“أرضٌ لشعب”.. شهادات المعمرين والحجارة تدحض الرواية الصهيونية

كلمات للشاعر الفلسطيني حيدر محمود، هي زفرات محمومة تنبض حرقة وألما، قالها في معشوقته حيفا، هنالك حيث وُلِد، وحملته إلى الدنيا موجة من بحر حيفا الأبيض مثل قلوب أصحابها، ثم تعمّد بمائها المالح.

يقول حيدر: سرقت إسرائيل الفرح منا مبكرا، فغادرتُ حيفا وأنا في السابعة من عمري، لكنها لا تغيب عن بالي أبدا، أراها في كل شاطئ من شواطئ البحر الأبيض، كنت أرسل لها تحياتي كل صباح من شواطئ تونس الخضراء.

حيفا.. توقظني الليلة من نومي

تُلبِسني كرملَها سيفا

وتعيد إلى عينَيَّ اللون

وتمسح عن شفتَيَّ الحزن

وتنسيني ثلج المنفى

وأنادي يا وجه حبيبي

يا قمرا يملؤني صيفا

يا وترا مسكونا بالجمر

اغمرنا عزفا أو نزفا

واحملنا احملنا في الآفاق

وخذنا للبحر المشتاق

لنرسي فيه مراسينا

ونطهر عشب أيادينا

من وسخ الأيام العجفى

في الفيلم الذي أنتجته قناة الجزيرة الوثائقية، وعرضته على شاشتها بعنوان “أرضٌ لشعب”؛ يحاول الفيلم أن يثَبِّت السردية الفلسطينية حول الأرض والتاريخ، من خلال شهادات حيَّة للمعمّرين الفلسطينيين الذين عاشوا نكبة 1948 ولم يغادروا فلسطين، وشهادات الأجيال اللاحقة من عرب 48 الذين استيقظوا على الواقع الصهيوني المؤلم، وتحريف التاريخ والجغرافيا.

“أقرأ في تلك الوجوه تاريخ حيفا وسيرة فلسطين”.. أحاديث المعمرين

يقول الباحث والمؤرخ سليمان الناطور: عرفت حيفا وأنا ابن 14 عاما، درست في إحدى مدارسها، وكانت مدرسة مشتركة للعرب واليهود، أنشأتها بلدية حيفا في محاولةٍ لخلق بيئة من التعايش بين العرب واليهود. كان للعرب فصولهم ولليهود فصول مختلفة، وفي أوقات الفسحة كان العرب يجتمعون سويا واليهود بعيد عنهم، ولهذا كانت المدرسة مشروعا فاشلا.

وقد كانت حيفا مركزا ثقافيا مهما فيها كثير من الصحف والمجلات المتخصصة، حتى قبل 1948، وقد صدرت فيها جريدة “الاتحاد” لأول مرة عام 1944، وما تزال إلى يومنا هذا. كان وادي النسناس القلبَ النابض لحيفا، بمراكزه الثقافية وصالوناته السياسية.

صورة تعود لسنة 1924 لمدرسة حكومية ثانوية بمدينة يافا، تكذّب رواية المحتل الذي يدعي أن فلسطين أرض بلا شعب

ويقول الباحث الناطور: ينتاب التآكل مظاهر حيفا العربية كل يوم، يمتلئ قلبي بالحزن كلما ركنت سيارتي في هذا المكان، هنا كان بيت شاعر فلسطين عبد الكريم الكرمي أبو سلمى، هدمه المحتلون الغرباء وأحالوه مرآبا للسيارات، لكنْ سكنته قبل أن يُهدم يهودية رومانية، وعندما كنا نسألها عن سكان البيت الأوائل كانت تخبرنا أنها استلمته من عجوز بولندية، ولو سألنا الحجارة لصدقتنا الجواب.

في هذا الحي سكن الشاعر الذي كان يحرك بقصائده النضالية جماهير الفلسطينيين ضد الاحتلال البريطاني والاستيطان الصهيوني، وهنا سكنت النخبة من أبناء فلسطين من القضاة والمحامين والأطباء والمثقفين.

“أنظر إلى وجوه الشيوخ وقد خطّت عليها السنون أخاديد المعاناة، وأقرأ في تلك الوجوه تاريخ حيفا وسيرة فلسطين، أستفزهم بالسؤال عن أحوالهم حتى يعودوا بي إلى ذلك الربيع العربي المزهر قبل 1948، وكيف تحول إلى خريف قاتم بعدها”.

