شعوب البيرو.. طقوس البلوغ والحج المقدس في أعالي جبال الأنديز

اعتاد المصور الفوتوغرافي الفرنسي “فرانك تشارتون” السفر حول العالم لتوثيق حياة الناس في أوطانهم، وهو بهذا يحتفظ بعلاقات خاصة مع كثير منهم، وكما هي طبيعة البشر، ففي كل زيارة لهم تزداد عرى الصداقات التي تكونت عبر السنين.

في هذه الحلقة من سلسلة “المصورون الرحالة” التي تبثها الجزيرة الوثائقية يأخذنا “تشارتون” في رحلته إلى بيرو التي انطلق فيها من غابات الأمازون المطيرة الاستوائية الحارة، إلى قرى الهنود الحمر على ارتفاع آلاف الأمتار، وهناك وثق أهم اللحظات الإنسانية في حياة سكان قريتين في تلك المناطق.

هذه المناطق القروية مزقتها النزاعات، سواء إبان الغزو الإسباني في القرن الرابع عشر، أو على يد كبار ملاك الأراضي في القرن التاسع عشر، فمثلا أفراد قبيلة “الأشانينكا” يتوزعون على أكثر من 350 تجمعا سكانيا، وهم من السكان الأصليين المتمسكين بتقاليدهم الأصلية، وينتشرون في غابات الأمازون، ويتراوح عددهم بين 30-50 ألف نسمة، ومنهجهم من أجل البقاء هو أن يتواروا بعيدا عن الأنظار.

“إيميليا”.. ابنة الأدغال وحامية معارف القبيلة

قرية ساباني تقطنها القبيلة المسماة باسمها، ويجاورها نهرها ساباني، وتقع على بعد 100 كيلومتر من الحدود البرازيلية في قلب غابة الأمازون، حيث لا كهرباء ولا خدمات أساسية، وتعيش فيها 95 عائلة ريفية كأنهم عائلة واحدة، يعتاشون على زراعة الخضراوات والفاكهة والأرز ويصطادون من النهر الأسماك، ويوزعون ما يصطادونه بينهم بالتساوي كأنهم أسرة واحدة. ويصطادون أيضا من الأدغال كثيرا من الحيوانات والطيور التي يتغذى عليها أهل القرية.

تقع قرية “سابانيي على بعد 100 كيلومتر من الحدود البرازيلية في قلب غابة الأمازون

وتقيم في القرية منذ فترة قصيرة ضيفة مميزة هي “أميليا” ذات السبعين خريفا، وهي طفلة الأدغال التي نالت شهرة واسعة في وسط “الأشانينكا”، وعادة ما يطلب منها إعداد الأعضاء الأصغر سنا حسب عادات القبيلة، وخاصة الفتيات اللاتي يقتربن من البلوغ، وتستغرق فترة الإعداد أربعة شهور، وتنتهي باحتفال يسمى “ديبان كارونينكي بيتي”.

وتعتبر “إيميليا” العرافة والقابلة ومعالجة الكسور والعالمة الروحية التي تحفظ تقاليد وعادات قبيلة “الأشانينكا”، وهي تعتبر بحق حامية معارف القبيلة.

“إيميليا” ذات السبعين خريفا تؤهل فتاة تدعى “ليا” تبلغ من العمر 14 عاما كي تنتقل إلى مرحلة البلوغ

وعند حلول الظلام تجمع “إيميليا” حولها أطفال القرية، لتزين وجوههم بالأصباغ وتروي لهم أساطير القبيلة، وهي خليط من معتقدات وثنية ودينية، يؤمنون من خلالها بوجود آلهة متعددة، إله خلق “الأشانينكا” والبشر، وإله خلق الماء والنار، ثم تحول أحد أبناء “الأشانينكا” إلى إله يسيطر على الأرض بقوته.

طقوس التطهير.. بوابة المصور لدخول العالم المقدس

حضرت “إيميليا” إلى القرية من أجل فتاة تدعى “ليا” تبلغ من العمر 14 عاما، لكي تعلمها كل المهام التقليدية التي تقوم بها النساء، وتجهزها لتصبح امرأة قريبا، وخلال 4 شهور في رفقتها سوف تعلمها كل شيء تقريبا، من صناعة السلال إلى الحياكة إلى الحصاد وحتى إعداد “الماساتو”، وهو الشراب المقدس لدى “الإنكا”.

