الغنوشي شيخ النهضة.. رحلة المنافي والسجون إلى دواليب السلطة

أمين حبلّا

عندما وطأت قدماه من جديد مطار قرطاج الدولي سنة 2011، كان نسيمٌ آخر من رياح الوطن يستقبل الشيخ راشد الغنوشي، رائحةُ الأرض والهواء والوجوه مختلفة تماما عن تلك التي ودّعته قبل أكثر من عشرين عاما عندما خرج من تونس خائفا يترقب، بعد أن سلخ من عمره سنوات طويلة من السجن وسَجل في دفاتر الذكرى أحكاما كثيرة بفترات متعددة من السجن وتهما متضاربة ومتآلفة يجمع بينها أنه مغضوب عليه من نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، وأنه ساع لإقامة بنية إسلامية مناقضة لما يسمح به نظام الحبيب والزين من فهم وتطبيق للإسلام.

بات الرجل خلال فترة وجيزة أحد بوابي تونس بعد أن كان مطرودا من أبوابها، بل أصبح أحد مفاتيح السياسة والحكم في تونس الخضراء بعد أن أسقطت ثورة الياسمين أسوار الخوف في تونس، وأسقطت معها الرئيس ابن علي وعائلة الطرابلسي، وبدأت تُسقط كثيرا من ميراث اللائكية (العلمانية الفرنسية) التي كانت حاكمة وخصوصا ما يتعلق بخنقها للحرية من حيث تدعي أنها تمارسها وتدافع عنها.

ابن الثمانين حولا لم يحتج بعد إلى ترجمان كي يفهم توجهات وخيارات الشعب التونسي، وما زال قادرا على التكيف مع موجات وظروف مختلفة، ومن أجل ذلك اتهمه خصوم سياسيون وفكريون مختلفون بأنه براغماتي إلى حد بعيد، ورأى فيه إسلاميون سلفيون رجلا يضيّق المسافة بسرعة لا متناهية بين الإسلام والعلمانية.

وبين هذا وذاك، شق الرجل طريقه ولا يزال مستمرا، يعتقد وهو يطل على العالم من نظارات سميكة أنه هو وإخوانه في النهضة يملكون قدرة على قراءة أوراق تونس لكنهم لا يملكون معجزة لتغييرها، بقدر ما يملكون أميالا من الأمل والتخطيط ومغالبة الواقع الذي لم يبتعد كثيرا عن عهد الزين.

بعد رحيل زين العابدين أعادت قوى داخلية وخارجية غرس مخالبها في جسد تونس الخضراء، سعيا للحفاظ على المصالح وسعيا لكسب نقاط قوة جديدة.

وضمن هذا التزاحم في الأضداد والمتناقضات بدأ الغنوشي ورفاقه يستعيدون الشرعية القانونية سعيا إلى كسب الشرعية الانتخابية التي مارست معهم مدا وجزرا، وإقبالا وتراجعا.

قبل ذلك كان الغنوشي قد مارس طفولات الحياة وترانيم الصبا في ظلال الحقول والمزارع ابنا لفلاحين منغرسين في الأرض وقيمها وتراثها الإسلامي.

في سنة 1941، استنشق عبير الحياة الأول في مدينة الحامة بولاية قابس، وإلى قابس ينتمي عدد من رموز المذهب المالكي الذي كانت تونس أحد أهم معاقله؛ ومن هؤلاء أبو الحسن القابسي المعروف بالذكاء والتوقد وخدمة التشريع الإسلامي عبر البوابة المالكية.

كان والد الغنوشي حريصا على أن يتلقى أبناؤه ثقافة إسلامية وعصرية، ولذلك حفظ أبناؤه القرآن مبكرا، وانخرطوا في دراسات عصرية متعددة مكنتهم من الحصول على شهادات عليا في تخصصات متعددة.

أتم الغنوشي دراساته الإسلامية في مراحلها الابتدائية في مدينة الحامة، ثم انتقل بعد ذلك إلى قابس لإكمال دراسته الثانوية في تخصصات شرعية، ومنها انطلق إلى الزيتونة حيث حصل على شهادة جامعية في المعارف الإسلامية، ومنها انتقل إلى حقل التعليم الذي مارسه طيلة سنتين، وبعدها أخذ مسارا آخر مع انتقاله إلى مصر لدراسة تخصص جديد هو الزراعة، وذلك مع بداية العام 1964.

