رمضان في القرارة.. موسم العبادة والصدقات والتقاليد العريقة في قلب الجزائر

تقع مدينة القرارة التابعة لولاية غرداية في منطقة وادي مزاب، وسط جمهورية الجزائر، شمال الصحراء الجزائرية، وتبعد عن الجزائر العاصمة حوالي 600 كيلومتر إلى الجنوب، وتسكنها قبائل عربية وأمازيغية.

وقد أنتجت الجزيرة الوثائقية فيلما عن هذه المدينة، تتبعت فيه تاريخ تأسيسها وسكانها، والحضارات التي تعاقبت عليها، وسلطت الضوء على البناء الاجتماعي والموروث الثقافي للقرارة، وأفردت جزءا هاما عن طقوس شهر رمضان في هذه المدينة. وعرضت هذا الفيلم على شاشتها تحت عنوان “رمضان في الجزائر”.

مدينة القرارة.. امتداد لألف عام من التاريخ الحي في وادي مزاب

يقول عبد الله حريز، رئيس جمعية إحياء التراث وحماية الآثار: عندما نتحدث عن تاريخ مدينة القرارة فلا بد لنا من أن نتطرق إلى تاريخ وادي مزاب، فلقد كان هذا الوادي مأهولا منذ عصور ما قبل التاريخ، إذ يمكنك أن تجد بعض النقوش الأثرية والقرى القديمة، ثم جاءت حقبة الإسلام التي ظهرت فيها المدن الحالية مثل تاجنينت، وآت بونور، وتاغردايت.

وقد تأسست القرارة في القرن الـ17، وهي امتداد لقصور وادي مزاب التي بدأ تأسيسها بمدينة تاجنينت في 1012م، وأصل اسم القرارة أمازيغي، من اللفظ “إيغرارن”، ويعني مجموعة هضاب تحيط بسهل صحرواي، وهنالك مناطق أخرى تضاريسها مشابهة تسمى “الغارة”. وذهب بعضهم إلى أن الاسم له أصل عربي، وهو مأخوذ من “قرارة الوادي” أي أسفله.

معمار القرارة.. فن عريق تعانقه العمارة الإسلامية

يتحدث الشيخ سعيد حمودي -وهو عضو حلقة العزّابة في القرارة- عن المجتمع المزابي، فيقول إنه يقوم على نظام قبلي، وهي الفطرة التي كانت عليها المجتمعات الإنسانية قبل الثورة الصناعية، وعندما جاء الإسلام وجّه هذه الروابط للمزيد من الخير وإشاعة الفضيلة، والأسرة في وادي مزاب كبيرة وممتدة، تشمل الأجداد والآباء والأحفاد معا، على عكس الأسر المدنية، فعادة ما تكون صغيرة لا تزيد على الوالدين وصغار الأبناء.

الشيخ سعيد حمودي، عضو حلقة العزّابة في القرارة

وتتميز القرارة بهندستها المعمارية المزابية التي تعود إلى ما قبل الفتح الإسلامي بقرون، فالقصور البربرية كانت ممتدة من المغرب الأقصى وحتى واحة سيوة بمصر، والبربري حضري بطبيعته، وقد تعلم بناء المساكن وتأسيس المدن منذ القدم. وابتداء من القرن الـ10 ظهر تأثير العمارة الإسلامية على المساكن المزابية.

العمارة المزابية في القرارة تحفظ حقوق الجار وتراعي حرماته، وتتجنب حجب الشمس والهواء عنه

وتحترم العمارة المزابية مبادئ الإسلام في حفظ حقوق الجار ومراعاة حرماته، وعدم حجب الشمس والهواء عنه. وكذلك تراعي التأقلم المناخي، فتُوجَّه المنازل للاستفادة القصوى من ضوء الشمس والهواء، وبهذا تراعي العمارة المزابية الظروف الاجتماعية والدينية والمناخية، وفي العمارة المزابية يكون المسجد في أعلى نقطة بالمدينة تعظيما لمكانته، وأيضا لأنه مقر لجنة العزابة.

مجلس العزابة.. جماعة الحل والعقد في المجتمع المسجدي

يمثل مجلس العزابة الهيئة الروحية التي تشرف على المجتمع المزابي، واللجنة الدينية التي تشرف على الأوقاف، لتنفيذ التوجيهات العامة الصادرة من المسجد، وهي صمام الأمان في فض النزاعات بين العشائر والأسر.

والعشيرة مجموعة من العائلات تلتقي عند جدّ واحد، ولهذه العشيرة كيانها ولجانها ونظامها الإداري، ولها أنشطة تهتم بالشباب والمرأة وسائر مكونات المجتمع، ولها اهتمامات تربوية ومجتمعية، وتقوم بتنظيم المآتم والأعراس والتوجيه العام.

مجلس العزابة هو رأس هرم المجتمع المزابي في مدينة القرارة

فالمجتمع المزابي مبني على هيكل هرمي، فيبدأ بالأسرة ثم العائلة فالعشيرة ثم مجلس الأعيان ثم مجلس العزابة، وهو ما يسميه المصلح الجزائري الكبير الشيخ بيوض رحمه الله بالمجتمع المسجدي، فالمسجد فيه يمثل رأس الهرم ورأس التوجيه، وهو الحاضن والحامي لوحدة المجتمع من التشتت والتصدع.

