نبيل المالح.. عبقري السينما السورية وسفيرها عبر العالم

 

 

سيكون من الظلم الاكتفاء بتناول سيرة نبيل المالح بوصفه مخرجاً سينمائياً، رغم أهمية ريادة تجربته السينمائية التي من الصعب على أحد تجاوزها، إذ لطالما نظرتُ إليه باعتباره واحداً من روّاد الثقافة السورية الحديثة، ولعله الأكثر تمثّلاً لها، سواء من ناحية التنوّع والغنى والثراء الذي اتسمت به تجربته الإبداعية، أو من ناحية تشعبها وتشابكها مع الزمان والمكان وتحوّلات العصر في السياسة والثقافة والاجتماع وفي العلوم والفنون والآداب والتقانة ومواكبته لكل جديد ومستجد فيها.

وبوسعنا أن نؤكّد أنه لم يكن من باب الصدفة أن يكون نبيل المالح المخرج الذي قدّم أول فيلم سينمائي روائي طويل بتوقيع سوريّ “الفهد” (1972)؛ هو ذاته المخرج الذي قدّم أول فيلم سينمائي سوري روائي طويل مُصوّر بكاميرا رقمية، ألا وهو فيلم “غراميات نجلاء” (2001).

هذا التنوّع والغنى، وهذه المرونة والقابلية للتطوّر، هي كلها سمات أساسية لدى نبيل المالح شخصياً ومهنياً، وهي استعدادات أولية اتكأ عليها ليكون -بهدوء وصمت ظاهريين، وغليان وصخب داخليين- أحد أبرز روّاد الثقافة السورية الحديثة، فكان منشغلاً فيها بالهمّ السياسي وإن لم يشتغل به، ومهتماً بالسياق الاجتماعي مدركاً جوهريته في الحراك السوري العام، منتمياً إلى الثقافة النقدية تجاه الذات والمحيط، كل ذلك في توازن أراد المحافظة على ما يمكن من سلام.

المخرج نبيل المالح أثناء تصويره فيلمه "بقايا صور"
المخرج نبيل المالح أثناء تصويره فيلمه “بقايا صور”

سنوات التأسيس.. بداية ملامح السينما السورية

إذا كان لنا أن نتأمل اقتضابا في ملامح وتخوم الثقافة السورية الحديثة، وبصورة خاصة في سياقها العملي التأسيسي وعتبة الانطلاق والاستمرار، لا إيغالاً في البحث عن النواة الجنينية التي بذرها أبو خليل القباني (1833–1903) وعبدالرحمن الكواكبي (1855–1902) وغيرهما من أعلام عصر “اليقظة العربية”، فلا بد أن نتوقّف عند تلك السنوات الممتدة ما بين “الجلاء” (1946) والوحدة السورية المصرية (1958)، مروراً بالانفصال (1961)، وصولاً إلى الهزيمة الحزيرانية (1967)، وذلك باعتبارها سنوات التأسيس والوثوب التي تلقي بظلالها على الثقافة السورية الحديثة حتى اليوم، على رغم ما اعتراها من خيبات سياسية وانتكاسات وطنية.

سنوات تقارب العقدين من الزمان، أو تزيد قليلاً، كانت زمن انفكاك سوريا عن إرث تاريخي ثقيل، والتطلّع إلى حاضر ومستقبل، بحثاً عن مكان تحت شمس القرن العشرين الساطعة بما فيها من علوم وفنون وآداب، واختراعات واكتشافات تزامنت مع ولادة السينما والتلفزيون والإذاعة، وتطوّر الصحافة والمسرح والموسيقى والفنون التشكيلية، والبدء بإجراء النقلة الواسعة على مستوى الحياة والعمران السوريين، فضلاً عن الفعالية السياسية والاجتماعية التي تمثّلت بتجاوز مرحلة الانقلابات العسكرية، وتعزيز نشاط الصحافة والأحزاب، مُقدّمة للدخول في التجربة الديمقراطية البرلمانية، ومن ثم الوحدة مع مصر.

