“هل تجد هذا الزنجي أسود كفاية؟”.. صفحات خفية من تاريخ هوليود المشين

ستتوقف بلا شك وأنت تقرأ عنوان فيلم ناقد السينما الأمريكية “إلفيس ميتشل” عند هذه العبارة المربكة “هل تجد هذا الزنجي أسود كفاية؟” (Is That Black Enough for You)، وسيصبح الأمر أقرب إلى لغز حين تعلم أن المغني الأمريكي ذا الأصول الإفريقية “بيلي بول” قد ضم إلى ألبومه “360 درجة” أغنية بعنوان “هل تجدني أسود بما يكفي؟” سنة 1973، بعد أن أبدعها “كيني جامبل” و”ليون هوف” سنة 1972.

أما إذا علمت أن هذه العبارة كانت تجري على ألسنة شخصيات فيلم الحركة الذي يجمع بين الكوميديا والإثارة “القطن يأتي إلى هارلم” (Cotton Comes to Harlem) من إخراج “أوسي ديفيس” (1972)، فسيتحوّل الأمر إلى أحجية حقيقية، ولن تظفر بالخيوط الأولى لحلها إلا بعد أن تعلم أن العبارة في الأصل شعار كانت حناجر زنوج أمريكا تصدح به وهي تخوض معركتها ضد التمييز العنصري في ستينيات القرن الماضي.

ستفهم حينها أنها عبارة تقلب القيم السائدة حينئذ، فتجعل سواد البشرة عنوانا للتميز والاعتزاز، وأنها جاءت لتعزّز ثقة الزنجي بنفسه لمواجهة عنصرية البيض المقيتة، لكن كيف تكون “السينما سوداء بما يكفي”؟

“ميلاد أمة”.. سينما تمجد البيض وتحتفي بقتل السود

سنحتاج إلى رحلة في الزمن مرة أخرى لنفهم الشطر الثاني من أحجيتنا، ولندرك الخلفيات الاجتماعية والثقافية التي نشأت ضمنها السينما الأمريكية، فلا شك أن من يبحث في تاريخ سينما البدايات سيعثر على مدح كثير لفيلم “ميلاد أمة” (The Birth Of Nation) الذي أخرجه “ديفيد غريفث” (1915)، لمّا عدّ ثورة في السرد السينمائي.

لكنه سيدرك أن هذا التميّز الشكلي ارتبط بانحطاط قيمي، فهذه السينما ولدت عنصرية تمجّد الأبيض وتحتفي بقتل الأسود “الذي ينتمي إلى عرق منحط”، فقد جعل الزنجي مهوسا جنسيا يتعقب النساء البيض لاغتصابهن، ومنح حركةَ “كو كلوكس كلان” العنصرية (التي تعرف اختصارا باسم كيه كيه كيه) الحقَّ في ملاحقته وتصفيته جسديا دون أي أساس قانوني، مما أثار زوبعة كبيرة من الاحتجاجات رافقت عرض الفيلم، ثم واصلت أفلام لاحقة صناعة الصورة النمطية المهينة للرجل الأسود، وتشيّع الخوف من اختلاط البيض به. فتدعم الميز العنصري ضده، وهذا ما أفضى إلى سينما بديلة صنعها السود انتصارا لكرامتهم.

نربط الصلة إذن بين العبارة “هل تجدني أسود بما يكفي؟” التي تعلن الاعتزاز بالجنس الأسود، والعنوان “هل تجد هذا الزنجي أسود كفاية؟” التي تركز على نهضة سينما السود، وعلى إسهامها في تغيير صورة الزنجي على شاشات هوليود في سبعينيات القرن الماضي خاصة.

شغف الجمهور الأسود.. صدمة التطهير العرقي في السينما

يحاول “إلفيس ميتشل” الحفر في التاريخ القديم للعلاقة بين هوليود والجمهور الأسود، وعبر حكايات يعرضها سينمائيون سود عن أسلافهم يعرض وجوها من الإحباط الذي كان يصيبهم بعد تجربة الذهاب إلى قاعات السينما، ويجد في جدته خير مثال، فرغم أنها كانت مغرمة بمشاهدة الأفلام متفاعلة مع أحداثها وشخصياتها، فإنها لم تجد سبيلا إلى النوم طيلة ليال بحالها بعد مشاهدتها لفيلم “دراكولا” (Dracula)، يجعلها عقلها الباطن ربما تمنع أحفادها أن يشاهدوا الأفلام.

ويروي المخرج “ويليام غريفس” تجربة أمه عند مشاهدتها لفيلم “فرقة الملائكة” (Band of Angels)، فقد صفع الممثل “بواتيه” فتاة في أحد المشاهد، لكن أمه تفاعلت مع اللقطة، فكان لديها شيء من المعايشة والانخراط في الأحداث والتعاطف مع الشخصية المعتدية، أي الممثل الأسود لكونه يصفع فتاة بيضاء، ويحقّق توازنا بين صورتي الأبيض والأسود على شاشات هوليود ربما، ووصل بها الانخراط الوجداني في الأحداث والخلط بين الواقع إلى الاعتقاد بأن الممثل صفعها فعلا، لكن صنّاع الفيلم يتواطؤون لإخفاء الحقيقة.