رائحة الحضارات.. بقايا من بصمات العابرين منذ القدم

تأثر الموروث الثقافي للإنسان المزابي، وللجزائر والشمال الأفريقي عموما، بجميع الحضارات التي عاشت هنا، بدءا من السكان الأصليين الأمازيغ، ثم الشعوب التي احتلت المنطقة كالرومان والفنيقيين والوندال، ثم الحقبة التركية العثمانية فالاحتلال الفرنسي، وحتى بعد الاستقلال، نتيجة تواصل الشعب المزابي مع الثقافات والحضارات الأخرى.

البناء التقليدي للحارات الداخلية في مدينة القرارة

فالسروال التقليدي موجود في المشرق العربي كما في المغرب، والأغلب أنه جاء في الحقبة التركية، وكذلك الجلباب الذي يسمى “آحولي” أو “بوعوينة” فهو موجود في معظم شمال أفريقيا، وكذا العمامة والقلنسوة. والتشابه موجود كذلك في مجالات أخرى كالمعمار والاحتفالات وصناعة الحليّ.

رمضان في القرارة.. عناية خاصة بالزينة وبيوت الله

لرمضان في القرارة مميزاته وأجواؤه الخاصة، والكل هنا- صغارا وكبارا- يتمنى لقاءه، فهو ينظم حياة الإنسان، من حيث الطعام والشراب والعمل، وكذلك برنامج صلواته في المسجد، ولذا تلاحظ إقبالا كبيرا على المساجد في رمضان. ومن مظاهر العناية الخاصة برمضان تحضير المسجد بطلائه وتزيينه، وإعداد حملات تطوعية من النساء لغسل الفُرش والحصائر في المسجد.

في رمضان، يتوجه الناس إلى السوق الكبير في القرارة لشراء حاجياتهم الرمضانية

وفي رمضان يقبل الناس على تفصيل الملابس الجديدة، وشراء الأحذية الجديدة وإصلاح القديم منها، استعدادا مبكرا لاستقبال عيد الفطر، وتزدهر كذلك صناعة وإصلاح الحليّ وأدوات الزينة، ويشتري الناس أواني الطبخ الجديدة ويصلحون التالف منها.

في رمضان يقبل الناس على تفصيل الملابس الجديدة، وشراء الأحذية الجديدة وإصلاح القديم منها

يقول صالح منصوري، وهو عضو جمعية إحياء التراث وحماية الآثار: يتوجه الناس خلال رمضان إلى أعمالهم باكرا، ولا سيما الفلاحون، فيبدؤون العمل بعد صلاة الفجر، ويعودون مع حلول الضحى، وبعد صلاة الظهر يستريح الناس في وقت القيلولة، وبعد صلاة العصر يتوجهون إلى الأسواق لقضاء حاجاتهم، وبعضهم يلزم المسجد لتلاوة القرآن الكريم.

ازدهار التجارة.. نشاط اقتصادي من بركات الشهر الكريم

في رمضان تكون التجارة أكثر ازدهارا من باقي أيام السنة، ويتركز الطلب أكثر على المواد الغذائية من الحليب والتمر والخبز، حيث يكون الإقبال على شراء المواد الغذائية أكثر نشاطا من باقي المجالات.

وقديما، كانت أكلة “زيريزا” هي الطعام الرئيسي للمسافرين، لطول مدة صلاحيتها، وهي تصنع من التمر والسميد والسمن، وكلها أغذية مفيدة للجسم، وما يزال أهل القرارة يقدمونها على الإفطار.

“زيريزا”، هي طعام المسافرين، وتصنع من التمر والسميد والسمن

أما الإقبال على الحلويات في القرارة فيعد متوسطا وليس كبيرا، ويشتريها الناس في رمضان مثل باقي أيام السنة، ويفضلون تناولها في أوقات السهر، ولذا تحرص محلات الحلوى على فتح أبوابها مساء.

الزلابية، حلوى تونسية تشتهر في مدينة القرارة الجزائرية

يقول علي الغديري، وهو صانع حلويات تونسية: تعلمت صنع الزلابية من والدي منذ 15 عاما، وهي حلوى تونسية مشهورة، وهنالك كذلك إصبع العروس واليويو، وكذا البقلاوة وقلب اللوز، وأصل أغلب هذه الحلويات من الشرق؛ من الشام وتركيا، وهناك عجينة الزلابية سائلة القوام، وتحضّر من الدقيق أو السميد، وتُقلى بالزيت الساخن، ثم توضع في العسل لتتشربه.

تفطير الصائمين.. فيض المحسنين على الفقراء في المساجد

عادة ما يرسل الناس أبناءهم محمّلين بالصدقات من التمر والخبز والحليب للمساجد، من أجل تفطير الصائمين، وهكذا يربونهم على تعظيم حرمة رمضان والعيش في أجوائه وعمارة المساجد وحب التصدق وفعل الخير، وهناك من الناس من يتخذ رمضان موعدا سنويا لتقديم زكاته وصدقاته، فيستغلون فرصة مضاعفة الأجر والثواب في رمضان، فيكثرون الصدقات في هذه المواسم الرابحة.