وسوف يحتفل بها بعد انتهاء التعليم احتفالا رمزيا صغيرا يمثل بداية مرحلة البلوغ من حياتها، لكن في هذه الحالة لن يسمحوا للمصور “فرانك” بتصوير الحفل، إلا بعد أن يجتاز طقوسا معينة كي يُطهِّر نفسه، وفي الصباح الباكر رافقته “إيميليا” وبعض القرويين إلى الأدغال، حتى وصلوا إلى شلال مقدس عند “الأشانينكا”، وهو أشبه بمعبد مبني من الحجارة والكروم والمياه تجتمع فيه الأرواح وتراقب ما يجري.

“إيميليا” وفرانك يلبسان زيا خاصا يسمى “كوشما” تحضيرا لممارسة بعض طقوس التطهير الغريبة

ارتدت “إيميليا” والقرويون زيا خاصا يسمى “كوشما”، ومارسوا طقوسا غريبة على “فرانك”، وأمشوه بين الدخان وعلى الحصى، وأجلسوه تحت الشلال ورقصوا معه على ترانيم خاصة.

وأما الخطوة الأخيرة فعليه أن يجتاز في الأدغال جلسة “فابوريو”، حيث يحصل على النقاء، من خلال الاغتسال بالبخار الناتج عن غلي خلاصة بعض النباتات أثناء ارتدائه زي “الكوشما”.

خبايا الأدغال.. معارف رجال الغابة لكسب الرزق

يتميز أهل القرية بالانسجام التام، فهي حالة من السلام كما لو أنك تعيش في العالم الآخر، فأدوار الرجال والنساء محددة بشكل واضح، فالنساء يؤدين أعمال المنزل والحقل، بينما يمارس الرجال الصيد.

وربما يكون من أسباب هذا السلام وهذا الهدوء أن القرية لا ترتبط بغيرها من القرى والتجمعات السكنية بطرق معبدة، ولا بوسائل مواصلات أخرى، فليس في القرية طرق ممهدة ولا مدرسة، لذلك يستغرق وصول الأطفال إلى المدرسة التي تقع في القرية المجاورة حوالي ساعتين يوميا.

يستغرق وصول الأطفال إلى المدرسة التي تقع في القرية المجاورة حوالي ساعتين يوميا

وبمجرد خروجه من المدرسة، يرافق الطفل “وولتر” والده “فيكتور” للتعرف على أسرار الصيد في غابة الأمازون المطرية، وقد طلب “فرانك” منهما مرافقهما للتصوير وللتوثيق. وأكثر ما لفت انتباهه أن كل الأدوات المستخدمة في الصيد تحتاج إلى تدريب وتعلم، من أبسط الأشياء وأصغرها، وهي صافرة القصب التي تقلد أصوات الطيور لجذبها، إلى معرفة آثار الحيوانات ونوعها وبقايا طعامها، ونوع البذور التي كانت تأكل، ومتى كان ذلك.

“فيكتور” صاحب العلم الغزير والاطلاعٍ الواسع في خبايا الأدغال

لقد أثبت “فيكتور” في هذه الرحلة أنه صاحب علمٍ غزير وذو اطلاعٍ واسع مذهل على خبايا الأدغال، ولا يقل علما ومعرفة عن المعلمة والمعالجة “أميليا” التي أنهت كامل الشهور الأربعة في تعليم “ليا” وحان موعد الاحتفال بنضجها. وقد أبدت “ليا” له قبل الحفل رغبتها في أن تغادر مجتمع الريف هذا، وأن تتعرف على الحياة المدنية، وأن تزور دولا أخرى.

وبدأ الحفل بدعوتها إلى النزول من شرفتها الأمامية للانضمام إلى مجموعة الفتيات الراقصات. وهكذا فإن نزولها من الشرفة ومشاركتها الغناء والرقص هو إيذان ببدء مرحلة البلوغ والمسؤولية التي ستمكنها من تحديد مستقبلها بنفسها.

جبال الأنديز.. رحلة إلى سكان أعالي البيرو

غادر “فرانك” القرية متجها إلى جبال الأنديز لمتابعة رحلته في البيرو، وبعد 4 ساعات من سفر الطائرة ثم سفر بري طويل، وصل “فرانك” إلى أعالي الجبال، حيث تسكن قبائل “الكيرو” قرية كيكو على ارتفاع 4200 متر فوق سطح البحر، تلك القبائل التي تعتقد بديانة عقائد الأنديز.