والمفارقة هنا أن السود كانوا مغرمين بالسينما، متفاعلين معها، باحثين فيها عن نصيبهم من الحلم، لكنهم لا يجدون لأنفسهم فيها مكانا، فقد كانت تكافئ هذا التقدير بالتقليل من احترامهم وفق “إلفيس ميتشل”، فالأسود في سينما البدايات جبان بشكل مضحك وغير إنساني، كما في فيلم “ملك الزومبي” (King of the Zombies) للمخرج “جون ياربروه”، وينتهي الناقد إلى صياغة قاعدة تنسحب على مختلف مشاهدها، فإذا رأيت الممثل الأبيض يتأنق في ارتداء ملابسه فتوقع أنه سيذهب إلى حفلة وسيستمتع بملذات الحياة، أما إذا رأيت الممثل الأسمر يلبس ربطة العنق، فاعلم أنه يذهب إلى العمل بمطعم أو ما شابه.

وتعرض الممثلة “ووبي غولدبارغ” تجربتها مع هذه السينما، فتذكر أن المرء يشاهد الفيلم ويتفاعل معه، لكنه يصدم في منتصفه حينما يكتشف غياب الممثلين السود، فلا وجود فيه لأدوار لهم، ولا لحضور لمشاغلهم.

ذلك أن هذا العالم الموازي الذي يخلقه الخيال يقوم بعملية “تطهير” تقصي العرق الأسود، أو تخلق له نماذج كفيلة بأن تجعل المرء ينكر ذاته. وبناء عليه ينتهي “إلفيس ميتشل” إلى تأخر حركة الأفلام عن حركة المجتمع المدني في المطالبة بحقوق السود، وقد يبدو هذا أمرا غريبا عن جوهر فن السينما الذي ارتبط تاريخيا بالنضال لفرض الحقوق، لكن شأن هوليود مختلف.

نظام الفصل العنصرية.. نجوم محرومون من حضور نجاحاتهم

لم يحرم نظامُ الفصل العنصري الصارم -الذي كان معتمدا في الولايات المتحدة الأمريكية- السودَ من ارتياد مسارح البيض فقط، وإنما حرمهم من مشاهدة الأفلام أيضا، فلم تكن توجد مسارح خاصة بهم تقريبا، باستثناء مسرح أو مسرحين، ولا تعرض فيهما إلا الأفلام القديمة التي ظهرت منذ سنتين أو ثلاثة، ويشمل الفصل البعد الرمزي، فلا أثر لهذا الأسود في أفلام رعاة البقر أو أفلام المغامرات مثلا، رغم أنه يمثل مكونا مهما في المجتمع الأمريكي.

تعبّر الممثلة “مارغريب آفارتي” عن هذه الحقيقة المأساوية من منطلق تجربتها الخاصة، إذ تقول: كل الممثلات اللواتي رأيتهن على الشاشة لم يكن يشبهنني، لذلك لم أصدّق أن أصبح ممثلة يوما، إلى أن رأيت “هاري بيلافونتيه” و”دورثي داندريدج”، وتقصد الممثلين الأسودين اللذين ظهرا في فيلم “كارمن جونز” (Carmen Jones) سنة 1954، عندها قلتُ: يا للعظمة، قد أصبح ممثلة يوما”.

ولا ينكر المخرج “ويليام غريفس” ظهور أفلام روائية لمخرجين سود في أربعينيات القرن الماضي، لكن المفارقة الساخرة أنه لم يتح لأصحابها حضور عرضها في هوليود بحكم الفصل العنصري.

ومن المخرجين الذين منعوا من مواكبة عروض أفلامهم بسبب عرقهم الأسود “باول ليندسي” و”أوسكار ميتشو” و”بيل أليكساندو”. ويذكر بمرارة إلى أنه منذ أدرك الوجود كان العالم منفصلا، ويشترك مع عامة محترفي السينما السود في الشعور بخيبة الأمل من صناعة لم تكن تؤمن بقدرتهم على النجاح، فتألق العرق الأسود بالنسبة إليها -كما يقول “إلفيس ميتشل”- كإيجادك لورقة 100 دولار في قطار الأنفاق، أي حدث فريد غير قابل للتكرار.

“بيلافونتيه” و”واتييه”.. نجمان أسودان بطريقين مختلفتين

يعرض الفيلم نموذجا لهذا الإحباط الذي يصيب السود، فالممثل “هاري بيلافونتيه” كان النجم الذي يتقن كل ما يفعله، ومع ذلك لم يكتب له النجاح الذي يستحق في السينما، ولم يعبر إلى طائفة نجوم الصف الأول بسبب العنصرية، رغم أن التمثيل هو موهبته الكبرى، ونجاحه في الغناء مثلا نابع من انغماسه في عواطف الشخصيات التي تصورها كلمات الأغاني.