“أن ترى بيتك يسكنه غرباء وأنت حيّ”.. عين حوض

يتحدث عبد الغني أبو الهيجاء من سكان قرية عين حوض قائلا: كان أهل حيفا المدينة يأتون إلى هنا ليتزودوا بالمحاصيل الموسمية، فوقتٌ للزيتون وآخر للسمسم، وفترة للخرّوب وثانية للذرة، مواسم على طول السنة، لا وقت للراحة إلا ما يتاح لنا أثناء الحصاد والقطاف، نأكل مما جادت به الأرض، ثم نعود للعمل.

خرجنا من القرية عام 1948، وعندما حاولنا العودة إليها بعد ذلك قيل لنا إنها أصبحت أملاك غائبين، وأصبحت دورنا وأراضينا محرمة علينا حتى يومنا هذا، حتى أنهم قاموا بتغيير اسمها من عين حوض إلى عين هود لطمس معالم تاريخها.

معصرة الزيتون التي أصبحت متحفا في دولة المحتل تشهد حجارتها ان لها أهلا درسوا عليها الزيتون وعصروه زيتا نقيا

ويقول وعيناه تدمعان: كان يسكنها حوالي ألف نسمة حتى 1948، وتشتتوا في أنحاء العالم وبقي بعضهم في مناطق أخرى من فلسطين المحتلة، وأنا واحد من هؤلاء، أسكن شرق القرية، وكان ممنوعا عليَّ دخولها، والآن أزورها كسائح، هذه دار خالي زيدان، وهذه دار ابن خالي، وهذه دار أبو مصباح، وكلهم من عائلة واحدة، كم هو شعور حزين أن ترى بيتك يسكنه غرباء وأنت حيّ.

معصرة الزيتون هذه -التي أصبحت اليوم متحفا لدولة الاحتلال- كانت لابن خالي، وكان كل أهل القرية والقرى المجاورة يأتون إلى هنا لعصر زيتونهم واستخراج الزيت، أطنان من الزيتون قد درست وعصرت في أيامنا الزاهية، لو استنطقتَ هذه الكتل الحجرية الهائلة لأخبرتك عن أسماء العائلات العربية التي جلبت زيتونها هنا.

 

تقول الرواية الصهيونية إن سكان القرية كانوا مسيحيين، وقد طردهم الأتراك من دورهم في أيام الدولة العثمانية، وأسكنوا مكانهم عائلة أبو الهيجاء، وعندما دخل اليهود القرية عام 1948 لم يكن يسكنها أحد، ويرد عبد الغني هذه الرواية جملة وتفصيلا، ويقول: نحن من بنى هذه البيوت، ولم يسكنها أحد قبلنا، أنا أعرفها بيتا بيتا وأعرف المسجد والمقبرة بجواره، وأعرف أصحاب القبور كلهم.

يروي عبد الغني أن اليهود حاولوا دخول القرية خمس مرات فاشلة، وفي السادسة دخلوها وطردوا أهلها، وهذا يدحض رواية الصهاينة أن البلدة كانت خالية من أهلها، ويقول: هذه داري التي ولدت فيها، وهذه بقالة أبي التي كنت أعمل بها وأنا ابن ثماني سنين. وهذا المسجد الذي كان مصلى ومدرسة قبل 1936، وقد حوله الصهاينة إلى مطعم وخمّارة.

مسجد السكسك.. خمارة يافا تعود إلى الإسلام بعد عقود

في بداية الخمسينيات قامت السلطات الصهيونية بتأجير المبني الذي يحوي وقْفَ ومسجد السكسك لمستثمر يهودي، وقد قام بتحويله لخمارة وملهى ليلي، وكانت هذه فضيحة كبرى للدولة العبرية التي زعمت أنها تحترم الديانات وترعى مقدساتها.

بني مسجد السكسك عام 1883 بواسطة ثلاثة إخوة من عائلة السكسك، وفي ذلك العام كتبت أول وقفية لهذا المسجد في المحكمة الشرعية بيافا، وما تزال وثائق الوقف محفوظة في أرشيف الجامعة الأردنية. وقد اكتسب المسجد أهميته من موقعه الذي يتوسط سوق الخضار والأسواق المهمة الأخرى في منطقة يافا. بعد الاحتلال قامت السلطات بإغلاقه، ثم قامت عام 1954 بتأجيره لإحدى الشركات.

