“كذب أبيض”.. نبش في أسرار العائلة يحيي ذاكرة المغرب المنسية

بعد فوزه بالجائزة الذهبية لمهرجان مراكش السينمائي الدولي ها هو فيلم “كذب أبيض” يحقق انتصارا كبيرا آخر، مع ترشيحه ضمن القائمة ما قبل النهائية لنيل جائزة الأوسكار لأفضل الأفلام الدولية (أي الأجنبية) لعام 2024، متنافسا مع عدد من أهم ما أنتج من أفلام في العالم.

“كذب أبيض” هو أول الأفلام الطويلة للمخرجة المغربية الشابة أسماء المدير، شاركت في إنتاجه قناة الجزيرة، ويمكن اعتباره عملا هجينا ما بين الروائي والوثائقي. فهو عمل سينمائي مبتكر، يمتلئ بالكثير من الخيال الساحر، ولعل أفضل تصنيف له هو أنه فيلم “تشكيلي”، تستخدم مخرجته اللوحات والصور والنماذج الخشبية والحجرية الصغيرة والدمى والعرائس، في بناء جدلي مركب بديع، ينتقل بين الخاص والعام، وبين الذاتي والموضوعي، وبين الذاكرة والتاريخ.

صورة الطفولة.. كذبة بيضاء تقود إلى سؤال محيّر

تتحدث أسماء المدير في فيلمها عن نفسها، وهي تبدأ من فكرة غياب الصورة، والمدخل إلى الفيلم هو لماذا ليست لديها صور من ماضيها، من طفولتها مثل سائر الفتيات؟

هناك صورة وحيدة لها في الفيلم، يفترض أن تكون صورت لها عندما كانت طفلة صغيرة وسط مجموعة من التلميذات، لكننا سنعرف مما ستبوح به جدتها في الفيلم أن الصورة ليست لها، فالجدة زهرة تتهم الأم وردة بسرقة الصورة من المدرسة، وبأنها أوهمت ابنتها أسماء بأنها صورتها، في حين أنها ليست صورتها، أي أن الأم كذبت على ابنتها وأخفت عنها الحقيقة طوال سنين.

يمثل إخفاء الحقيقة لغزا أمام أسماء التي قررت أن تقطع رحلة بالكاميرا لاستعادة الذاكرة والتنقيب في تاريخ العائلة لكي تعرف ما الذي يكمن وراء هذه “الكذب الأبيض”، وهل هنا شيء آخر أكبر يختفي وراء الحجب ممنوع عليها أن تعرفه أو تكشف عنه؟

والد البطلة.. ذو الأنامل السحرية يحاكي الحي الشعبي

تختار أسماء ذات الثالثة والثلاثين التي تظهر في الفيلم بنفسها من خلال لقطات تنعكس في المرايا، في لقطات قريبة كثيرا من وجهها، أن تناقش وتجادل وتحقق مع أفراد عائلتها: والدها ووالدتها وجدتها، وتنقب لكي تعثر على الحقيقة.

والد أسماء محمد المدير هو عامل بناء، وقد بنى كثيرا من منازل المدينة القديمة بالدار البيضاء في ستينيات القرن الماضي، لكنه أيضا فنان حقيقي يمكنه أن يصنع أشكالا بديعة تحاكي الشخصيات الحقيقية ولو على نحو كاريكاتوري، ويجيد أيضا بناء “الماكيتات” أو النماذج المصغرة للبيوت والشوارع، وهي تقنعه ببناء نماذج صغيرة لمنازل الحي الشعبي الذي نشأت فيه في الدار البيضاء.

يحقق الرجل رغبتها فيصنع نماذج كاملة صغيرة لكل منازل الحي والشوارع بتفاصيلها الدقيقة، بما في ذلك الأسطح والبلاط والأبواب والشبابيك والمصابيح، وحتى النساء الذين يجلسون أمام الأبواب في صمت، أو الرجال أمام المقاهي.

أستوديو هاواي.. هالة أسطورية حول حلم الطفولة

يصنع والد أسماء أيضا نموذجا لأستوديو التصوير الفوتوغرافي الأسطوري الذي يحمل اسم “هاواي”، وتتحدث لنا أسماء عنه وكيف أنها كانت تحلم به في طفولتها، وكانت أسطوريته ناتجة عن ما أضفاه الناس عليه من قدرة على جلب “البركة”.

المخرجة المغربية أسماء المدير رفقة والدها محمد المدير عامل البناء

وربما أرادت أيضا نزع تلك الهالة الأسطورية الكاذبة عن أستوديو التصوير خلال رحلتها للكشف عن الحقيقة، وهي تصر على أن تلتقط أول صورة لها على خلفية هذا الأستوديو في ليلة القدر، حيث يتجمع الأطفال في الملابس التقليدية المغربية المزركشة للاحتفال بهذا الحدث الديني ذي المغزى الخاص المستقر في الضمائر.