هذه السنوات ذاتها تشكل البيئة الزمانية لتشكّل وعي نبيل المالح، ما بين سنّ العاشرة من عمره لحظة “الجلاء”، وإبحاره في العشرينات من عمره مع تجربة الوحدة، وصولاً إلى إنجازه أول أفلامه في العام 1965، وهو على بوابة الثلاثينات من العمر وقد شهد الانفصال وثورة الثامن من مارس/آذار 1963، وما جاءت به من توجّهات اشتراكية، وقرارات تأميم صناعي، وإصلاح زراعي، وتشكيل القطاع العام في مجالات السينما والتلفزيون والمسرح والصحافة، مُغلقةً الباب في وجه العودة إلى التجربة الوحدوية على نحو نهائي، أو استعادة التجربة البرلمانية الديمقراطية التي طفرت في منتصف الخمسينيات، وليستقر الوضع على حال الطوارئ، وسيادة حكم الحزب الواحد للدولة والمجتمع، ومنع القطاع الخاص، أو البورجوازية المحلية (الرأسمال الوطني) من المساهمة في أي من مجالات الفعل العام. تماماً في الوقت الذي كانت الثقافة الحديثة فيه تتبلور في الهوامش التي انشغلت عنها القوى المتصارعة على السلطة، أو التي سمحت بها، بل وحتى تلك التي كانت تجري بفعل العناد والإصرار.

نبيل المالح بهذا المعنى، هو أحد روّاد الثقافة السورية الحديثة والمعاصرة، هذا ما يراودني منذ سنوات عرفتُ فيها نبيل المالح عن قرب وعن بُعد؛ في الحياة وفي السينما، فقد قرأتُ له وشاهدتُ رسومه واطّلعت على بعض ما فعله، وتلمّست بعض ما يطمح أن يفعله.. ولعل هذا ما دفعني في لحظات كثيرة إلى البحث في معنى الثقافة السورية الحديثة وروّادها، وربط هذا بالبيئة التي ترعرع وعاش ونما فيها، وطوّر وعيه، واختار أساليبه التعبيرية وأدواته الفنية التي سنرى أنه ضمّنها كذلك مواقفه السياسية والثقافية الفكرية والاجتماعية، وبلور فيها رؤاه مما حوله، لترسم خطاً حياتياً وفكرياً وسياسياً ينظم أعماله جميعها، فذلك مما يمكن أن تراه في فيلم قصير أو طويل، أو في لوحة تشكيلية، وربما موتيف أو كاريكاتير.

تلك سيرة ربما تبدو نموذجية لشاب ينتمي لعائلة دمشقية، ولفتى بقي طيلة حياته يستذكر الدور الاستثنائي لوالدته في صياغة وعيه ووجدانه وتوجهاته قبل أن يغادر إلى براغ لدراسة الفيزياء النووية، وبعد أن يعود ليحترف السينما بدلاً منها، ويشاكس في عدة مجالات فنية وإبداعية، لاسيما ميادين الاتصال السمعي والبصري، وعلى رأسها السينما.

كان يمكن أن يشير اختيار نبيل المالح السينما أسلوبَ حياة –ضمنياً وإن في شكل غير واعٍ- إلى رغبته بالانتساب للثقافة الحديثة في بلد لا يزال قابعا تحت سطوة الفكر التقليدي في كثير من ملامح الحياة وتفاصيلها، ولكن هذه الثقافة الحديثة ذاتها لم تكن في ذلك الوقت على شيوع، بل كانت بحاجة إلى مبادرات للتأسيس والإطلاق.

وربما لهذا استمر نبيل في ممارسة الكتابة -وبشكل خاص مُميَّز كتابة السيناريو- والشعر والرسم والكاريكاتير والفن التشكيلي، وحتى تصميم الأغلفة الفنية، وصناعة الأفلام، والمساهمة باستمرار في ورش عمل تدريبية سينمائية. وربما لهذا لم يحترف التلفزيون والمسرح والصحافة أو الإذاعة، رغم أنها مقاربة تماماً للثقافة الحديثة، وأنتجت بعض أعلامها الذين مارسوا الفعل النقدي والدور التنويري.

تأخذ تجربة نبيل المالح تألّقاتها على مستويات عدّة لا تتوقف عند حدود المُنجز السينمائي
تجربة نبيل المالح تأخذ تألّقاتها على مستويات عدّة لا تتوقف عند حدود المُنجز السينمائي

بشير السينما السورية.. سفير فوق العادة

تأخذ تجربة نبيل المالح تألّقاتها على مستويات عدّة لا تتوقف عند حدود المُنجز السينمائي، رغم أنه الإنجاز الأهمّ في مسيرته، فله في كل فنّ إسهاماته، إذ لم يكن الرجل ينأى بنفسه حتى عن أشكال من الحراك السياسي والاجتماعي المدني الذي شهدته سوريا طيلة نصف قرن مضى.

