“كولكتيف”.. حريق يكشف خبايا الفساد الصحي المنظم في رومانيا

يشعر المواطن المسلوب الإرادة بالرعب عندما يكتشف أن المنظومة الصحية التابعة للدولة التي يفترض أن ترعى صحته وتحرص على حياته، بلغ منها الفساد مبلغه، واخترق كل مستوياتها تحت حماية أعلى أجهزة الدولة، وأصبحت المصالح الخاصة لرعاة الفساد أهم كثيرا من صحة المواطنين.

هذا هو الموضوع الذي يناقشه الفيلم الوثائقي الروماني البديع “كولكتيف” (Collective)، وهو من إخراج “ألكسندر نانو” صاحب التجارب الجريئة في مجال السينما الوثائقية، وتبلغ مدته 109 دقائق.

ضحايا الحريق.. فساد المنظومة الصحية في رومانيا

يشير اسم الفيلم إلى اسم مرقص في مدينة بوخارست، فقد اشتعلت فيه النار عام 2015، مما أدى إلى احتراق 27 شخصا، وإصابة 180 آخرين، وفيما بعد مات 37 من المصابين، ليس بسبب حروقهم، بل بسبب الإهمال الطبي الجسيم في المستشفيات الرومانية، وغياب أوليات الشروط الطبية، ونقص الخبرة في التعامل مع مثل هذه الحالات.

هذا الموضوع يبدو للوهلة الأولى موضوعا محليا خاصا بالحالة الرومانية، لكنه سيصبح من خلال هذا الفيلم أكثر شمولية، بحيث يمكن لكل من يشاهده العثور على ملامح مشتركة بين ما يحدث في رومانيا، وما يحدث في بلده.

فالموضوع باختصار يكمن في كلمة واحدة هي الفساد، إلا أن فساد المنظومة الصحية سيكشف عن فساد المنظومة السياسية كلها، فما الأول سوى مجرد واجهة للثاني الأكثر تغلغلا وقوة وخطورة.

سرد القصة في سياق صحفي بوليسي.. بناء الفيلم

من مزايا هذا الفيلم إلى جانب معاصرته الشديدة وأصدائه التي تتردد في بلدان أخرى كثيرة، خصوصا الكثير من بلادنا العربية؛ أن مخرجه اختار له الشكل الأمثل لبناء الفيلم الوثائقي، أي رواية قصة في سياق يمزج بين فيلم “التحقيق الاستقصائي” الصحفي المعروف، وفي الوقت نفسه فيلم الجريمة أو التحقيق البوليسي المعروف في السينما الروائية.

لكنه رغم هذا ليس فيلما “مصطنعا” كان مخططا له أن يسير على نحو ما سار، بل اختار مخرجه من البداية أن يتابع عن كثب تطورات الأحداث التي لم يكن يعرف إلى أين ولا كيف ستتشكل وتتجه.

وقد استطاع الحصول على مواد بصرية وشهادات مباشرة، فاستخرج منها من خلال المونتاج المتسلسل المنطقي الذي يلتزم بتسلسل الأحداث وتطورها، مادة درامية شديدة القوة والتأثير، دون أن يخل هذا بالأسلوب الوثائقي، أو يطغى الشكل الجذاب المثير على تصوير الحقيقة كما حدثت في الواقع.

“كيف يموت الذين نجوا من الموت حرقا بعد 12 يوما من الحادث؟”

يبدأ الفيلم باجتماع لأهالي الضحايا، حيث يقف رجل فقد ابنته، يتحدث وهو يقاوم البكاء عن فساد النظام الصحي في البلاد، ثم يتساءل: كيف يموت الذين نجوا من الموت حرقا بعد 12 يوما من الحادث؟

ثم يقف رجل آخر فقد ابنه فيقول إن أحد مستشفيات العاصمة النمساوية فيينا وافقت على أن ينقل إليها ابنه لتلقي العلاج هناك، لكن مستشفى بوخارست المركزية تلكأ في الموافقة على طلب نقله للخارج، وعندما نُقل أخيرا ووصل بعد أربعة أيام، كانت العدوى البكتيرية قد انتشرت في جسمه كله، وعندما طلبوا توضيحا لما حدث، أرجعت إدارة المستشفى التأخر إلى وقوع “خطأ في الاتصالات”.