في ساحة المسجد الكبير بالقرارة، يتم جمع الطعام وتوزيعه على الصائمين قبيل الإفطار

ويرسل الناس صدقاتهم من الخبز والتمر والحليب، وتُجمع في ساحة المسجد الكبير لتوزيعها على الصائمين قبيل الإفطار، وتعطى حصتان لقرّاء القرآن في المجلس اليومي، مقابل حصة واحدة لبقية الصائمين، والفقير الذي لا يملك ما يشتري به إفطار يومه يتوجه إلى المسجد، فيجد من صدقات المحسنين ما يغنيه من الحليب والتمر والخبز.

وعن الأذان يتحدث الشيخ باحمد الحاج عاشور، مؤذن القرارة: بدأت أرفع الأذان منذ عام 1979، ففي ذلك الوقت كان هنالك مسجد واحد في المدينة، وحين أنشئ مسجد “بابهون” ربطنا المسجدين بسلك صوتي من أجل توحيد الأذان، لأن وجود عدد من المؤذنين سيؤدي إلى تفاوت وقت رفع الأذان، مما سيحدث إرباكا للصائمين والمصلين.

الشيخ باحمد الحاج عاشور، مؤذن ومؤقت مسجد القرارة الكبير منذ عام 1979

ثم يقول: وقد وفقنا الله لتوحيد الأذان، من أجل توحيد أوقات الإمساك والفطر والصلاة. وأنا أفضّل -خلال رمضان- أن أتحقق بعيني من غروب الشمس بدل الاعتماد على المواقيت الرسمية ورزنامة الأذان، فأجلس في مكان مرتفع لمراقبة الشمس.

قرع الطبول وإغلاق المحلات.. تقاليد عريقة

من عادة الأطفال في القرارة أنهم فور سماعهم إطلاق بارود الإفطار، يعتلون أسطح المنازل ويجوبون الطرقات، وهم ينقرون على طبولهم الصغيرة والعلب الفارغة والأواني، لتنبيه الناس إلى دخول وقت الإفطار. ويقال إن هذه العادة تعود لأيام الاحتلال الفرنسي، فقد منع الفرنسيون إطلاق مدفع الإفطار، فطلب الأهالي من أطفالهم قرع الطبول والأواني الفارغة في الشوارع بعد الأذان.

وهذه العادة تنسحب على إعلان حلول شهر رمضان وشوال كذلك، ففي الماضي كان أهل القرارة يراقبون الهلال، ولدى ثبوت رؤيته يطلب المشايخ من تلاميذهم قرع طبولهم في الأزقة والأحياء.

من عادات رمضان في قرارة الجزائر، قرع الأطفال على الأبواب والجدران إيذانا بدخول وقت المغرب

وخلال رمضان تصدر حلقة العزابة قرارا بإغلاق المحلات التجارية من صلاة المغرب حتى انتهاء صلاة التراويح، لكيلا ينشغل الناس عن صلوات المغرب والعشاء والتراويح وحضور الدروس الدينية في العقيدة والفقه والمعاملات، وهذا يعين على عمارة المساجد، ويعين الناس على مضاعفة الأجر والثواب في هذا الشهر الكريم.

عيد الفطر.. عودة المغتربين للاحتفاء بالمناسبة المهيبة

خلال شهر رمضان المبارك، يتلى القرآن كاملا، ويتلوه الناس فرادى وجماعات في المساجد والبيوت على مدار 24 ساعة، في أجواء روحانية لا توصف، مما يدخل السعادة والفرحة إلى القلوب المتعطشة لذكر الله سبحانه. وفي رمضان تقام الاحتفالات الدينية وحلقات الإنشاد، وقد كان لوادي مزاب قصب السبق في إطلاقها منذ أربعينيات القرن الماضي.

في صلاة التراويح يحرص أهل القرارة بالجزائر على لبس الثياب البيضاء فقط

وقبيل العيد يقبل الناس على تفصيل الثياب الجديدة كالجبب والعمائم والسراويل، وكذلك يشترون مستلزمات الحلوى والكعك. وخلال الأسبوع الأخير من رمضان يعود كثير من المغتربين إلى القرارة، ليقضوا أواخر رمضان والعيد مع عائلاتهم وأقاربهم.

بعد صلاة العيد في مدينة القرارة بالجزائر يسير المصلون في طرقات المدينة يتقدمهم العلماء

أما صلاة العيد فتجمع أهل المدينة أو القرية كلها، ولا تقتصر على الأحياء فقط، في منظر مهيب يخطف الألباب، فيلبس الرجال لباسا أبيض موحدا، ويجتمعون على صعيد واحد، ويستمعون لخطبة واحدة، ويؤمهم إمام واحد، وهذا مظهر جليّ من مظاهر وحدة المسلمين، ومثال واضح للمساواة بين جميع طبقات المجتمع، من الفقراء والأغنياء والسادة والعامة والمتعلمين والأميين.