كان استمرار نبيل المالح في السينما عقداً بعد آخر منذ العام 1965 في سوريا وخارجها -رغم كل ما واجهه من مشكلات فنية وتقنية وحتى مادية وشخصية- وإصراره على مشاريعه السينمائية حتى آخر لحظة من حياته؛ برهانا يدلّل على إيمانه العميق بما يفعل، وصرف أي نظر عن أي خيار حياتي أو مهني أو إبداعي كان يمكن أن يغدو هو الآخر أسلوباً ابداعياً آخر لحياته.

ويتبدّى اختيار السينما فعلاً جوهرياً للتعبير عما يؤمن به ويريد قوله من طبيعة اهتمامات نبيل المالح وموضوعاته السينمائية، وبدأها مع عدد من الأفلام الوثائقية والروائية القصيرة، كان أولها “حلب عاصمة الشمال” (1965) الذي يرصد فيه ملامح من التحديث الذي كانت تتجه إليه سوريا في مختلف مدنها، متخذاً من مدينة حلب نموذجاً يجول في حاضرها ويتلمّس تاريخها ويستشرف مستقبلها، ثم أتبعه بأفلام لا تبتعد عن هذا الهاجس، بل توازيه وتغنيه، كما في “لون وحياة” (1966) و”إيقاع دمشقي” (1970)، وفيهما تركيز على تطاريز الفنون التقليدية والأشغال اليدوية، وكذلك على الفنون الحديثة وأبرزها الفن التشكيلي.

ما قام به نبيل المالح إنما هو تفتيش سينمائي في وقائع الحياة السورية مكاناً وزماناً وفاعليات، بعيداً عن الاحتفائية ولكن قريباً من التفحّص والأمل، فقد كان مشغولا بمهارة سينمائية تبشر بجديد يطلّ على السينما السورية بين روّادها وأعلامها في تلك الفترة أمثال: يوسف فهدة وصلاح دهني ومحمد شاهين وخالد حمادة، وبالتوازي مع مخرجين أمثال بشير صافية ومروان مؤذن ووديع يوسف ومروان حداد.. لكن من بينهم جميعاً سيكون لنبيل المالح شأنه ومسيرته وتميّزه الخاص.

لا يتوقف تميزه فقط عند إنجازه أول فيلم روائي طويل بتوقيع وإمكانيات سورية خالصة، بل أيضاً في شقّه الطريق المتميز فنياً ومضمونياً، إذ يلفت النظر إلى أن نبيل المالح -وهو الشاب السوري ابن العائلة المدينية البرجوازية، وربما التقليدية والمُحافظة كما هو معروف في الوسط الاجتماعي الدمشقي عادة- عمل في أفلامه على مسائل ثورية الطابع، تقدّمية الرؤية، نقدية الطابع، على قدر كبير من الجرأة.

في أول أفلامه الروائية القصيرة تناول نبيل المالح مأساة اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات
في أول أفلامه الروائية القصيرة تناول نبيل المالح مأساة اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات

 

أوجاع الإنسان.. عدسة سينمائية في خدمة الألم السوري

في أول أفلامه الروائية القصيرة تناول مأساة اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات، والقضية الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، كما في “إكليل الشوك” (1969) عن فتاة من مخيم القابون تحلم في شوارع مدينة دمشق الذاهلة والمشغولة عنها وعن أحلامها، و”المخاض” (1970) الذي يؤكد أهمية العمل الفدائي وخيار الكفاح المسلح، و”النافذة” (1978) الذي يتحدث عن جرائم الإمبريالية والاستعمار، و”نابالم” (1971) الذي يتطرق إلى الجرائم الأمريكية في فيتنام وشتى أصقاع العالم الثالث وحركات التحرر الوطني العالمية، ومقاربة أحوال العمال والصيادين والشغيلة كما في “الزبد” (اللعبة الأبدية) (1972) و”الصخر” (1978) و”الدائرة” (1978).

ونلاحظ أن هذا سيستمر على مدى تجربته السينمائية، وصولاً إلى فيلمه “فلاش” (1999) الذي ينتقد الاستبداد والقمع والتسلّط.