ونتيجة للعقل الأبيض المتعالي الذي يحكم هوليود، فإنه لم يدر إليه الرقاب، ولم يبرز إلا حين صنع فرصة النجاح بنفسه، بعد أن أنتج فيلم “نزاع حول الغد” (Oddis against tomorrow) عام 1959، لكن مسيرته أصيبت بانتكاسة بعدئذ، فقد التزم بقضية السود، ورفض في فترة تصاعد ثورتهم (1959-1970) الأفلام التي لا تعبر بصدق عن قضاياهم، فأعرض عن دور أسود يواجه سبع راهبات نازيات مثلا، وهو الدور الذي قبله “سيدني واتييه” ونال بفضله جائزة لأحسن ممثل، وكان محمد علي كلاي السينما، وبالفعل فقد كان يتفاعل مع مواقف صديقه الملاكم الثائر ويتبناها.

وبالمقابل كان الممثل الأسود “سيدني واتييه” نجم تلك المرحلة الحالكة، ولعل سر نجاحه رغم الريح المعاندة، يعود إلى أنه لم يمثل حياة السود ولم يعبّر عن هواجسهم، فقد كان ببساطة وفق “هاري بيلافونتيه” ممثلا أسود في عالم البيض لا أكثر، وكان أداتهم لتكريس الصورة السلبية للأمريكيين الأفارقة، فلا تخرجها عن الاتجار في المخدرات والعنف والجنس ولعب أدوار القوادين والبغايا والمحتالين.

“رجل البطيخ”.. نكهة ساخرة تطبع سينما الاستثمار الأسود

في نهاية ستينيات القرن الماضي حدث أمر جديد في السينما الأمريكية، فقد عرضت أفلام أنصفت السود وجعلت مشاغلهم في مركز العملية الإبداعية، وكثيرا ما لجأت إلى الكوميديا والسخرية للتعبير عن رفض الواقع، وظهر جيل من الممثلين السود الموهوبين، وغزت المشاهد الجسدية بين السود والبيض الشاشات، وبدا الأسود واثقا من نفسه مدافعا عن مواقفه مهيمنا على الأحداث، ومن أشهر تلك الأفلام “القطن يأتي إلى هارلم” الذي ذكرناه سابقا، وقد حقق نجاحا كبيرا.

واتسمت هذه الموجة أحيانا بطابع هجومي على البيض الذين يدّعون مناصرة قضايا السود ويخفون تعاليهم، ففيلم “رجل البطيّخ” (Watermelon Man) الذي أخرجه “ميلفن فان بيبلز” (1970) ببراعة يصوّر الهلعَ الذي يصيب أحد البيض “التّقدميين المدافعين عن حقوق السود”، حين يستفيق ذات صباح من نومه وقد أضحى أسود البشرة، فيفضح رياءه ويكشف عدم إيمانه الداخلي بتساوي الأعراق.

وقد أُطلق على هذه الموجة التي قطعت مع الصور النمطية السينمائية السائدة وقدّمت الأسود ممتلكا لقدره ماسكا بزمامه تسمية أفلام “الاستثمار الأسود” (Blaxploitation)، والعبارة منحوتة من كلمتي الأسود والاستثمار، وفيلم “الاستثمار” (Exploitation) مصطلح يراد به نوع من الأفلام ينتج دون مراعاة كبيرة لعنصر الجودة، فتسعى خاصة إلى تحقيق ربح سريع، وتحصي الدراسات المختصة أكثر من 200 فيلم من هذا القبيل في مختلف الأجناس الفيلمية.

ولنا أن نذكر من أفلام الرعب مثلا “بلاكيلا” (Blacula) الذي أنتج عام 1972، ومن أفلام رعاة البقر “بوك والواعظ” (Buck and the Preacher) الذي أنتج عام 1972، ومن أفلام الحركة والإثارة فيلم “الشجرة” (Tree) الذي أنتج 1971.

تنقيب الأرشيف والشهادات.. دراسة نقدية كلاسيكية عميقة

جاء الفيلم في شكل دراسة وثائقية كلاسيكية تعرض مواقف صنّاع السينما السود، وتدعم شهاداتهم بما يلائمها من المشاهد السينمائية، مستفيدا من الأرشيف الضخم، وكانت هذه المشاهد تساعد المتفرج على التسلل إلى ذهن صاحب التجربة، ومشاركته اللحظة كأنه هو من يسردها.

ولنا في مشهد صفع الممثل “بواتيه” للفتاة البيضاء خير مثال، فهي تجعلنا نضبط تخيلنا للأحداث مع ما يجول في ذهن من يتذكرها، ونقصد هنا مشهد صفع “سيدني واتييه” للممثلة البيضاء الذي ذكره المخرج “ويليام غريفس” وهو يتحدّث عن تفاعل أمه مع الحادثة، أو مشاهد تقمص “هاري بيلافونتيه” لأدواره بحس عميق.

فكانت روح الناقد المحلل ومؤرخ السينما التي تسكن “إلفيس ميتشل” تسري في الفيلم أكثر من روح المبدع الذي يحاول كسر الأنماط السائدة، ومع ذلك نرى أن الفيلم أتاح للمتفرّج دراسة نقدية كلاسيكية عميقة كانت المكتبة السينمائية تفتقر إليها.