تكشف المناقشة بين أسماء وأمها في نهاية الأمر أن الجدة المستبدة الجامدة هي التي أصرت على منع التقاط الصور، وكذلك منع تعليق أي صور داخل المنزل بزعم أن الصور حرام، وهي تكرر هذا المعنى في الفيلم أيضا، وعندما تأتي لها أسماء برسام بارع يرسم لها لوحة بديعة بالقلم الأسود على الزجاج الشفاف تثور وتغضب وتحتج، ثم تحطم اللوح الزجاجي.

متاهة الديكور.. سجن الذاكرة المحبوسة خلف الأسوار

من المعالم الفنية في الفيلم الانتقال من خلال حركة الكاميرا، والتوغل داخل العالم السري الغامض الذي أقامه صُنّاع الفيلم داخل مكان مغلق لا تبدو له نوافذ، مع الإضاءة الصناعية، وكذلك النفاذ من داخل الغرف الحقيقية للمنزل إلى الغرف المصنوعة الصغيرة من النماذج الكرتونية التي تلتقطها من زوايا مرتفعة، لكنها هنا ليست من الكرتون، بل صنعها الأب من الحجر والإسمنت، أي من نفس المواد التي كان يُشيّد بها البيوت في الحي الشعبي.

دمية الجدة التي لم تعجبها

وفي فيلم كهذا يدور بين الحقيقة والخيال الناتج من الذاكرة، داخل ديكورات أقرب إلى لعبة المتاهة وألعاب الأطفال، تسود الألوان الزاهية الصريحة معظم الصور؛ الأحمر والبرتقالي والأزرق، ويصبح الديكور المغلق الذي تدور فيه الكاميرا، وتحصر الشخصيات التي نراها لأفراد عائلة المدير في لقطات قريبة للوجوه، كما لو كان سجنا للذاكرة التي تسعى أسماء إلى استدعائها وإخراجها خارج تلك الأسوار والأبواب المغلقة.

ليلة مقتل فاطمة.. سر لا يريد أحد التحدث عنه

هناك صورة وحيدة معلقة فوق جدار إحدى الغرف، هي صورة صغيرة بالأبيض والأسود للملك الحسن الثاني الذي تهتف الجدة بحياته، لكن ما سر هذه الصورة، وذلك الصمت الذي يحيط كلما تساءلت أسماء عن ما وقع في الماضي وما ترامى إلى سمعها من حكايات الجيران؟ ومن هؤلاء الجيران لدينا في الفيلم رجلان هما عبد الله أبو زيد، وسعيد مسرور.

هناك صورة أخرى يتكرر ظهورها كثيرا في الفيلم خصوصا في نصفه الأول، وهي صورة بالأبيض والأسود لفتاة صغيرة في عامها الثاني عشر تدعى فاطمة، وسنعرف أنها قُتلت في الحارة التي يقع فيها منزل أسماء، وعندما تسأل أسماء جدتها من الذي قتل فاطمة؟ تمرر الجدة يدها على فمها، أي تطالبها بالصمت التام وعدم التطرق إلى هذا الموضوع نهائيا، لكن أسماء لن تتوقف.

سوف نستمع لشهادات الجارين عبد الله وسعيد عن ما حدث في ذلك اليوم الذي لا يريد أحد من عائلة أسماء أن يتذكره، ليلة قتل فاطمة، لكن الأمر لا يتوقف فقط على فاطمة، بل شمل عددا كبيرا من الناس.

من هذه الصورة التي هي مدخلنا إلى الشخصي والعام، إلى التاريخ الشخصي وتاريخ المغرب؛ ينقلنا الفيلم إلى أحداث يوم انتفاضة الخبز في 20 يونيو/حزيران عام 1981.

سنوات الرصاص.. حقبة سوداء دفنتها السلطات بالقوة

تمثلت المشكلة الأساسية في غياب الصور، غياب توثيق للحدث الدامي الذي وقع في خضم ما عرف في المغرب باسم “سنوات الرصاص”. هناك صورة واحدة فقط عثرت عليها أسماء المدير من هذا الحدث الذي شهدته الحارة التي يقع فيها منزلها، وهي صورة بالأبيض والأسود لبعض الأشخاص القتلى الذين تتمدد جثثهم في الشارع.

لذلك يصبح السبيل الوحيد لاستعادة تاريخ ذلك اليوم شهادة الجيران، فالأب يقول إنه كان موجودا في ذلك اليوم في مكان آخر، مشغولا في العمل في البناء، والأم تزعم أنها لا تتذكر شيئا، والجدة ترفض الحديث عن الموضوع، وتهتف بحياة الملك الذي رحل منذ نحو ربع قرن.

جدة المخرجة أسماء المدير التي لا تود الحديث عن سنوات الرصاص في المغرب

يتذكر عبد الله وسعيد ما وقع، أحدهما يشرح ويروي باستخدام الدمى والأشكال وقائع ذلك اليوم، بعد أن رفعت الحكومة أسعار الخبز، فخرج الفقراء من أحيائهم الفقيرة وتجمعوا، ومن بينهم أيضا أطفال في عمر الزهور مثل فاطمة، وأخذوا يهتفون ضد هذا الظلم البين، وجاءت الشرطة وأطلقت الرصاص عشوائيا على الجميع، فقتل نحو 600 شخص بينهم عدد كبير من الأطفال والنساء، وألقي القبض على عدد آخر.

