المالح.. شيخ الشباب

يامن محمد

نبيل المالح، مخرج سوري آخر، غادرنا في 24-2-2016

لعل الصفعة التى تلقاها المالح وهو في سن مبكرة من حياته من عسكري في حديقة شعبية قلبت حياته رأساً على عقب، فيقول عنها: «هذه الصفعة علّمتني أن أكره البزة العسكرية إلى الأبد»، ولكنها كانت بمثابة قوة داخلية ممانعة ضد كل ما هو غير إنساني وتجعله يتحمل مرات عديدة قسوة الاعتقال وصعوبته قبل أن يسافر خارج سوريا.

بدأ نبيل المالح، مع انطلاقة السينما في بلده سوريا بتجربة من العيار الثقيل في حينها، بإنجازه فيلم “الفهد” 1972عن رواية للروائي “حيدر حيدر” وهو من أوائل انتاجات المؤسسة العامة للسينما في سوريا. في السنوات الأخيرة زاد المالح من ظهوره الإعلامي بعد بدء الحراك العربي الجديد ابتداءً من تونس 2010. عندما بدأ المخاض العسير في بلده سورية انحاز إلى الناس دون تردد، متخذاً موقفاً حاسماً دفع ثمنه -على الأقل- أن تكون غيبته الأخيرة خارج مدينته التي أحب وبلده. عشرات الأفلام والسيناريوهات في رصيد المالح، لم تجعله يخشى شيئاً، لم تنجح قوة السلطة في ترويضه ولا كبر سنه، يبدو الشباب المتجدد هنا كثورة دائمة تسكنها روح فنان وضع نفسه بكامل وعيه على محك امتحان عسير يسائله عن قوله/فنه وعلاقته بالممارسة اليومية والحياة الواقعية، في حين تملص كثيرون من هذا المأزق بعد بدء الثورات العربية، بتخاذل واضح أو بصمت متواطئ، وإذ بدأنا متحدثين هنا عما يبدو أنه قضية غير ذات صلة وطيدة ومباشرة بتوصيفه كمخرج سينمائي أي بالتطرق إلى تلك المواصفات والمواقف الشخصية، إلا أن ذلك  تحديداً ما يوجبه صدق المقاربة وسبر غور تجربة سينمائية مديدة تتميز بعلاقة جدلية مع الواقع الاجتاعي والسياسي كتجربة المالح.

فيلم نبيل المالح التسجيلي المثير للاهتمام «البحث عن شيخ الشباب»

قبل حوالي عشر سنوات عرض المالح فيلمه التسجيلي “مخرج يبحث عن شيخ الشباب” في إحدى النوادي السينمائية في دمشق، قدمه إلى جمهور غالبيته العظمى من الشباب، في هذا الفيلم يتطرق المالح إلى شخصية دمشقية عريقة هي السياسي والشاعر والفنان الموسيقي “فخري البارودي” من رجالات النضال ضد الاستعمار الفرنسي، الفيلم احتوى لقاءات نادرة له، يتذكر جيداً من حضر الأمسية وحوارها، تلك النظرات العميقة التي كان المالح يرسلها متمعناً بحسرة دفينة وجوه الشاب الحاضرين، الجيل الذي لا يعرف مهما علت ثقافته ماكان إن لم يعشه، أي قبل حقبة الاستبداد، في الفيلم كما في الأمسية كان يبدو المالح وكأنه حَمَل أمانة ثقيلة، عليه إيصالها، عبر لغة وسيطة، شيفرة متفق عليها، تحت عين وسمع رقيب لا يرحم، هكذا يتحدث المالح في الفيلم كما في الأمسية والنقاش، مبلّغاً السر الدفين لأناس “هذه” الأيام أنكم غير ما تظنون، لستم كما أُخبِرتُم، بشر مسلوبوا الإرادة والإنسانية، بل انظروا ما كنتم، أصل الحكاية، هذا فخري البارودي من لا يشكُّ في بطولته ونزاهته، سياسي فكه يغني ويَضحَك ويُضحِك، يجري بعذوبة كمياه نهر، لا كصنم مؤله هو في أصله ضعيف الموهبة وعاجز، يرسل فرامانات “قضائه” و”قدره”، قرارات إعدامه، على من لا يسجد لصورته، كان ذلك شيخ الشباب فخري البارودي يقدمه شيخ شباب اليوم نبيل المالح من تخاله ابن عصر الدجتال والأنترنيت والهواتف الذكية وهو في بحر السبعين، هكذا توارثت دمشق وسوريا روحها وحفظتها من الهلاك، تحت سطوة الدكتاتورية العسكرية، كما فعلت على مر التاريخ، بأن مررت سرها على الدوام أمام عين العسف العمياء، هنا أيضا يتميز إنتاج المالح عن أفلام غيره من المخرجين السوريين المعارضين سياسياً للنظام السوري، بأن سلك درباً أقل مباشرة وأكثر عمقاً بما يتعلق بالموقف السياسي، وإن كانت التورية هي حكماً من نصيب الجميع بنسبٍ متفاوتة.