 

إعادة اكتشاف الإسلام

في حياة الغنوشي محطات متعددة من السعي والطواف بين اتجاهات الفكر، حيث تحول في فترة دراسته في مصر -والتي لم تطل كثيرا- إلى الناصرية. لقد كان هذا الفتى القابسي قادما إلى أرض الكنانة بأشواق ناصرية كبيرة، سرعان ما وجدت الاحتضان في مصر قبل أن تتأرجح العقيدة الفكرية لابن الزيتونة من جديد تحت لهيب النكسة المضطربة.

انتقل الغنوشي بعد فترة وجيزة من إقامته في مصر إلى دمشق حيث درس هنالك ثلاث سنوات، ولكن في تخصص آخر هو الفلسفة التي حصل فيها على إجازة جامعية سنة 1968، ومن دمشق الأموية الأيوبية انتقل الغنوشي إلى باريس ليبدأ أيضا رحلة أخرى.

يؤكد الغنوشي في ما كَتب عن نفسه أو ما كُتب عنه أو نُقل من أحاديث، أنه أعاد اكتشاف الإسلام، بل أعاد دخوله من جديد، وذلك بعد أن اهتزت أسوار تجربته الفكرية تحت انسيابية فكر الإخوان المسلمين وخصوصا كتابات حسن البنا وسيد قطب وسعيد حوى ومحمد الغزالي، وكذا رموز السلفية القديمة مثل ابن تيمية وابن القيم.

ثم جاءت النكسة لتهز أركان الناصرية في قلوب وعقول طوائف متعددة من الشباب العربي انطلق بعضهم نحو التيار الماركسي، وآخرون انطلقوا إلى محاريب الحركات الإسلامية، وآخرون جثمت عليهم النكسة وطلّقوا العمل السياسي البتة.

بدأ الغنوشي عمليا يأخذ الفكر الإسلامي كتجربة جديدة، وفي فرنسا التي وصلها سنة 1968، بدأ تجربة روحية جديدة في بلاد الأنوار والأضواء عبر جماعة الدعوة والتبليغ التي كانت ناشئة في تلك الفترة.

وجد فيها الغنوشي ملاذا لأشواقه الروحية وبردا وسلاما لغرام النفس وأسئلتها الوجدانية، ولكن عمقه الفلسفي الذي راكمه خلال دراسته الدمشقية أطل بقوة وبدأ يبحث عن قوة وإطار إسلامي يضخ في شرايينها أزمات تونس وآمالها وآلامها، أو بعبارة أخرى فكر يضخه في الشرايين التونسية.

في معلمة الفكر والعلم الفرنسية جامعة السوربون؛ أخذ الغنوشي دروسه الجديدة في التخصص العالي في الفلسفة، كما أصبح أحد الأسماء الدعوية المشهورة في أوساط الطلاب والمغتربين العرب وخصوصا من المغرب وشمال أفريقيا.

ومن مفارقات الأقدار أن زميله في الفكر والتوجه حسن بن عبد الله الترابي كان أيضا في فرنسا في الفترة نفسها دارسا للقانون. ويؤكد بعض المفكرين والشخصيات الإسلامية أن الشابين المفكرين الغنوشي والترابي كان لهما دور كبير في بداية السبعينيات في توجيه بوصلة أجيال كبيرة من الطلاب العرب المغتربين نحو الإسلام.

تعرّف الغنوشي عبر السوربون والمجتمع الفرنسي على قيم متعددة مثل الحرية والديمقراطية، وسعى جاهدا بقية حياته إلى توطينها في بيئات عربية آمنت منذ حقب عديدة بالطغيان وقبضة السلطة الحديدية وكفرت بنصوصها الدينية التي تعلي من شأن الحرية وكرامة الإنسان.. لقد أعاد الغنوشي في قراءته الجديدة للإسلام تثوير تلك النصوص في مواجهة دكتاتورية تستخدم الدين ضمن سياط متعددة تجلد بها ظهور الأجيال والزمن.

 

حركة الاتجاه الإسلامي

مع بداية عقد الستينيات كان الحبيب بورقيبة قد وصل إلى قناعة بأن العلمانية هي الحل الأمثل لتونس. وقد نال بورقيبة -الذي يلقب من أنصاره بالمجاهد الأكبر- كثيرا من الإطراء من الجنرال شارل ديغول الذي اعتبره شخصا جديرا بأن يتولى الحكم في جنوب فرنسا لأنه يشاطر الفرنسيين كثيرا من قيمهم وخصوصا تلك اللائكية.