ويروي الآخر أن رجال الشرطة يسحبون الجثث من أرجلها، من دون إبداء أي احترام لحرمة الموت، ثم يكوّمونها في شاحنات صغيرة، ثم يدفنونها في مكان مجهول، وحتى اليوم لا يعرف كثيرون أين دفن أحباؤهم، ومن بينهم فاطمة.

كان محظورا على الجميع الحديث عن ما حدث، لقد أرادت السلطة أن تمحو أي أثر للمذبحة، وضمنت غياب أي تصوير أو توثيق لما وقع، واعتقلت كل من تظاهروا بعد ذلك يريدون معرفة مصير أبنائهم، ورفعوا صور أقاربهم.

وتقوم أسماء المدير بإعادة هذه المظاهرة باستخدام أشخاص حقيقيين يتجمعون داخل حافلة، يرفعون صور أقاربهم وأحبائهم المفقودين، أما عبد الله فهو يحرك الدمي داخل نموذج زنزانة ضيقة لا نوافذ فيها، يقول إنه قضى فيها نحو 16 عاما مع مجموعة من المعتقلين، وكيف تعرضوا جميعا للتعذيب والإهانات، وعندما يستعيد التفاصيل ينهمر في البكاء.

استعادة ذاكرة الوطن.. أسلوب مبتكر على أنغام “ناس الغيوان”

إن فيلم “كذب أبيض” بهذا المعنى ليس فيلما لاستعادة الذاكرة فقط، الذاكرة الشخصية وذاكرة الوطن، بل وسيلة لمواجهة الذات بالماضي، بالحدث الذي يجب أن لا يُمحى من الوعي العام.

ونحن بالتالي أمام فيلم يبدأ كما لو كان من ألعاب الأطفال، مع مزيج من الجد والضحك الناتج عن الحوارات والمواقف الطريفة التي تقع بين أسماء وأمها وجدتها المستبدة التي أرادت أن تفرض سياجا على الذاكرة نتيجة الخوف، ليصبح مع تطور السرد والصور الرمزية فيلما سياسيا يستعيد ذكرى مذبحة انتفاضة الخبز وسنوات الرصاص في المغرب، لكن من خلال شكل فني مبتكر وجذاب وبديع.

إعادة تصوير لمطالبة أهالي الضحايا بمعرفة مكان دفن أحبائهم

ومن أكثر العناصر التي أضفت على الفيلم جمالا خاصا استخدام المخرجة أسماء المدير للأغاني البديعة لفرقة “ناس الغيوان” المغربية الشهيرة التي كانت تطوف القرى المغربية في السبعينيات، وتغني للناس ومع الناس.

كانت أغاني الفرقة شجية تحمل أيضا عبقا من الماضي الثوري، وكانت تستخدم كلمات مستمدة من الغناء الصوفي، ممزوجة بأبيات تعبر عن معاناة الشباب المغربي في تلك الفترة، وقد خلقت حركة غناء مضاد في المغرب والشمال الأفريقي كله في تلك الفترة.

أسماء المدير.. مخرجة تدير طاقما فنيا متميزا

أسماء المدير هي من مواليد 1990، وقد درست السينما في باريس، ثم أكملت دراستها السينمائية في المغرب، وتخرجت من أكاديمية السينما المغربية عام 2010، وأخرجت عددا كبيرا من الأفلام القصيرة والوثائقية، منها فيلم “في زاوية أمي” (Post Cards) لقناة الجزيرة الوثائقية عام 2020، وقد أنتجت أفلامها من خلال شركة الإنتاج التي أسستها في المغرب، ويعتبر فيلم “كذب أبيض” أول أفلامها الطويلة.

شارك في إنتاج الفيلم المنتج المصري مارك لطفي من خلال شركته التي أنتجت عددا من الأفلام المستقلة، مثل فيلم “سعاد” لآيتن أمين، و”كباتن الزعتري” لعلي العربي، وأدار تصوير الفيلم مدير التصوير التونسي حاتم نيشي الذي عمل مع كبار المخرجين التونسيين، مثل نوري بوزيد وجيلاني السعدي وكوثر بن هنية وعبد الحميد بوشناق وهند بوجمعة.

ولا شك أن من أهم علامات التميز في الفيلم المستوى البديع للصورة، والتكوينات الخاصة الغريبة التي تجعل الفيلم أقرب إلى ألعاب الأطفال، وتبدو الصورة متعددة المستويات والدلالات، مع الحركة المستمرة للكاميرا في انتقالاتها بين الديكورات المصنوعة والطبيعية، والاستخدام الخاص للألوان، وقد ساهم المصور القدير على جعل الفيلم يبدو لوحة سريالية حديثة، لكن ذات صلة وثيقة بالواقع.