يتدخل في المناقشة “كاتالين تولونتان” رئيس تحرير صحيفة “بوخارست غازيت” الرياضية، ويسأل عن ما قالته السلطات الطبية عندما رفضت نقل المصابين للعلاج في الخارج، فقال أحد الذين فقدوا أبناءهم: لقد أكدوا لنا أن أبناءنا سيلقون رعاية طبية في بوخارست على نحو مماثل تماما لما يمكن أن يلقوه في ألمانيا.

اجتماع التحرير لمناقشة خطة الحملة

من هذا المدخل سيصبح “تولونتان” الشخصية الرئيسية في النصف الأول من الفيلم، يتابعه المخرج خلال اجتماعات التحرير وهو يقوم بتوجيه محرري الصحيفة من فريق الاستقصاء لجمع المعلومات، كما نراه وهو يجري بعض الاتصالات بالمسؤولين والأطراف الرسمية والصحية، ثم نراه أثناء حضوره مع زملائه المؤتمرات الصحفية التي يعقدها وزير الصحة في حكومة الحزب الاشتراكي الديمقراطي، حيث يوجه أسئلة تسبب الحرج والاضطراب للمسؤولين.

“هكسي فارما”.. محاولة التغطية على المعقمات المخففة

سنرى بعد ذلك كيف يكتشف فريق الصحفيين من الجريدة نفسها أن الأمر أكثر تعقيدا مما يبدو، وأن المستشفيات الرومانية ليست مجهزة أصلا لعلاج حالات الحروق كما ينبغي، ولم تكن إمكانياتها تكفي لاستيعاب كل هذا العدد من المصابين، لكن الأخطر أن المواد المخصصة للتعقيم التي توردها شركة “هكسي فارما” إلى جميع مستشفيات رومانيا مخففة بنسبة 90% عن ما يجب أن يكون، وبالتالي فمن السهل أن تنتشر العدوى البكتيرية. وسيأتي مشهد مفزع يصوره فريق الصحفيين لبعض المرضى، إذ نرى الديدان تزحف في حدقات عيونهم.

يصور الفيلم اثنين من الصحفيين داخل سيارة قرب إحدى المستشفيات، يصوران رجلا يقوم بحمل أوعية تحتوي المادة المطهرة المخففة التي سيتضح أنها مخالفة للمواصفات، وينقلها سرا إلى سيارته خشية افتضاح الأمر تقريبا، ومن تقريب الصور سيتضح أن الرجل هو مدير شركة “هكسي فارما” نفسه.

يقرر رئيس التحرير “تولنتان” نشر تفاصيل التحقيق الأوّلي الذي يتضمن بعض التفاصيل المثيرة، وتقوم الدنيا بعد نشر التقرير ولا تقعد، ويهرع وزير الصحة لعقد مؤتمر صحفي لكي يؤكد قيام وزراته بتحري الأمر، وتشكيل لجنة طبية أصدرت تقريرا يؤكد أن 95% من المواد المتوفرة للتعقيم في المستشفيات جيدة ومطابقة للمواصفات، وأن المشكلة تنحصر في 5% فقط، وكان الوزير يكذب، وكانت السلطة السياسية تتستر على ما وقع، وقد تصدى له “تولنتان” وقال له كيف تكون اللجنة مشكلة من نفس العناصر التي تعتبر محل الشك، والتي من مصلحتها إخفاء الحقيقة؟

حادث المتهم.. بُعد بوليسي يكشف ما وراء الأكمة

يواصل فريق الصحيفة البحث والاستقصاء، والحصول على مزيد من المعلومات من مصادر داخل المستشفيات، ويخضع مدير شركة “هكسي فارما” لتحقيقات الشرطة، وبعد أيام يعثر عليه قتيلا بعد اصطدام سيارته في طريق ريفي، وهو ما اعتبرته السلطات حادث انتحار، في حين بدا حادثا مدبرا ومقصودا، أي أن الرجل قد قُتل.