أغلق الاحتلال مسجد السكسك في يافا وحولوه إلى خمارة قبل أن يسترجعه المسلمون عام 2010 مسجدا

وقد حاولت عائلة السكسك مرارا الحصول على ترخيص لإعادة فتح المسجد، لكن المحاكم اليهودية رفضت بحجة حماية المستأجر، لكنهم نجحوا في نهاية المطاف في فتح جزء من المسجد بعد أن أخلته الشركة، وقاموا بدعوة المسلمين سرا لإقامة أول صلاة جمعة في ذلك المسجد بعد تحريره وإعادة ترميمه في عام 2010، فليسترح عبد القادر ومحمد وعبد اللطيف السكسك في قبورهم، بعد عودة وقفهم للمسلمين.

كان المحتلون الصهاينة قد عاثوا فسادا في المسجد، وحوّلوا محرابه إلى حوض لغسل الأيدي، وقاموا بإلقاء مخلفات البناء ومواد الصناعة في بئر الماء حتى طمروه، وقامت بلدية تل أبيب لاحقا بمصادرة نصف مساحة المصلى تقريبا، دون أدنى اعتبار قانوني أو مراعاة لمشاعر المسلمين وأهل البلاد الأصليين.

رواية الصهيونية.. معارك نضالية في ميادين السياحة

هناك هجمة شرسة على الوجود العربي في يافا، يستوي في ذلك مسلموه ومسيحيوه، فهذه الطائفة الأرثوذكسية في يافا تدعو لوقفة في ساحة كنيسة الخضر، تندد فيها بالممارسات الصهيونية الرامية إلى طمس الوجه العربي للمدينة، وإلى منع الطائفة من أداء شعائرها الدينية التي حرصت على أدائها منذ عام 1870 في الكنيسة. إنه صراع على الهوية ولا بد أن يُحسم يوما ما.

يقول سامي أبو شحادة: أعمل مرشدا سياحيا في يافا منذ منتصف التسعينيات لمجموعات السياح من الأجانب ويهود إسرائيل والفلسطينيين، وقد تبين لي أن معظم تلك المجموعات كانت قابليتها لسماع الرواية الفلسطينية معدومة تماما، فهم يأتون بالرواية الصهيونية عن الواقع، وكان معظم تفكيري منصبا على كيفية الوصول إلى هذا الآخَر، ومعرفة طريقة تفكيره تجاه الفلسطيني.

في السياحة الداخلية في فلسطين ثمة روايتان لتاريخ فلسطين يروي إحداهما دليل يهودي ويروي الأخرى دليل عربي

وبالخبرة استنتجتُ أنه من أجل الوصول إلى المرحلة الأولية، وهي مجرد الإصغاء إلى الرواية الفلسطينية، فلا بد أن يسمعوا بنفس الوقت روايتهم الصهيونية التي يفضلونها، فقمنا بتشكيل ثنائي مع “أوري ليفي”، نتناوب على سرد الروايتين.

وفي روايته يقول المرشد السياحي “أوري ليفي”: كانت المجموعات اليهودية تُصدَم عندما تسمع سامي يتحدث عن الرؤساء اليهود، مثل “بيغين” و”شامير” و”بيريز”، ويصفهم بأنهم إرهابيون، وكنا نحاول جاهدين تلافي ردود الأفعال المتشنجة التي تظهر جلية أثناء النقاش بعد انتهاء الجولة.

ويؤكد سامي أن وصف الصهيوني بالإرهابي كان يزعجهم، فمعظمهم أبناء أولئك الجنود، أعضاء العصابات الصهيونية المسلحة التي قتلت الفلسطيني واستولت على بيته وأرضه، وكلهم مجندون حاليا في الجيش، الذي هو وريث تلك العصابات.

“نعم، إنها أرض أجدادي”.. قصة مؤثرة تكذبها صناديق البرتقال

كان المرشد السايح “أوري ليفي” يشرح لمجموعةٍ سياحية مشاعرَ المهاجِر “يهودا بن أليعازر” عندما رست سفينته على شواطئ يافا في 1946، زاعما أنه رأى القليل من البيوت المتناثرة على الشاطئ، وصرخ حينها: نعم، إنها أرض أجدادي.

ولما جاء دور سامي أخبرهم أن يافا كانت تصدر لأوروبا خمسة ملايين صندوق من البرتقال سنويا، وأن هذه الصناعة تطورت في بداية القرن الـ19، أي قبل 100 سنة من ولادة إسرائيل، فكم بالله عليكم تحتاج هذه الملايين من أيادي عاملة لزراعتها وتربيتها وقطافها وتحميلها في السفن؟ فكيف إذن تصدقون أن يافا كانت بلا سكانها العرب؟

دليل عربي يتحدث عن برتقال يافا وكيف أن أرض فلسطين كانت معمورة بسكانها قبل أن يصل الغزاة إليها

نحن الشعب الضحية، تعرضنا للاحتلال من قبل العصابات المسلحة، وطُرِدنا من بيوتنا وأرضنا، وأقيمت دولة الاحتلال على أنقاضنا، نحن لا نريد تغيير أفكارهم من جولة واحدة، نريدهم فقط أن يعرفوا أن هنالك رواية أخرى للتاريخ غير التي بين أيديهم، والتي أجبروا على حفظها عن ظهر قلب.