استطاع نبيل المالح أن يقوم بتوظيف باهر للفيلم القصير في طيف واسع من الموضوعات والقضايا المحلية والعربية والعالمية، بتمكّن وتوازن بين التكثيف والاختزال، مع غنى القول وثراء المعنى وسعة المخيلة واتقاد الأفكار، إلى درجة أن فيلمه الذي لا تتجاوز مدته دقيقة ونصف الدقيقة كما في “نابالم”، أو “فلاش”، يمكن وصفه بأنه “أقصر فيلم روائي طويل”، وكلاهما نال من الجوائز الكبرى ما يستحق.

ولا مبالغة في القول إن نبيل المالح هو من الفئة النادرة من المخرجين السوريين الذين أبقوا على علاقتهم مع الفيلم الروائي القصير والفيلم الوثائقي القصير، ولم يكتفِ بالفيلم الروائي الطويل.

 

العودة من المنفى.. فيلموغرافيا عن العودة والاغتراب

عندما عاد نبيل المالح إلى دمشق من منفاه الاختياري في اليونان وشرع في العمل من خلال شركته الإنتاجية “إيبلا للإنتاج”، وقدّم عدداً من الأفلام الوثائقية لصالح هيئات رسمية وغير رسمية في سوريا، وجدنا كيف يتمازج الدور الوظيفي للوثائقي لديه ما بين التنموي والنقدي (الاجتماعي والسياسي)، والتأسيس لرؤية تطمح لجعل سوريا بلداً أجمل وأرحب وأكثر اتساعاً لأبنائها بتنوعهم واختلافهم وغناهم وثرائهم، فكان وثائقي “العتمة المضيئة” (2003) عن ذوي الاحتياجات الخاصة من فاقدي البصر وأهمية العمل على دمجهم في المجتمع.

بينما ذهب “ع الشام ع الشام” (2006) الذي أخرجه بالاشتراك مع عمرو سواح وألفوز طنجور؛ إلى البحث عن المدن السورية المنسية، وآثار الهجرة الداخلية على الريف والمدينة، والمشكلات الناجمة عن افتقاد سياسات تنمية متوازنة تتمكّن من الحفاظ على الريف وتحديثه والحفاظ على المدينة وتطوّرها.

وفي “شهرزاد” (2007) يدور الحديث عن المرأة السورية بين الواقع والدستور والقوانين، عن “شهرزاد الألف الثاني بعد الميلاد” -كما يقول الوثائقي نفسه- وهي ترزح تحت نير الخفض الاجتماعي والاضطهاد الذكوري وعجز القوانين عن حمايتها أو توفير حقوقها.

وبينما يتناول “شيخ الشباب” (2007) الشخصية الدمشقية الموشورية المتعددة الوجوه فخري البارودي، فإن “الكرستال المقدس” (2008) يحرث تاريخ وحاضر دمشق الأثيرة دائماً لديه، ويتحدث “متحدون في المهجر” (2011) عن اللاجئين العراقيين، وهو الفيلم الذي يمكن اعتباره آخر ما صنعه نبيل المالح في دمشق قبل مغادرته إلى الإمارات.

ورغم مواكبة تجربته لتأسيس التلفزيون السوري (1960) وولادة سينما القطاع الخاص (1964)، فإن نبيل المالح آثر الاشتغال مع المؤسسة العامة للسينما (1963)، فكانت أفلامه الأولى من إنتاجاتها، مع أنه لم يعمل فيها إلا لسنوات قليلة، وبقي يتعامل معها بوصفه مخرجاً مستقلاً صاحب رؤيا ومشروع، وقدّم من خلال المؤسسة أهم أفلامه وأفلامها على السواء، وعلى رأسها وذروتها فيلم “الفهد” (1972)، ومن ثم “السيّد التقدمي” (1974)، و”بقايا صور” (1979)، وختامها “الكومبارس” (1993).

 

تأوهات السياسة.. نبرة نقدية بعد خيبة الآمال العربية

لم يكن لنبيل المالح موقف من النظام السياسي الناشئ وقت إنتاج فيلم “الفهد” (1972)، بل إنه أنجز وثائقياً قصيراً بعنوان “أيام للتاريخ” (1971) يتناول الالتفاف الشعبي والجماهيري حول ذلك النظام، وتعلُّق الآمال بـ”اتحاد الجمهوريات العربية” ما بين مصر وسوريا والسودان، والإنشاد للوحدة والتكاتف والتعاون، والتغني بالوطن العربي.

كانت الآمال عريضة حينها، بخاصة بعد فاجعة الرحيل المفاجئ لجمال عبد الناصر، والسعي لدى الجميع في البحث عن قشّة أمل يتعلق بها الغرقى من المحيط إلى الخليج.

