراقي من قبل مختصين يتحدثون عن التطورات والخصائص الفنية الموسيقية التي مر بها المقام العراقي.

كما يعرض الفيلم مقابلات لأشخاص يُعتبرون من أعمدة هذا الفن، يتحدثون عن تجربتهم الشخصية وتاريخ هذا الفن ومستقبله، بالإضافة إلى مداخلات مغني المقام والضيوف المختصين في محاولة جادة للحيلولة دون انقراضه كما جاء في تقرير منظمة اليونسكو.

في كنف بغداد عاصمة الخلافة

المقام العراقي هو لون من الغناء العراقي الجميل المرتجل يقوم به قارئ المقام يرافقه عازفون، ويتميز هذا النوع من فنون العراق بثرائه ومجده وجمالياته، ويطغى عليه الشجن والحنين الذي يشد السامع ويبهره.
كانت بغداد عاصمة الخلافة، وكانت ملتقى كثير من المغنين والموسيقيين، فازدهرت الحياة الفنية واستفاد من ذلك المغنّي العراقي، وأدخل تلك الألوان في بوتقة الفن العراقي، وتركز هذا الفن في بغداد والمدن العراقية الأخرى كالموصل وكركوك والمدن الكردية والبصرة.
ويرى رواد هذا الفن أن المقام العراقي تشكل في الفترة من القرن الثامن عشر إلى القرن العشرين، وأصبح جزءا من التراث، وفي تلك الفترة تبلور وتطور وعُرف بشكله الحالي المكون من خمسة عناصر.

المقام العراقي تطور عبر أكثر من قرنين

أصبحت للمقامات بدايات واضحة ووسط ونهاية، ويشترط وجود العناصر الخمسة في كل مقام على حدة، إذ يبدأ المقام بالتهليل ويعني الاستهلال، وهي ألفاظ خارجة عن النص الشعري مثل كلمة أويلاه أو يايوبا، ثم هناك القطع والأوصال، وتعني الانتقال من سلم إلى سلم داخل المقام المغنى والرجوع إلى النغم أو السلم الأصلي، أما العنصر الثالث فهو ما يُعرف بالجلسة ويعني الهبوط إلى القرار، وهنا لكل فعل يحتاج رد فعل ويأتي العنصر الرابع الميّانة وهو الجواب، وأخيرا التسليم وهو نهاية المقام، ويُسلّم بكلمات خارجة عن النص الشعري.

كانت المقاهي العراقية تعتبر مدارس أدائية لهذا الفن، وكان لكل مقهى قارئ مقام مختص به، ويأتيه المريدون ليستمعوا إليه، فمثلا رشيد القندرجي كان في مقهى الشاهبندر، ونجم الشيخ في مقهى البلدية، كذلك عرف عبّاس الشيخلي وأحمد زيدان.

تخرّج من تلك المقاهي تلاميذ يقلّدون ويتقنون قراءة المقام، فكثر القراء وكانت المقاهي بمثابة المدارس لهم. يقول الدكتور هيثم الشعوبي: كان المقهى بمثابة صلة الوصل بين الناس والمتنفس للأهالي، وفي عام 1910 بدأ عمل حفلات أسبوعية لقرّاء المقام، وكانت المقاهي محدودة مثل قهوة السبع وعزاوي والشط.

الثروة الخالدة.. تراتيل تسرد تاريخ العراق

انتشر هذا الفن في مدن العراق عموما وفي بغداد على وجه الخصوص، ومن أشهر من أدى هذا النوع من الغناء حديثا حسين الأعظمي، الذي لُقّب بسفير المقام العراقي.

نشأ الأعظمي في كنف عائلة تمارس هذه الأداءات المُسماة بالمقامات العراقية، وقد احترف هذا الفن الذي قاده للمتحف البغدادي في مارس/آذار 1973 حيث تقرر مصير حياته في ذلك اليوم.

المقام العراقي انطلق من مقاهي العراق وصدحت حناجر عمالقته فيها

يقول حسين في تعريفه للمقام: إنه رواية العراقيين التي تسرد كل تاريخ بغداد والعراق، وهو الملاذ الذي ألجأ إليه، وقد يسيطر علي عندما أكون وحيدا فلا أستطيع الغناء.

ويضيف: التراث لا ينشأ ولا يفنى من خلال الفرد، لأنه وليد الجمع فهو ابن المجتمع والشعب فهو المؤلف والملحن، وغياب الفرد لا يعني الزوال بحال من الأحوال.

أما حامد السعدي وهو أحد رواد المقام العراقي، فيعرّفه بأنه أسلوب غنائي خاص بالعراق، توارثه العراقيون منذ زمن، وأضافوا إليه ما استحسنوه من أنغام بعض الشعوب الشرقية التي وفدت إليهم في العصر العباسي.