كان سعي بورقيبة لفرض العلمانية صادما جدا لآلاف التونسيين الذين رأوا فيه انسلاخا من تاريخ الزيتونة والقيروان، وتنكرا لميراث قرون من الإبداع في فهم وتطبيق الإسلام، واكتشاف مرونته وسعته.

ويرى البعض أن بورقيبة وبمراوغة سياسية وبسبب وجود أقطاب سياسية مناوئة لفكره العلماني داخل الحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم؛ انفتح بمستوى بسيط على القيم الإسلامية، وتحركت في تونس ظاهرة بناء المساجد وإقامة المنشآت الإسلامية.

وخلال ذلك وجد الغنوشي وعدد من رفاقه من بينهم عبد الفتاح مورو وحميدة النيفر وآخرون فرصة للتعاطي مع الشباب عن قرب.

ومع بداية السبعينيات بدأت خيوط البناء التنظيمي للجماعة الإسلامية في تونس تلتقي إلى أن تم تأسيسها سنة 1972 وحضر اجتماعها التأسيسي أربعون شخصا في لقاء سري، ثم واصلت مسارها إلى سنة 1980 حيث تم تغيير اسمها من الجماعة الإسلامية إلى حركة الاتجاه الإسلامي، وبدأت تستعد للإعلان عن نفسها ومواجهة الأضواء والأوضاع والسلطة.

قبل ذلك كان الغنوشي ورفاقه قد بدؤوا إصدار صحيفة “المعرفة” التي كانت واجهة فكرية ولسان حال بالنسبة لهذا التيار الإسلامي الناشئ، ولم تخف “المعرفة” سخطها على التوجهات العلمانية لنظام بورقيبة، وشيئا فشيئا أصبحت صحيفة “المعرفة” إحدى أهم المطبوعات في تونس.

ومع ارتفاع حدة “المعرفة” لم تجد السلطات بدا من إغلاقها في محاولة لإسكات صوتٍ كان القدر قد كتب له أن ينطق ويتحدث ويكتب في منابر ومحابر وأسئلة ومحاور متعددة تعدد أزمات تونس وآمالها.

في العام 1980 أعلن الغنوشي ورفيقه عبد الفتاح مورو تأسيس حركة الاتجاه الإسلامي رسميا في مؤتمر صحفي بالعاصمة تونس، وقد بادرت سلطة بورقيبة إلى اعتقال المجموعة واتهامها بالسعي لقلب النظام، فبورقيبة المتقدم في السن لم يعد وقتها يصبر على الانتقاد.

 

رحلة السجون والمنافي

مع بداية الثمانينيات بدأت محنة الغنوشي مع السجون، فقد حُكم عليه سنة 1981 بالسجن 11 سنة قضى منها ثلاثا كاملة قبل أن يُفرج عنه بداية 1984 في إطار عفو عام.

ولم تطل فترة الانتظار خارج السجن حتى زُج به من جديد في السجن سنة 1987، وحكم عليه بالأشغال الشاقة مع المؤبد. وكان بورقيبة يومها قد وصل مرحلة شديدة من الحنق على الغنوشي، فطلب من النيابة العامة رفع الحكم إلى الإعدام، وهو ما كان بالفعل ولكن لم يتم التنفيذ، لأن رفاق الحبيب بورقيبة كانوا قد قرروا التخلص من “المجاهد الأكبر” عبر انقلاب 1987 الذي وصل بموجبه العقيد زين العابدين بن علي إلى سدة الحكم.

خرج الغنوشي من السجن وأطلق تصريحات إيجابية تجاه السلطات وتوجهاتها السياسية والاجتماعية، وأرسل رسائل متعددة لطمأنة النظام الجديد بأن حركة الاتجاه الإسلامي لا تنوي اختراق الجيش ولا الأمن ولا تريد غير العمل تحت سقف القانون.

غير أن سقف القانون كان منخفضا جدا ولم يسمح للحركة بالترخيص بعد أن غيّرت اسمها إلى حركة النهضة سنة 1989، وهكذا اتضح أن المواجهة لا تزال مستمرة بين السلطة وإخوان الغنوشي.

استطاع الغنوشي الخروج من تونس بعد أن بدأت المضايقات تطال قادة الحركة ومناضليها، وبعد أن اتسعت السجون لأكثر من 30 ألف نهضوي.

كان الحج هو بوابة الرجل نحو الهرب من تونس الغاضبة والرافضة “للنهضويين”، وبعد الحج انطلق إلى السودان التي كانت يومها قبلة للإسلاميين المطاردين، ومن السودان انطلق إلى بريطانيا التي نال فيها حق اللجوء بداية التسعينيات ليبدأ رحلة منفى اضطراري جعلت منه أحد أهم الأصوات العربية في المنفى وأكثر خصوم زين العابدين قسوة في تعرية ممارسات الظلم.

