“رضا الباهي” .. محطات الهواية والاغتراب

رضا الباهي
 
وسيم القربي
 
رضا الباهي هو أحد الأسماء البارزة في السينما التونسية، وهو صاحب مشروع حاول من خلاله أن يقترح ملامح إجابة عن الإشكاليات المقلقة في الوجود الثقافي والاجتماعي، بل إنّه أحد الأسماء الرائدة في مسار البحث عن تأصيل ملامح سينمائية في تونس إلى جانب الناصر خمير والنوري بوزيد والطيب الوحيشي ومفيدة التلاتلي وفريد بوغدير وغيرهم. لقد عاش رضا الباهي بعضا من قلق الانتساب الثقافي المزدوج وهو ما سعى إلى عكسه في أفلامه وآخرها فيلم “زهرة حلب” الذي افتتح به أيام قرطاج السينمائية والمرشح لعدّة مهرجانات دولية أبرزها مهرجان برلين، بالإضافة إلى ترشيح الفيلم لجائزة الكرة الذهبية (الغولدن غلوب).
 
ينتمي رضا الباهي إلى الموجة الأولى من السينمائيين التونسيين، فهو مخرج وكاتب سيناريو، ومنتج، من مواليد 07 أوت 1947 بالقيروان. انطلقت مسيرته السينمائية في إطار نادي السينمائيين الهواة بعاصمة الأغالبة من خلال فيلمي “المرأة التمثال” و”العتبات الممنوعة”. تابع دراسته في علم الإجتماع وحصل على شهادة الدكتوراه في السوسيولوجيا من المدرسة التطبيقية للدراسات العليا بباريس.
 
تدرج الباهي من الهواية إلى الاحتراف، فأفرزت تجربته السينمائية على امتداد أربعين سنة فيلموغرافيا مكوّنة من قرابة عشرة أفلام متأرجحا بين النجاحات وبين الإخفاقات، وقد تعامل طوال مسيرته مع ممثلين معروفين أمثال “بن قزارة” و”جولي كريستي” وباتريك برويال”… ويعتبر الباهي من أكثر المخرجيين السينمائيين التونسيين استقرارا على مستوى الإنتاج، ومن أهم السينمائيين المعروفين لدى الغرب من خلال تعامله معهم على مستوى الإنتاج. بالإضافة إلى الأعمال السينمائية التي أحرزت العديد من الجوائز ، أنجز الباهي عدّة أشرطة وثائقية لفائدة قناة الجزيرة.
 
رضا الباهي ومسارات التجربة الخاصة
 
لم تتأسس مسيرة الباهي الإبداعية من العدم، بل كانت نتاجا لسيرورة رؤى وتصورات ساهمت في تأسيسها، وبناء خصوصيتها الفنية والفكرية.  لقد انبنت خصوصية التجربة على مرتكزات جمالية  جاءت عبر صيغ تعبيرية وأسلوب عالج به العديد من الإشكاليات العميقة في المجال السينمائي التونسي، عبر تناول قضايا شائكة ورؤية ذاتية لتونس وللعالم. انشغالات الباهي التي حققت وجودها الفعلي من خلال التعامل مع الواقع بشكل مختلف ومتميز، سمحت بتمييز خصوصية أسست لبناء تجربة خاصة ارتسمت عبر مسارات عديدة نستعرضها في ما يلي:
 
• محطة الستينيات: محطة التكوين والانطلاق في الممارسة السينمائية
شكلت ستينيات القرن الماضي، بالنسبة لرضا الباهي، محطة لتلقي أبجديات السينما عبر الانخراط في نادي القيروان المنضوي تحت لواء الجامعة التونسية للسينمائيين الهواة. لقد كانت سينما الهواة فرصة لممارسة تجارب سينمائية جادة، والتعرف عن قرب عن الساحة السينمائية وتلقي التكوين السمعي البصري في ورشات سينما الهواة.
إثر تحصله على شهادة الباكالوريا، توجه لدراسة السوسيولوجيا في الجامعة الفرنسية، يقول الباهي في هذا الإطار:” فضّلت في ذلك الوقت دراسة علم الاجتماع على أساس أنه في تلك الفترة مرغوب فيه وممنوع وموضة… وفي نفس الوقت كنت قد تعلمت السينما في سياق الهواة، وكان تفكيري في الآن ذاته أنّي لست بحاجة إلى مدرسة للسينما”. بالرغم من دراسته لعلم الاجتماع لم يصرف رضا الباهي اهتمامه عن المجال السينمائي، بل كانت له الفرصة للتقرب أكثر من المجال من خلال مشاهدة الأفلام الأوروبية في القاعات الفرنسية والاحتكاك بالسينمائيين الفرنسيين والأجانب.
 