ويتحدث السعدي عن تجربته فيقول: في البداية كنت مولعا بالشعر العربي الفصيح، فكنت في الإعدادية أستمع لقصائد عنترة والمتنبي وأبي فراس، وكنت أُلقيها، وشدّني المقام العراقي لما فيه من فروسية ورجولة وحماسة مثل حبي للشعر الحماسي والبطولي، فأصبحت أستمع للتسجيلات وأقارن الطرق الأدائية إلى أن أتممت المقامات جميعها وهي 56 مقاما.

حامد السعدي أحد رواد المقام العراقي وصاحب أسلوب غنائي خاص

يقول مدير بيت المقام العراقي موفق البياتي إن حامد السعدي حافظ على كلاسيكية المقام العراقي وعلى الأسلوب القديم، ويتميز بأدائه الجميل، وإن صوته يمتلك مساحات واسعة وقفلات متقنة، وقد قام بتسجيل جميع المقامات العراقية للإذاعة والتلفزيون، وهي ثروة خالدة للموسيقى العراقية.

ويعلق السعدي: المقام العراقي فن مقدّس لا يشبه أي غناء، وإنما هو تراتيل صوفية يؤدّيها قُراء بارعون، وفيه تجَلٍّ وعشق وحكمة ومناجاة للإله وغزل للمحبوب، فالمقام واسع الأبواب.

ديوان فنون بغداد.. ميلاد جديد

دخل المقام العراقي في كل فنون بغداد، فالأذان يؤذّن بالمقام العراقي، وكذلك المَنْقبة (المدائح النبوية) تُغنى به، والمجالس الدنيوية قائمة عليه، فهو المؤنس والمسلّي للبغداديين.

يقول خبير المقامات محمد عزاوي إن التصوف والأناشيد والمدائح حافظت على الموروث الفني، ففي مدح الرسول أو المَنْقبة النبوية يُقرأ المقام وهناك ما يسمى بالفصول والفروع والقطع والأوصال، وقد حفظ الناس ذلك.

يقول الأعظمي: أُطلق على مؤدي المقام اسم مُقرئ، لأن المقامات في الحقيقة أداءات دينية حوفظ عليها من خلال الشعائر الدينية.

تتميز بغداد بأداء تكبيرات العيد على مقامات الجاهرغا والمغوري والخلوتي وكذلك يُؤذن في المساجد

وتظهر الأنغام الموسيقية جلية في العديد من الطقوس الدينية، كالأذان وقراءة القرآن والتواشيح الدينية المسماة التمجيد، وكذلك استقبال وتوديع شهر رمضان المبارك وتكبيرات العيد.

ويمتاز أهل بغداد بأداء تكبيرات العيد على نغمة الجاهرغا والمغوري والخلوتي، وعندما يقرأ القارئ القرآن يمهد بقراءته للتكبيرات، بعدها يبدأ الناس بالتكبير باستخدام المقامات.

ويرى المتحدثون أن المقام العراقي وُلد من جديد في القرن العشرين وأصبح أكثر دنيوية وأصبحت القصائد المغناة في مختلف أنواع الشعر، ولمختلف الأغراض ومنها الغزلي والخمري والغرام.

ناظم الغزالي.. أنغام بطعم دجلة والفرات

وصلت الأخبار عن قرّاء المقام عن طريق الكتب والمخطوطات مثل رحمة الله شلتاغ وأحمد زيدان، ويقول الدكتور هيثم الشعوبي: إن هؤلاء لم تصلنا أصواتهم، لكن تلاهم جيل من القراء أمثال رشيد قندرجي ثم جيل محمد القبنجي الذي كان مُجددا في هذا الفن، وتتلمذ على يديه ناظم الغزالي ويوسف عمر من جيل العشرينيات.

كان ناظم الغزالي صاحب صوت جميل وأداء متفرد، يقول حسين الأعظمي إنه تفوق على كل المغنيين العرب من ناحية الأداء الفني الذي لا يضاهى، واستخدم تعابير فنية فائقة الروعة، كذلك كان اختياره للقصائد مميزا، فجعله يغزو الذوق العربي بسرعة كبيرة للتكامل الذي تمتع به صوته.

ناظم الغزالي .. يؤدي مواله الشهير “عيرتني بالشيب وهو وقار”

قدم ناظم الغزالي الكثير من القصائد بالفصحى، وكانت معاني كلمات قصائده واضحة للمتلقي العربي مثل أغنيه “يا أم العيون السود”، وأغنية “طالعة من بيت أبوها رايحة البيت الجيران”، هذا بالإضافة للألحان الجديدة التي قدمها.

ويقول أستاذ الموسيقى العربية محمد الغوانمة إن أغنية ناظم الغزالي “عيرتني بالشيب” يقتطف فيها مقتطفات جميلة من المقام وغناء البستة، وهي الأغنية الشعبية الجميلة التي يختم بها أي مقام.