هنا أصبح لدينا بُعد درامي بوليسي جديد، لكننا لن نعرف قط أي تفاصيل أبعد من ذلك عن حقيقة ما تعرض له الرجل، ولو كان من الواضح أن السلطات أغلقت ملف الحادث، وهو ما يشي بأن هناك وراء الأكمة ما وراءها.

صدور أول عدد من الصحيفة يكشف الفساد

يستمر الصحفيون في البحث والاستقصاء، ويتوصلون إلى مزيد من المعلومات الدامغة التي تدين الحكومة بالتستر والتغطية، فسوف يكشف لهم أحد كبار الأطباء أنه ظل منذ عام 2008 يقدم لأعلى أجهزة السلطة -بما في ذلك جهاز المخابرات- عشرات التقارير، تتناول الخلل الموجود داخل المستشفيات ونقص الإمكانيات، ورفض الاستعانة بالخبرات الطبية الحقيقية، كما تثبت كلها أن مواد التعقيم التي تحصل عليها المستشفيات غير صالحة، وأن هناك رشى كبيرة تدفع للكثيرين، لكن السلطات غضت النظر ولم تفعل شيئا.

مدير المستشفى.. حلقة الوصل في سلسلة الفساد

يحصل الصحفيون أيضا على تسجيلات بصوت مدير مستشفى بوخارست وهو يصرخ في الموظفين ويسبهم سبابا مقزعا، مستخدما ألفاظا غير لائقة، ويطالب موظفي قسم الحسابات بسرعة تحويل ودفع أموال لأطراف معينة بصورة تبدو غير قانونية.

وتكشف طبيبة من داخل المستشفى أن الأطباء في قسم الجراحة يدفعون رشاوى مالية لمدير المستشفى، لكي يسند إليهم إجراء عمليات جراحية لمرضى يحصلون منهم على مبالغ مالية كبيرة لإجراء العمليات.

سنرى كيف يراقب صحفيان من الجريدة الرياضية منزل مدير المستشفى الذي يشبه القصر، وكيف يحصلون من مصادرهم الخاصة على بيانات مصرفية بحساباته.

الطبيبة التي كشفت فساد مستشفى بوخارست مع الصحفية

من جهة أخرى تدلي موظفتان تعملان في قسم الشؤون المالية بمعلومات دامغة موثقة على وجود فساد مالي ورشاوى ضخمة تدفع لأطراف كثيرة داخل البلاد وخارجها، بلغت ملايين من العملة الأوروبية اليورو، وستكشف عناصر أخرى أن السياسيين الذين يتحكمون في المنظومة الصحية يستبعدون أهل الخبرة، ويعينون في مكانهم أهل الثقة من أجل التغطية على الفساد.

“فلاد فواكوليسكو”.. وزير جديد في مواجهة الأمواج

مع انفجار الفضيحة تندلع مظاهرات احتجاج يصورها الفيلم، مما يؤدي إلى استقالة الحكومة، وتشكيل حكومة انتقالية لإجراء انتخابات جديدة من التكنوقراطيين.

وزير الصحة الشاب فلاد فواكوليسكو في المؤتمر الصحفي

يأتي وزير جديد للصحة كان يعمل من قبل في مستشفيات فيينا، وكان في الماضي ناشطا للدفاع عن حقوق المرضى، والوزير الجديد هو “فلاد فواكوليسكو”، وهو شاب ثلاثيني مبتسم وهادئ ومتواضع، يفتح أبواب مكتبه ويسمح بوجود فريق تصوير الفيلم لكي يرافقه في كل خطواته، في اجتماعاته مع فريق مكتبه، مع مسؤولي مكتب مكافحة الفساد، في مؤتمراته الصحفية، حتى وهو يتحدث هاتفيا مع أبيه أو أمه. ويصبح بطل النصف الثاني من الفيلم.