شمس الضباع
 
• محطة السبعينيات: من تجربة سينما الهواة إلى السينما المحترفة
لقد واصل الباهي ارتكازه على محور السياحة منتقدا سياسة الدولة آنذاك في إنشاء المنتجعات السياحية، وصوّر في فيلم “شمس الضباع” فقدان قرية بالساحل التونسي لهويتها، وتحوّل نشاط أهاليها الذي كان يعتمد على الصيد البحري ليتحول إلى نشاط سياحي خدمة للآخر. لكن الباهي مُنع من التصوير في تونس نظرا لموضوع فيلمه الذي رأت السلطة آنذاك أنه يمسّ من سياستها وتوجهاتها وهو ما جعله يغيّر مكان التصوير.
يقول الباهي: ” شمس الضباع هو نقلة، فبعد عتبات ممنوعة الذي تطرقت من خلاله للسياحة بمفهوم ضيق انطلاقا من مفهوم الحرمان الجنسي، رأيت أنّ المهزلة تصير أكبر عندما تصبح السياحة على صعيد قرية وعن طريق سياسة سياحية دولية وطنية، لتكون بالتالي موضوعا مهمّا للمعالجة”.
 
استطاع مخرج شمس الضباع أن يكشف عبر صوره عن ثقافة سينمائية عالية حيث استثمر مخياله لحبك العملية السينمائية وإبلاغ رسالته، معتمدا على إمكانياته التقنية المستمدة من تجربة “العتبات الممنوعة” الفيلمية ومستغلا في الآن ذاته مرجعياته المتولدة من صميم الأرضية الثقافية والفكرية لسينما الهواة، ووظف قضايا اجتماعية واقتصادية وسياسية مستفيدا من دراسته للسوسيولوجيا، مما أنتج صورا متجذرّة ومنطلقة من واقع اجتماعي لتونس السبعينيات. كما أنّ الأسماء التي قامت بالأدوار أمثال محمود مرسي ومحمد الحبشي… مثلت قيمة مضافة للفيلم، بالإضافة إلى الجانب الإنتاجي الذي وفّر للباهي متطلبات العمل الاحترافي على خلاف الظروف التي تمّ فيها تصوير “العتبات الممنوعة”.
 
• محطة الثمانينيات: من”الملائكة” إلى “وشم على الذاكرة”
شكّل فيلم “الملائكة”، الذي تمّ تصويره سنة 1983، خيبة لدى الأوساط الصحافية والنقدية باعتبار نسجه على منوال الأفلام الاستعراضية التجارية التي لا تتميز بأيّة قيمة فكرية وإبداعية، حيث يقول الباهي في هذا الإطار: “كانت الغاية من استعمال ممثلين مصريين تجارية بحتة باعتبار أنّ المنتج الكويتي المصري، والفيلم كانت جنسيته مصرية، وحدث نوع من الخطإ أو سوء التفاهم، فالتونسيون كانوا يعتقدون أنهم سيرون فيلما تونسيا نسبة إلى مخرجه، لكنهم فوجئوا بفيلم يتحدث باللهجة المصرية وممثلين مصريين مثل مديحة كامل وكمال الشناوي وليلى فوزي، فصارت نوع من القطيعة والجفوة. لكنّ الحقيقة التاريخية أنّ الإنتاج كان مصريّا، ولم يكن تونسيّا سوى المخرج والديكور (ضاحية سيدي بوسعيد). خطأ رضا الباهي أنّه روى قصة تقع أحداثها في تونس واعتمد على ممثلين مصريين، فالمتفرّج التونسي متعوّد على المصريين بديكور مصري، وإذا به يفاجئ بمصريين بديكور تونسي، فلو صوّرت في مصر لما صار ذلك الارتباك. لقد استعملت المصريين بناء على طلب المموّل الذي استهدف السوق المصرية، ومفتاح الدخول إلى هذه السينما هو الاعتماد على ممثلين مفاتيح أو ما يسمّى “الممثلين الشباك”، لقد كانت عملية تجارية بحتة”.
 
