الجامعة الأمريكية.. ذكريات ملونة لصرح صنع النخبة في عصور بيروت الذهبية

تعد الجامعة الأمريكية في بيروت من بين الأقدم والأعرق في الشرق الأوسط والعالم، وقد خرّجت أشخاصا استلموا مناصب رفيعة في بلادهم، وباتت أحد معالم العاصمة اللبنانية.

ويسلط فيلم “لبنان.. الجامعة الأمريكية” الضوء على هذا الصرح التعليمي والثقافي والسياسي الذي يمتد عمره لأكثر من 150 عاما.

وهذا الفيلم هو جزء من سلسلة “ذكريات ملونة” التي أنتجتها الجزيرة الوثائقية، وتعتمد على إعادة ترميم وتلوين أرشيف يروي أحداثا مهمة، من خلال أشخاص عايشوا مراحل زمنية وأحداثا مهمة في العالم العربي بين عشرينيات وستينيات القرن الماضي، قبل أن يتوفر الأرشيف الملون.

“كوليدج هول”.. بكاء على أطلال دمرتها الحرب الأهلية

يعرض الفيلم لقطات أرشيفية بالأبيض والأسود لبيروت والجامعة على الدكتور إبراهيم السلطي، وهو أخصائي في الغدد الصماء، وقد وُلد في القدس عام 1941، ويقيم في لبنان منذ 1955. يقول الدكتور السلطي: مما ميز بيروت في الأعوام المئة الماضية وجود جامعات عريقة، مثل الجامعة الأمريكية التي تأسست عام 1866، إضافة إلى الجامعة اليسوعية، وتخصصت الجامعتان بالحقل الطبي، وكان لديهما مستشفيان راقيان جدا. واعتادت الجامعة الأمريكية استقطاب أفضل الطلاب وأكثرهم جدارة للتعليم الجامعي.

صورة للجامعة الأمريكية في بيروت في الستينيات قبل الألوان وبعد تلوينها حاسوبيا

كانت مباني بيروت في خمسينيات القرن الماضي حديثة، ومعها أخرى قديمة، مما يعكس التطور السريع التي شهدته العاصمة اللبنانية بعد الاستقلال، وخاصة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وكانت هذه الفترة هي العصر الذهبي لبيروت.

وظهر في الفيديو مبنى “كوليدج هول”، وهو المبنى الشهير للجامعة، وقد تعرض للتخريب خلال الحرب الأهلية. يقول د. السلطي: الأطباء المتخرجون أو المتمرنون كانوا يطبقون النظريات التي تعلموها بالجامعة في المستشفى الخاصة بالجامعة، وأسست في الجامعة الأمريكية أول كلية تمريض في الشرق الأوسط، وبعد نجاح الجامعة وانتشار سمعتها، فتحت كليات إضافية باختصاصات مختلفة مثل الهندسة والزراعة.

احتوت مختبرات كلية الطب بالجامعة الأمريكية في بيروت على أجهزة علمية متقدمة

كان حرم الجامعة جميلا ومحاطا بالشجر واللون الأخضر، وكان هناك أيضا ملعب رياضي كبير قريب من شاطئ البحر، وكان هناك مبنى (بليس) نسبة إلى مؤسس الجامعة القس دانيال بليس، وقد تميزت الجامعة بحراك سياسي كبير لطلابها، وهذا غير مستغرب، لأن بيروت كانت مدينة الفكر المتطور والتوجه القومي القوي، ولهذا كانت الجامعة تشهد مظاهرات لدعم القضايا العربية.

الجامعة الأمريكية.. ذكريات بيروت الخضراء النابضة بالحياة

يروي الدكتور سهيل منيمنة رئيس جمعية تراث بيروت أن الجامعة الأمريكية في بيروت كانت لها أهمية كبيرة جدا على لبنان بشكل عام وحتى على المحيط العربي. فكانت الدراسة فيها ميزة لأي طالب، وكان خريجوها يستلمون مناصب مرموقة ورفيعة عندما يعودون إلى بلدانهم.

كان أهم التخصصات في الجامعة هو الطب، وقد أنشأ الطاقم الطبي مستشفى الجامعة الأمريكية عام 1871، وكانت بيروت نابضة بالحياة ومكتظة بالسيارات بألوان مختلفة، وكان اللون الأسود والأخضر الداكن هما الطاغيين.