كان الوداع التونسي للغنوشي قاسيا، ولم يكن أقل من حكم قضائي له بالمؤبد والأشغال الشاقة مع المئات من أبناء النهضة بتهمة التخطيط لقلب النظام.

 

رحلة الحرية والثورة

في سنة 2011 سقط نظام زين العابدين بن علي، وبدأت تونس تـأخذ وجها جديدا، وكان الغنوشي أبرز الأسارير المتهللة على جبين الخضراء التي بدأت تمسح عن وجهها غضون سنين الزين.

حصل الغنوشي سريعا على ترخيص حزب حركة النضهة، وبدأ الاستعداد لانتخابات المجلس التأسيسي التونسي الذي وكل إليه إعادة البناء الدستوري لتونس الجديدة.

فيما كان حجم نواب الحركة كفيلا بمنحها حق تشكيل الحكومة، وهو ما تم مع انحناءة لعاصفة الجماهير، ولم تترشح الحركة لمنصب الرئاسة.

منذ العام 2011 وحتى 2019 مرت تونس بأحوال واضطرابات عديدة ونهضات وكبوات متعددة، وعاد سؤال الأمن يدق بقوة كثيرا من الأبواب والمنافذ التونسية، مع نشأة تيار سلفي متشدد يحمل السلاح ضد الدولة بقوة ضاربة، كما عادت أسئلة التنمية والتشغيل ومطارحات الدستور وحقوق المرأة والحريات العامة تدق بقوة ضمن ضجيج المشهد التونسي.

بعد سنوات قليلة بدأ الربيع العربي يتحول إلى صيف ماحق، حيث استطاعت الثورة المضادة في مصر وليبيا وسوريا إيقاف الربيع وحرق كثير من مراكبه.

انحنى الغنوشي ورفاقه للعاصفة، واستطاعوا رفقة أحزاب وقوى تونسية أخرى تجنيب الخضراء عاصفة دم الربيع الثانية، لكن الغنوشي كان صارما وأكد بقوة أن “إسلاميي تونس لن يتم القضاء عليهم بذات الطريقة التي تمت في مصر، ولن يقبلوا ذلك الأسلوب”.. وقرئت الرسالة في عواصم عربية وغربية متعددة.

استطاعت تونس العبور إلى الأمان عبر سلسلة من الأزمات والاضطرابات، وظلت حركة النهضة تتراجع شيئا فشيئا من حيث زخم الأصوات قبل أن يحل مرشحها للرئاسة عبد الفتاح مورو في الرتبة الثالثة بعد عاصفة قيس سعيّد، لكن الغنوشي عاد من جديد لمعادلة الكفة حيث قاد الحركة إلى تحقيق الرقم الأول من حيث أعضاء المجلس النيابي، مما يجعله المرشح الأوفر حظا لقيادة الحكومة في المرحلة القادمة.

 

نصير الحرية

يصنف الغنوشي على أنه نصير الحرية، أو أنه أحد أركان الحرية في العالم العربي، ينحاز إلى الحرية فكرا وممارسة، وقد خصص لمفهوم الحرية وتطبيقاتها الدستورية في الدولة الإسلامية كتبا ومحاضرات ومقالات كثيرة من إنتاجه الفكري الثري.

ترك الغنوشي لحد الآن حصيلة فكرية عميقة ومتعددة وإن كان ضابطها العام هو أسئلة الحكم والديمقراطية والحريات العامة وحقوق الإنسان في الإسلام.

الغنوشي وهو يتوكأ على التاسعة والسبعين من عمره فاز برئاسة البرلمان، وهو أيضا متهم من بعض أنصاره بأنه قابض على تفاصيل الحركة، وأن إيمانه بالديمقراطية والتعددية لم يتجل لحد الآن في تناوب سلمي على رئاسة النهضة.

كما أنه متهم أيضا من قبل بعض شركائه من علمانيي تونس بالتلوّن وتغليب مصلحة النهضة على مواثيق التحالفات السياسية. أما التيارات الإسلامية السلفية فلا ترى في الغنوشي غير شخص علماني بلحية وخطاب يفتتحه بالبسملة.

وبين هؤلاء وأولئك يبقى راشد الغنوشي أحد أبرز الأسماء التي تركت بصمات متعددة على تاريخ تونس المعاصر، بل وتاريخ الفكر والممارسة السياسية في العالم العربي.