هنالك في أقصى اليسار، يوجد أفراد من الجالية اليهودية يؤيدون الرواية الفلسطينية ويناضلون من أجلها، ولكن أصواتهم مع الأسف مقموعة في تجمعاتهم نفسها، ليس فقط في إسرائيل، بل في كل الدول التي تنشط فيها اللوبيات الصهيونية المتطرفة، وفي مقدمتها أمريكا.

“أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”.. زيف المناهج التربوية

تُلزِم دولة الاحتلال المدارس العربية على تدريس تاريخ الشعب الإسرائيلي للطلاب العرب، وهي السردية الصهيونية لتاريخ اليهود منذ نهايات القرن الـ19، وتقوم على الشعار الصهيوني “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، متضمنة قضية معاداة السامية، لتنتهي بقيام إسرائيل ونكبة الفلسطينيين عام 1948.

في مناهج التاريخ بمناطق الـ48، يجبر الطلاب على تعلم تاريخ فلسطين من وجهة نظر يهودية

أما التاريخ العربي فيكون مغيبا ومطموسا أو مذكورا على الهوامش، وتؤكد الرواية الصهيونية خروج الفلسطينيين طوعا من أراضيهم، بينما تترك هذه الرواية موضوع الأرض ومن سكنها ومن وجد عليها عائما، حتى لا يتفطن الطالب العربي إلى حقيقة ارتباطه بالأرض وضرورة انتمائه لها والدفاع عنها.

ففي مناهجهم يريدون صياغة العقل العربي على أنه نشأ حديثا، أي بعد 48، وجد في دولة إسرائيل، واحة الديمقراطية وأرض التعددية وفرص العيش الرغيد التي تتفوق على كل المحيط العربي. بينما ترى القيادات التربوية العربية في الداخل الفلسطيني أنه يجب صياغة تاريخنا العريق المتجذر في هذه الأرض منذ آلاف السنين.

صفورية.. سرقة الآثار وإلصاقها بالتاريخ اليهودي

في صفورية -حيث مقبرة الأشراف- قامت دولة الاحتلال بزراعة المنطقة بالأشجار الحرجية لطمس معالم المقبرة التي اندثر معظم قبورها، وهناك أيضا يسرق اليهود التراث العربي والآثار العربية ويلصقونها عنوة بشعب إسرائيل، هناك يجري التنقيب عن الآثار يوميا على قدم وساق، دون أن يجد اليهود أي أثر لوجودهم.

يحرص أبناء صفورية على إقامة متحف للمقتنيات الفلسطينية، ويعلمون أبناءهم تاريخ صفورية الحقيقي، يحدثونهم عن القلعة ذات الأصول الكنعانية، وقد كانت مكتبا حكوميا أيام الأتراك، ثم مدرسة لبنات صفورية، بينما تصر الرواية الصهيوية على أن هذه القلعة أصلها روماني أو بيزنطي.

متحف تاريخي في صفورية يشهد بتراث أهل فلسطين وأحقيتهم بأرضهم

كان يسكن صفورية قبل النكبة أكثر من 14 ألف مواطن فلسطيني، وفي 1948 قصفت بالطائرات وقتل فيها 70 شهيدا، وبعد قيام دولة الاحتلال لم يبق فيها سوى 1500 مواطن فلسطيني، وفي 1949 قام جيش الاحتلال بإخراج من بقي منهم إلى القرى والبلدات المجاورة.

على أرض فلسطين ما يستحق الحياة، ذرات ترابها وحجارتها وشواطئها، ما تفتأ تهزأ بالغرباء الراحلين، ففي الزمان السحيق لفظت الرومان واليونانيين، ومن بعدهم سخرت من الفرس والبيزنطيين، وأشاحت بوجهها عن التتار والصليبيين، وبالأمس القريب غادرها الإنجليز، وغدا سيرحل الصهاينة وستفرح فلسطين بأهلها من جديد، فحقّ العودة لا يسقط بالتقادم، ولن تصدأ مفاتيح اللاجئين.