الجامعة الأمريكية في بيروت واحدة من جامعتين اثنتين كانتا تدرسان الطب في لبنان في الستينيات

ومضى يقول: كان الشرطي يرتدي الزي الأخضر الداكن، وكان هناك قطار عام 1964 ملونا باللونين الأحمر والأبيض، وكانت أناقة طلاب الجامعة الأمريكية ملفتة للنظر في ذلك الوقت، وأما مباني الجامعة فكانت على الطراز التراثي، وكذلك أزياء الممرضات، رغم أنها لم تختلف كثيرا عن هذه الأيام، ولكنها كانت أجمل، وكانت الجامعة تضم مختبرات عملية لتطبيق الدروس والنظريات التي يتعلمها الطلاب.

لبنان الخمسينيات.. عصر التعايش والنهضة العلمية

بعد ترميم اللقطات الأرشيفية وتلوينها بشكل آلي ودقيق، عرضت على الدكتور إبراهيم السلطي، فأكد أن الألوان مطابقة للواقع، وتعطي بيروت حقها في جمال الطبيعة. ثم قال: في خمسينيات وستينات القرن الماضي كان للقطار ألوان جميلة، وكانت بيروت مدينة خضراء أكثر من أي مدينة عربية، وعندما انتقلتُ من عمان إلى بيروت تفاجأت كم كانت العاصمة اللبنانية خضراء، وخاصة حرم الجامعة الأمريكية، وهذا ما أكدته اللقطات بعد تلوينها.

حركة السيارات في شارع الحمراء ببيروت حيث الشرطة تلبس اللون الأخضر الغامق

لم يكن هناك كثير من كليات الطب -وقتها- في البلاد العربية، فقد كانت موجودة في مصر والعراق، ولكنها لم تكن كافية، وأما بيروت فهي المدينة الوحيدة التي كانت تضم جامعتين تدرّسان الطب. يقول د. إبراهيم السلطي: هناك كثير من الطلاب الذين كانوا يعيشون في الأردن مثلي، وفضلوا الانتقال إلى بيروت ودراسة الطب في الجامعة الأمريكية، وكان نصف طلاب الجامعة لبنانيين، والنصف الآخر قادمين من الدول العربية.

ملعب كرة القدم بالجامعة الأمريكية ببيروت بجوار البحر

عندما تريد الحديث عن الجامعة، فعليك وصف بيروت التي كانت في الخمسينيات والستينات تمر بعصرها الذهبي، وكانت منطقة راس بيروت تجسد لبنان، لأنها كانت تجمع كل الطوائف، وكان هناك تعايش جميل، وهذا كله يعود لوجود الجامعة الأمريكية وتأثيرها على المجتمع، فشارع الحمراء قبل الستينيات كان ضعيفا، وفي أواخر الستينيات كان من أهم مناطق بيروت، من ناحية الحركة التجارية والثقافية والمسارح وغيرها.

حرم الجامعة.. حراك سياسي يهتف للأوجاع العربية

انعكس وضع لبنان في عصرها الذهبي تقدما سريعا وتوسعا ملحوظا في رسالة الجامعة الأمريكية، وكان يميزها ارتفاع المستوى الذي كان يقارب أفضل الجامعات في العالم بدراسة وممارسة الطب.

الجامعة الأمريكية كانت مسرحا للمظاهرات والتعبير عن الرأي.. الصورة قبل وبعد التلوين

وقد برز كثير من خريجي الجامعة الأمريكية، وتسلموا مناصب قيادية في لبنان وخارجه، وهذا يعود إلى المستوى العلمي الذي يتخرج عليه طالب الجامعة الأمريكية، فقد كانت إدارة الجامعة حريصة على المحافظة على مستوى الطلاب، منذ دخولهم إلى الجامعة ودراستهم وبعد تخرجهم.

يقول د. إبراهيم السلطي: كانت الجامعة الأمريكية ملتقى لطلاب من مختلف الدول العربية، تضج بالحراك السياسي الذي يتمحور حول النشاط القومي، وقد نشأت في الجامعة وفي العاصمة اللبنانية عدة حركات قومية تدافع وتدعم وتندد بما كان يحصل في البلاد العربية من المشاكل، وخاصة القضية الفلسطينية، وكانت الجامعة تسمح بحرية التعبير عن الرأي والتفكير، وهذه أمور مهمة في الثقافة الجامعية.