ولم يكن نبيل المالح بمنأى عن ذلك، ولا شك في أنه كلما ازدادت الشقّة ما بين الآمال والأحلام والمطامح من جهة والواقع بوقائعه وتحوّلاته من جهة أخرى، كانت النبرة النقدية تعلو وتتضح، لتبلغ ذروتها في فيلمه “الكومبارس” (1993) وتنتهي بوفاته في دبي (2016).

 

“الفهد”.. فاتحة التميز التي تعبد الطريق

مع فيلمه “الفهد” قدّم نبيل المالح محاولة أولى لاقتراح شكل جديد من السينما السورية له خصوصيته وتمايزه، وقد حقَّق بذلك جملة كبيرة من الجوائز لهذا الفيلم على مستوى التصوير والإخراج والتمثيل في مهرجانات عربية وعالمية، ليكون فاتحة أولى تُعبّد الطريق لأفلام سورية متميزة من طراز “المخدوعون” لتوفيق صالح (1972) و”كفر قاسم” لبرهان علوية (1974) و”اليازرلي” لقيس الزبيدي (1974)، التي تُمثّل حتى اليوم طليعة للسينما العربية الجديدة أو السينما البديلة أو السينما المُرتجاة.

وعلى مستوى الأداء أخذ نبيل المالح القصة الأدبية، واستعان بأشعار كتبها ممدوح عدوان مقدِّمة للحكاية وممهِّدة لها بقالب شعري، كما أنه استخدم لهجة سورية بيضاء، فلا هي لهجة أهل المنطقة التي عاش فيها الفهد، ولا هي لهجة أهل الشام تماماً.

وللبطولة بحث عن فنان جديد يمنحه هذا الدور، فكان من نصيب الفنان الفلسطيني الشاب أديب قدورة ابن مخيم حندارات للاجئين الفلسطينيين شمال حلب. وقد فاز أديب قدورة -العاشق للرسم والموسيقى والممثل في المسرح القومي بحلب- بدور عمره الذي لم يستطع العثور على مثله حتى اليوم.

لقد حقق نبيل المالح نجاحاً نموذجياً فيما ذهب إليه من رهان بعيداً عن نجوم سوريا حينها، سواء في المسرح أو التلفزيون أو أفلام القطاع الخاص التي لم يكن غيرها ذا شأن حينذاك، وكذلك لم يستعن بممثل عربي، وهو ما كان متاحاً أيضاً لأفلام القطاع العام، فحتى ذاك الوقت كان القطاع الخاص يستعين لبطولة أفلامه بعشرات الممثلين والنجوم من سوريا ومصر ولبنان وتركيا.

إن هذا التحضير الذي تميّز بالدأب واستغرق سنوات تراوحت بين التوقّف أو الرفض أحياناً، ومن ثم متابعة التحضير وصولاً إلى تحقيق الفيلم، لم يؤثر على النتيجة النهائية، بل لعلنا لا نبالغ حين نقول إن نبيل المالح بدا في أول أفلامه الروائية الطويلة متعافياً وناضجاً، ولن ننسى الجائزة الخاصة التي منحها له “مهرجان لوكارنو السينمائي” في العام 1972 بمناسبة مرور 25 عاماً على انطلاقته، تقديراً لنبيل المالح وفيلمه “الفهد”. ومما يزيد الجائزة أهمية أن رئيس لجنة التحكيم لم يكن سوى المخرج الكبير أندريه تاركوفسكي.

 

بطل فردي على حبل المشنقة.. نداء للثورة

كان نبيل المالح في فيلم “الفهد” يظهر البطل الفردي على حبل المشنقة، وبالتالي ينشد عبر الفيلم للثورة الجماعية الشعبية المنظَّمة، وذلك موقف ثوري وتقدمي يتكئ على تجربة حقيقية لشخص عاش تجربته الفردية في جرود جبال الساحل السوري في مطلع أربعينيات القرن العشرين (1942)، عندما كانت سوريا تئِنّ تحت أقدام المستعمر الفرنسي الآيل للجلاء، وسلطة الإقطاع والآغاوات التي ستنقضّ على السلطة وتتحكّم بها، مما ينتقص من حقيقة الاستقلال الوطني الذي كانت تسعى له سوريا بنخبها المدنية على الأقل.