بعد هذه التجربة المخيبة للآمال بثلاث سنوات،  صوّر الباهي فيلمه “وشم على الذاكرة”، حيث ظلّ متشبثا بإثارة القضايا الاجتماعية التي تناولها خلال هذه التجربة من زاوية مختلفة نسبيا عن تجاربه السابقة، حيث ركّز على أحداث تدور وقائعها أثناء التاريخ الاستعماري، قبيل سنوات من الاستقلال. تجربة جاءت غنية بالدلالات والرموز، وتميزت بمضمون فكري ذي طابع إشكالي، وأكدت انخراط الباهي في سياق السينما الملتزمة.
 
• محطة التسعينيّات: من رؤية تونس إلى رؤية العالم
تميّز عقد التسعينيات بتسارع الأحداث والتطورات السياسية العالمية، من ذلك حرب الخليج وتغلغل القضية الفلسطينية، وهو ما جعلهما موضوع الساعة حيث حاول السينمائيون توثيق هذه الأحداث وتمثيلها على غرار فيلم “حرب الخليج وبعد؟” الذي شارك فيه مجموعة من السينمائيين العرب مثل ابراهيم باباي من تونس وعبد الكريم الدرقاوي من المغرب…. ومن الأفلام التي ركزت على القضية الفلسطينية، فيلم رضا الباهي “السنونو لا تموت في القدس” الذي عالج فيه بصيغة توثيقية مظاهر الانتفاضة الأولى وتداعيتها من خلال شخصية صحفي فرنسي يبحث عن أمّ فلسطينية ضائعة عن أهلها.  لقد أكّدت رؤيته خصوصيات الخطاب السينمائي الذي ترجم موقفها من الهوية العربية، محافظا في الآن ذاته على خصائص أسلوبه السينمائي. وما تجدر الإشارة إليه أنّ الفيلم لم يشذ عن سائر أفلامه السابقة، حيث أثار ضجّة بسبب رؤاه وتصوراته التي اعتبرها الكثيرون تنازلا وتبخيسا للذات الفلسطينية والعربية.
 
زهرة حلب
 
• محطة العشرية الأولى: مراحل السيرة الذاتية
في سنة 2003 أخرج الباهي فيلم “صندوق عجب” الموجّه للعرض في التلفزيون التونسي، وقد استعرض خلاله، بصيغة أو بأخرى، مراحل متعددة من سيرته الذاتية، حيث عاد به الحنين إلى مدينة المولد والنشأة، القيروان، وبداياته في السينما موظفا رؤيته السينمائية الخاصة ومرتكزا على المتخيل الفيلمي. لقد أتت صُور الباهي السينمائية حاملة لمواصفات من الواقع التونسي المعاش التي تنوعت باختلاف المراحل التاريخية التي جسّدها بأدوات تعبيرية ولغة سينمائية خاصة. حينما يصبح الحديث عن السينما منطلقا من صميم الممارسة، وتتأسس تجربة هذا الفيلم على المادة الواقعية، ليصبح الإبداع تمثلا للواقع الذي يستجيب لمدينة القيروان، وعائلة السينمائي، وفترة ما من تاريخ تونس… أسلوب، واختيارات جعلت من المكونات الجمالية والفكرية التقنية استراتيجية لبناء المتن الفيلمي حسب خط سردي خاص.
 
• محطة العشرية الثانية: من الغرب إلى الشرق
سنة 2006 حصل الباهي على منحة إنتاجية ضخمة لتصوير فيلم “بروندو” لكنّ وفاة الممثل الأمريكي مارلين بروندو عجّل بإجهاض المشروع الفيلمي. لكن بالرغم من الإحباطات التي عاشها، تمسّك رضا الباهي بإنجاز الفيلم دفعه إلى إخراج الفيلم سنة 2011 فعنونه بـ “بروندو… أو عندما تسقط النجوم”.
بعد سلسلة من الأشرطة الوثائقية التلفزيونية، انتقل الباهي من أحلام الهجرة الأمريكية إلى معالجة قضية الربيع العربي فاستقرّ بفيلمه “زهرة حلب” في غياهب ضبابية لشاب تونسي يقرّر الالتحاق “للجهاد” بالأراضي السورية… 
 
تجربة الباهي هي وليدة تجربة نوادي الهواة، وهي تجربة محددة بالخضوع للقلق الثقافي المتضخم وهكذا كان لثقافة الأندية السينمائية وآراء روادها والفاعلين الكبار فيها كالراحل الطاهر شريعة أن طبعوا الوعي الإبداعي في الحقل ببصمات رائدة أقنعت مجموعة من المبدعين بأن السينما بتونس إما أن تنشغل بالإشكالات القوية والقلق الثقافي والجمالي وإمّا أن لا تكون.