كذلك في فيلم “الكومبارس” 1993 إحدى أهم علامات مسيرة المالح السينمائية، ومن أشهر أفلام السينما السورية، يتفرد المالح بأسلوبه، بأن يختار تناولاً أكثر ليونة، أبسط، أعمق، بما يتعلق بالموقف السياسي رغم وضوحه وجرأته؛ تجري أحداث الفلم هنا في أماكن تصوير محدودة، معظمها في الشقة التي استعارها البطل لعقد لقاء غرامي مع حبيبته التي يريد الزواج بها، وكما صرح المالح في إحدى لقاءاته فإنه أراد أن يشرح حالة بلد بأكمله من خلال علاقة رجل بامرأة في مكان لقائهما “الخاص بهما” ذاك، عليه ينسج المالح سيناريو الفلم، المحكم والدقيق، معريا شخصياته وناحتها في الوقت عينه، يبنيها رويداً رويداً بموازاة بنائه لعلاقتها مع الوسط الخارجي والجدل الدائر بين الذات ومحيطحها، هكذا يقتحم رجل الأمن المكان في بداية الفلم ليسأل عن الجار عازف العود الضرير، لكن المالح يفاجؤنا بمشهد متخيل يقوم فيه البطل “الكومبارس” بهجوم عنيف على رجل الأمن يجعل الجدار وراءه ينهار، وسرعان ما يعيدنا إلى شخصية البطل الواقعية المهزوزة والثأثأ في كلامه، يشير المالح بقوة في هذا الفلم إلى الطبيعة المزدوجة لشخصية الكائن الإنساني في دولة القمع، لكن باختياره لشخصيتين سوريتين بسيطتين دون ادعاءات أيديولوجية، يبحثان عن مساحتهما الطبيعية التي لا يمتلكانها، وبتسليط الضوء على انعكاس الحالة العامة كما تبرز من عمق هتين الشخصيتين وفق إيقاعهما الداخلي، استطاع المالح وفق هذه الأسلوبية وبخبرة وحكمة مخرج مخضرم التحايلَ على وتطويع الشرط الانتاجي المتواضع، وفق قصدية لم تترك مجالاً للصدفة إذ يقول أيضاً عن هذا الفيلم إن كل تفصيل فيه مكتوب مسبقاً في السيناريو الأصلي.

لقطة من الفهد ويبدو أديب قدورة في المشهد

لكن الأمر لم يكن على هذا النحو إذا ما قارناه بفيلمه المؤسس المذكور في بداية المقال، “الفهد” الذي يسرد وقائع قصة حقيقية لحياة متمرد معروف في الريف السوري باسم “أبو علي شاهين”، نقصد ما يبدو من تباين في إمكانيات الإنتاج، شكل الفلم، أسلوبيته، هنا المساحات مفتوحة على الأفق، تدل على نوعية إنسان آخر، يعاني أيضاً من عسف السلطة، سلطة الاقطاع بُعيد الاستقلال، لكنه يعاندها، يتمرد عليها ويصارعها، تدفعه نزعة الحرية العنيفة في داخله إلى تصعيد المواجهة ليفر ويكر من الجبال المقفرة، ملاذه الأخير، مهاجماً رجال الدرك، وليتحول إلى أسطورة في عيون البسطاء والمقهورين. يقول المالح إنه فكر في صناعة هذا الفلم بعد نكسة حزيران “الصدمة التي أفاق الجميع على وقعها” لكن المؤسسة العامة للسينما ترفض انتاجه في العام 1969بحجة أنه “من غير الجائز تقديم قاطع طريق على أنه بطل”، وينتظر الفيلم ثلاث سنوات أخرى قبل أن يخرج إلى النور 1972. لا يحدد المالح هنا شخصية البطل في مواجهة الطرف الآخر النقيض أي السلطة فقط، هو يذهب أبعد من ذلك إذ يضع “أبو علي شاهين” في مواجهة أخرى غير مباشرة مع مجتمعه أيضاً، سلبيته، الأفراد الآخرين الذين لم يصمدوا في مؤازرته، وفي النهاية يقضي نتيجة خيانة من أحد أقربائه من وشى للدرك بمكان تواجده، لم يكن هذا الفلم والتفكير في إنجازه في تلك الفترة محاولة لتفسير الهزيمة والإشارة السلبية إلى الخلل، بقدر ما كان أيضاً دعوة للفعل وتحريض على التغيير وتثوير مجتمع ما بعد النكسة.

هكذا وبالمرور على أفلام كثيرة أخرى قدمها المالح من أفلامه القصيرة الأخيرة مثل “الكريستال المقدس” الذي يتطرق فيه إلى مدينة دمشق وخصوصيتها واحتضانها للكثير من الأديان والطوائف والقوميات، أو فيلمه “بقايا صور” 1973 عن رواية لحنا مينة، وأفلام بطولة “دريد لحام” و”نهاد قلعي”… نستطيع بوضوح إدراك مدى التنوع في تجربة المالح وغناها، كما إن موقفه المتزن المؤيد للثورة السورية والنقدي تجاهها في آن، يكاد يميزه عن غالبية إن لم يكن عن كل السينمائيين السوريين الآخرين، بآلية لا تختلف كثيرا عن تلك التي تميزه عنهم في صناعة السينما.