إننا أمام وثيقة مباشرة كأنها يوميات وزير مؤقت، يريد أن يتخذ قرارات حاسمة لضبط الأمور، لكنه يتأنى لأنه واقع بين مزايدات سياسية وضغوط شديدة يتعرض لها، وهجوم شرس من جانب مديرة بلدية بوخارست التي تتهمه في برامج تليفزيونية نشهد جانبا منها، بأن قراره بالموافقة على إرسال المصابين للعلاج في الخارج إنما يهدف إلى حرمان المستشفيات الرومانية من الأموال، ودفع الملايين إلى مستشفيات خارجية، خصوصا في فيينا حيث كان يعمل من قبل، أي أنها تتهمه بالفساد المالي.

تحت ضغوط الشارع والرأي العام، يبدأ التحقيق من جانب مكتب مكافحة الفساد مع مدير المستشفى الفاسد، ثم يوضع قيد الاعتقال تمهيدا لمحاكمته، ثم يضع وزير الصحة الشاب خطة لإصلاح الأمور في القطاع الصحي، ويحظى بمساندة الصحافة والرأي العام، لكن مع ازدياد الضغوط التي يتعرض لها يبدأ هو نفسه يتشكك في إمكانية نجاحه، فهو يقر بوضوح أن الأمر يتجاوز كثيرا حدود سلطته وحدود وزارة الصحة، وأن الفساد موجود في أعلى مستويات السلطة.

المشكلة الأخطر هي أن الحزب الديمقراطي الاشتراكي يبدو أنه رغم كل ما وقع قد بدأ يكسب تأييدا أكبر، وفي الانتخابات التي تجري يعود الحزب بقوة إلى السلطة، وهنا يصبح كل ما أنجزه الوزير الشاب في مهب الريح.

“تيدي أورسولينو”.. مقاتلة تصبح رمز المقاومة في رومانيا

تبدو هذه الدراما المتعددة الأطراف أقرب إلى أفلام التحقيق البوليسي رغم أن جميع عناصرها من الواقع، ويضفي عليها بعض اللمسات مخرج الفيلم الذي ظل 14 شهرا يعمل في التصوير، ثم قضى فترة مماثلة في تجميع أطراف الفيلم من خلال المونتاج، تقطعها مشاهد تفيض بالشاعرية والجمال لفتاة شابة هي “تيدي أورسولينو” التي احترقت أجزاء من جسدها في الحادث، وفقدت إحدى يديها بعد أن احترقت بالكامل، واحترق شعرها، وبقيت آثار الاحتراق واضحة على ذراعيها وصدرها وجانب من وجهها الجميل.

الفتاة تيدي أورسولينو التي أصبحت رمزا للأمل والمقاومة

إنها تظهر أمام الصحفيين تتحدث رغم محنتها، مبتسمة، تخفي آلامها، تحمل الكثير من التفاؤل في المستقبل، تتمتع بروح معنوية مرتفعة، تفيض بالثقة وترفض توجيه الإدانة إلى أي طرف، بل تعتبر أن ما حدث قد حدث وأنه قدرها.

إننا نراها وهم يقومون بتركيب يد صناعية لها تستخدمها وهي تضحك أمام أمها التي تنهمر الدموع من عينيها، بسبب ما وقع لابنتها التي لا تتجاوز عامها التاسع والعشرين، ثم نشاهدها في المعرض الذي أقيم لمجموعة من صورها الفوتوغرافية المتعددة من زوايا متعددة، تظهرها في أوضاع مختلفة، وآثار الحرق بادية على جسدها، في صور أقرب إلى اللوحات الفنية التأثيرية البديعة، كما نرى واحدة من تلك اللوحات معلقة فوق مكتب الوزير الشاب.

إن حضورها في الفيلم يجعل الأمل موجودا، ويدفع بروح من التفاؤل لدى أقارب الجرحى والمصابين. لقد أصبحت “تيدي أورسولينو” رمزا للمقاومة في رومانيا، ومنحت الكثيرين الأمل. والأمل نور يضيء الروح والدنيا والحياة.