قرية “كيكو” التي تسكنها قبائل “الكيرو” تقع على ارتفاع 4200 متر فوق سطح البحر

يشكل نسل “الإنكا” نسبة 45% من سكان البيرو، ويتوزعون على عدد من قبائل السكان الأصليين، وتبعد قرية كيكو ثلاث ساعات عن عاصمة “الإنكا” سابقا المسماة كوسكو، وترتبط بمحيطها بشبكة من الطرق شديدة الانحدار، وكلما ارتفعت إلى الأعلى قلَّت نسبة الأوكسجين في الهواء. وانخفضت درجة الحرارة حتى تصل إلى ما دون الصفر بمجرد أن تتوارى الشمس خلف الجبال، شتاء كان الوقت أو صيفا.

ولتسهيل المهمة على “فرانك” اتخذ مرشدا من سكان المنطقة اسمه “سيزار”، فكان على “فرانك” أن يسير مشيا على الأقدام حتى يصل إلى منزله، فاستقبله فيه بأوراق الكاكاو الطازجة، كما هي عادة أهل الإنديز.

ويسكن “سيزار” وإخوانه في بيوتهم الخمسة على رأس تلة تُسمى بالتشايوك، حيث بنى والده المنزل الأول عام 2002، ويبلغ إجمالي سكان القرية التي تشمل الوادي والتلة حوالي 400 نسمة منهم 86 رجلا.

أهل الإنديز يستقبلون ضيوفهم بأوراق الكاكاو الطازجة كي يمضغوها

وتتوزع أراضي “الكيرو” في الجبال على ارتفاعات متفاوتة، فهم يزرعون الذرة في سفوح الجبال البالغ ارتفاعها ألفي متر، ويزعون البطاطا في المناطق ذات الارتفاع المتوسط، ويربون حيوانهم المفضل “الباكا” على ارتفاعات 4 آلاف متر، إذ لا يستطيع حيوان أليف تحمُّل برودة الطقس مثله.

غزاة الإسبان.. مطاردة إلى الجبال ومسيحية قسرية

انتقل “الكيرو” للعيش في الجبال نتيجة الغزو الإسباني، فعندما طردهم الغزاة من أراضيهم ومنعوهم منها فروا إلى الجبال التي لا يتبعهم إليها الغزاة، بسبب افتقارها للخيرات التي جاؤوا من أجلها، وهكذا بقوا يعيشون في عزلة عن العالم رغم تطور بعض وسائل الحياة لديهم، مثل بناء أسقف البيوت من الصفيح بدلا من القش، واستخدامهم لنول حياكة الصوف الذي يظهر أنه في مرحلة بدائية.

وساعدهم في بقائهم في عزلتهم طول موسم الشتاء عندهم، خاصة في ظل قلة الموارد والمواد والأدوات المتوفرة لديهم.

الدعاء تحت الصخرة الكبيرة المقدسة طقس من طقوس الصلاة لدى شعب “الكيرو”

وقد قام الإسبان الذين جلبوا معهم القساوسة الكاثوليك بتغيير ديانة السكان المحليين قسرا وبالقوة إلى الديانة المسيحية الكاثوليكية، ثم هدموا معابد الأنديز وحاربوا كهنتهم وطاردوهم. وتعتبر الديانة المسيحية الكاثوليكية الآن هي الديانة الرسمية لدولة البيرو.

ليست الصلاة عند “الكيرو” محددة بموعد أو بوقت، بل حسب الطلب، وكلما حان وقتها كان على “فرانك” أن يستأذن الكاهن “أنتونيو” الذي هو والد المرشد “سيزار” لتصوير موقع الصلاة المسمى “باجو”، حيث تقام طقوس طويلة من التراتيل والأدعية والابتهالات وتقديم القرابين لإلهين يعتقد “الكيرو” أنهما يرعيان قرية كيكو، وهما “باتشا ماما” أو الطبيعة الأم، و”آبو” أو أرواح الجبال.

يحج أهل القرية سنويا إلى وادي كويلور ريتي الواقع بين الجبال على ارتفاع 4500 متر فوق سطح البحر

تبدأ الطقوس بتقديم القرابين إلى “آبو”، ثم الدعاء تحت الصخرة الكبيرة المقدسة، ثم تقديم القرابين إلى “باتشا ماما”. ويستمر الدعاء إلى ما قبل الغروب، فكان عليهم مغادرة مكان الصلاة خوفا من البرد القارس.