كذلك أدى بعض المواويل ذات الكلمات والألحان العذبة التي تلامس القلوب بالاضافة لصوته الذي أضفى جمالا على جمال، وحبب إلى المستمع العربي المقامات العراقية التي جاءت من بيئتها العراقية الحاضنة والتي هيئت الاستمرارية لكل الفنون العراقية، فبسبب روعة دجلة والفرات والحضارة التي نشأت في تلك المنطقة والقوة السياسية والاقتصادية والثقافية التي دعمت بقاءه، اخترق المقام العراقي كل العصور بقوته الذاتية من حيث اللحن.

سيدة المقام العراقي الأولى.. وللنساء نصيب

تعتبر فريدة محمد علي سيدة المقام العراقي الأولى، فقد كسرت القاعدة وتحدّت بصوتها النسوي شدّة المقامات العراقية بكل قوة واحترافية. كانت منذ البداية تبحث عن الصعب والجميل، ورغم أن المقام العراقي كان حكرا على الرجال إلا أنها واصلت المسير وأثبتت نفسها وقدرتها في هذا النوع من الغناء.

وقد بدأت مسيرتها عام 1985 في دراسة المقام والتحقت بمعهد الدراسات النغمية، وشاركت في مهرجان يوم الفن وقامت بأداء مقام الأورفة على مسرح الرشيد، وكانت مفاجأة كبيرة للجمهور العراقي لكونها امرأة، وقد نجحت التجربة ولاقت صدى كبيرا، ثم لقبت بأم المقام العراقي وهي في المرحلة الأولى بالمعهد.

فريدة محمد علي سيدة المقام العراقي الأولى.. تحدّت بصوتها النسوي شدّة المقامات العراقية

يتحدث خبير الموسيقى محمد كمير عن فريدة محمد علي، فيقول: إنها موهبة مهمة، وإن إضافاتها في أداء المقام أثارت إعجاب الموسيقيين، ولها حركات مبتكرة، كما أنها تتمتع بمساحات صوتية واسعة.

درست فريدة أكثر من أربعين مقاما على يد أستاذها حسين الأعظمي، وأدت حوالي 22 مقاما، وليس هناك صوت نسائي يستطيع تأدية هذا العدد، وحتى أن الرجال الذين يستطيعون ذلك قلة، وقد تميزت بأنها درست المقام ودرّسته كمعيدة في معهد الدراسات النغمية.
يقول عنها الدكتور هيثم الشعوبي: لقد نقلت فريدة المقام العراقي إلى جانب حسين الأعظمي وحامد السعدي لدول عالمية كثيرة من خلال مشاركتها بالمهرجانات الدولية.

أما هي فتقول عن نفسها “إن كل مقام يذكّرني بشيء من بغداد في مراحل عمري المختلفة، يذكّرني بزقاقها وشوارعها”، فعند قراءة المقام العراقي، يتذكر الناس دجلة والفرات بغداد والعراق، ويتنوع المقام وروحه فترى الأثر الواضح والشجون في وجوه الحاضرين.

هوية العراق الحضارية.. عالمية أمام رياح الاندثار

يُبدي المهتمون بهذا الفن مخاوفهم من اندثاره رغم اهتمام الناس به ووصوله للعالمية، فالمقام يعتمد على التلقين ولا ينتقل بأسلوب بحثي أو تدوين.

وبهذا السياق يقول المايسترو محمد عثمان: في آخر عشرين سنة، لم تظهر موهبة شابة تقرأ المقام بالشكل الصحيح، ولم أسمع بأي اسم بعد حسين الأعظمي وفريدة محمد علي، فالمقام مهدد بكل تأكيد، فهو خصوصية وفخر لشعب العراق، وطريقة أداءه توصل الحنين للمتلقي وتربطه بذكريات وشوارع بغداد وبيوتها القديمة.

محمد العزاوي يعتقد بأن حضارة الشعوب تُعرف بموسيقاها، وأنه كلما نمت الحضارة زاد هذا الإرث الفني ونما

ويقول حامد السعدي: هذا الفن هو هوية العراق، وهو ركيزة أساسية يجب على كل من له سلطة أن يرعاه ويحميه، ويجب أن يوثق ويسجل حتى لا يندثر.

ويعتبر محمد العزاوي أن حضارة الشعوب تُعرف بموسيقاها، وكلما نمت الحضارة، زاد هذا الإرث الفني ونما، وكلما ازدهر العراق واستقر، ستبدأ المواهب بالظهور من جديد، فالعراق بلد ولّادة في كل المجالات الفنية والأدبية والعلمية.

لكن الأعظمي صاحب التجربة الطويلة في أداء الفن والعارف بقيمة الهوية والخصوصية، فيعتبر أن الانطلاق من الجذر هو الذي يوصل للعالمية  .