كويلور ريتي.. رحلة الحج وتقديم القرابين

يحج أهل القرية سنويا إلى وادي كويلور ريتي الواقع بين الجبال على ارتفاع 4500 متر فوق سطح البحر، ويضحون في تلك المناسبة بحيوان الباكا، وهو حيوان يختلف عن اللاما، فهو يشبه إلى حدٍ كبير الماعز والضأن. ويحتفظون بجزء من اللحم لاستهلاكه خلال موسم الحج الذي يستمر لمدة 3 أيام.

حيوان الباكا مهم بالنسبة لقبيلة “الكيرو” فهو مصدر السيولة الرئيسي لهم، فمن صوفه يصنعون الأغطية والأردية والقفازات والقبعات والجوارب وبعض الملابس، ويحتفظون ببعضها لهم، ثم يبيعون الباقي.

ولحم الحيوان الواحد من الباكا يكفي لإطعام الأسرة مدة ثلاثة أسابيع، فهم يجففونه، وتساعدهم في ذلك الرياح الجافة والشمس، وتحافظ برودة الطقس على سلامة الجزء الباقي، ولفرم اللحم يستعملون آلة فرم اللحم اليدوية التي اشتروها من المدينة.

وتخلو منازل “الكيرو” من الأثاث، فلا أريكة لديهم ولا طاولات ولا فرشات ولا حتى مداخن، وكأنهم يعيشون في القرون الوسطى.

يضحي شعب “الكيرو” بحيوان الباكا، ويحتفظون بجزء من اللحم لاستهلاكه خلال موسم الحج الذي يستمر لمدة 3 أيام

ولما حان وقت السفر للحج انطلقت قوافل السيارات والحافلات والعربات التي تجرها الحيوانات، حيث يشارك فيه جميع قبائل السكان الأصليين بمختلف مهنهم وأطيافهم الأخوية الروحية من شتى المناطق، وفي هذا التجمع الكبير يطلبون من آلهة المسيحيين ومن “باتشا ماما” ومن “آبو” الدعاء والابتهالات. ولاحقا بنيت كنيسة على سفح الموقع، تقام فيها الصلوات المختلطة بين المسيحية وبين ديانة الأنديز.

وعلى جانب منطقة الحج يقام سوق تباع فيه التمائم والمجسمات الصغيرة للمنازل وللسيارات ولبعض الشخصيات الدينية، وتمثل هذه المجسمات ما يرغب فيه الحجاج ويتمنون أن تتحقق فيه أمانيهم، وأن تتحول هذه المجسمات بأدعيتهم إلى ممتلكات حقيقية.

قمة جبل الجليد.. طقوس المتدينين في آخر ليالي الحج

عندما غربت شمس ثالث أيام الحج، وبدأ الحجيج بالتجهيز للمغادرة قبل بزوغ فجر اليوم الرابع؛ قرر “فرانك” التسلق مع قلة من الحجيج الأكثر تدينا القادرين على الصعود إلى أعلى قمة في منطقة الحج البالغ ارتفاعها 5200 متر، حيث البرد الشديد والجليد يُغطي القمة.

قلة من الحجيج الأكثر تدينا يصعدون إلى أعلى قمة في منطقة الحج

وعندما حل الظلام على الكتلة الجليدية، اشتعلت المشاعل وزادت الابتهالات، ورغم الإرهاق الواضح على الجميع فإنهم استمروا في الدعاء والابتهالات دون نوم، وحين ظهرت خيوط الفجر الأولى بدأت الصلاة الأخيرة المختلطة، وهي خليط بين الطلب من الآلهة التي يعتقدون فيها، وزادت مناشدتهم وزاد طلبهم الحماية والحفظ والسلام والمغفرة. ثم طلب الكاهن منهم إرشاد أبنائهم إلى طريق الفلاح كما كانت أول أمة من أممهم.

وعندما انتهت الصلاة بدأوا النزول عن الجبل مسرعين، ترافقهم الصافرات والأناشيد، ومع أنهم قد استنفذوا كل ما لديهم من قوة، فإن منظر نزولهم المليء بالحيوية والنشاط، يُنبئك بأن هؤلاء القوم لا يمكن أن يندثروا.