يبدو الفهد بطلاً تراجيديا محلياً حقيقياً نموذجياً، ومعادلاً درامياً لتاريخ منطقة، بدءاً من مستواها السياسي الوطني والاجتماعي الاقتصادي، كأنما أبو علي الفهد تخلَّص من نار الفرنسي إلى نار الآغا والدرك، فيشير الفيلم إلى ضرورة الترابط بين مسائل الاستقلال الوطني، والتحرر السياسي والاجتماعي والاقتصادي، أي ترابط وتكامل النضال الوطني بالثورة الديمقراطية الشعبية.

ومن هنا فإن أبو علي الفهد بدا كأنما هو خلاصة التجربة في مجال الثورة الفردية التي ستنتهي إلى الفشل بطريقة تراجيدية، ليذهب الفيلم في سياق الدعوة النهائية والجريئة إلى العمل الجماعي المنظَّم الواعي، وهذا ركن أساسي في الثقافة الحديثة يخلع فكرة البطل الفرد لصالح الشعب وقواه الحية والمنظمة.

ليس فاقدا للمعنى ولا صدفةً اختيار نبيل المالح للقصة التي كتبها الأديب حيدر حيدر ليحكي لنا قصة الثائر أو المتمرِّد الريفي شاهين (المشهور باسم أبو علي شاهين أو الفهد)، إنها قصة عن الثورة والتمرّد وضرورة التصدّي الشعبي، وهي أنشودة شعبية ثورية توقد الأمل في المستقبل رغم موت الفهد على حبل المشنقة.

نهاية سينمائية بديعة استقاها سينمائيون من بعده. فقد بدا نبيل المالح سينمائياً تقدمياً حقيقياً مع أول أفلامه الروائية الطويلة، وقد حافظ على هذا في تجاربه اللاحقة، باستثناء إخفاقات محدودة تَناقضَ فيها المُرتجى في الذهن والتخطيط مع ما تحقّق بالنتيجة على الشاشة، كما في تجربته اليتيمة مع القطاع الخاص بفيلم “غوار جيمس بوند” (1974)، ذلك الفيلم الذي يُمثل في أحد وجوهه لقاء نبيل المالح مع رائد آخر من روّاد الثقافة الحديثة هو الفنان نهاد قلعي.

“الكومبارس”.. غضب عارم وعودة للتألق بعد خفوت

في التسعينيات عاد المخرج نبيل المالح بعد غياب استمر نحو عقد ونصف من السنوات لامتحان ذاته وتحدّيها، وذلك من خلال فيلمه “الكومبارس” (1993) الذي تضمَّن من جملة ما تضمَّن لغة إخراجية جديدة، استطاعت إعادة الألق لنبيل المالح صاحب التجربة السينمائية الطويلة، وكان له أن كُرِّم بفضل فيلمه هذا في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي كأفضل مخرج حينذاك، إضافة إلى جوائز معهد العالم العربي في باريس لبطليه بسام كوسا وسمر سامي.

كما أثبت مع فيلمه “الكومبارس” أنه الخيط السرّي الذي يصل بدايات السينما السورية الحقيقية وولادتها المتألقة عند جيل الستينيات والسبعينيات من جهة، بصعودها إلى ذراها مع جيل الثمانينيات، وصولاً إلى التسعينيات من جهة أخرى.

في “الكومبارس” يصل النقد السياسي والاجتماعي اللاذع إلى أعلى مراحله، فيطال الدولة الأمنية والمجتمع والأفراد الذين يقفون في النهاية على خشبة المسرح وينشدون للنصر الزائف والوهمي.

أبطال في هيئة كومبارس، أم كومبارس في هيئة أبطال؟ يبقى التساؤل مشروعاً، والنهاية تمضي إلى افتراق عميق بين العاشقين، وقد سُحقت كرامة العاشق تحت وطأة صفعة رجل الأمن، واعتُقل العازف الضرير، ولم يتحقق التواصل المرتجى أصلاً من هذه الخلوة.

يبدو نبيل المالح كأنما كتب “الكومبارس” كما فيلمه القصير “فلاش” في لحظة غضب عارم، وهو يرى الأحوال السورية تمضي إلى مأزقها الصاعد إلى الكارثة، بدءاً من تراجع السينما السورية ذاته بوصفها نموذجاً وعنصراً من عناصر الثقافة السورية الحديثة، وليس انتهاءً بانتشار العشوائيات حول دمشق والإمعان في ترييف هذه المدينة العريقة، مما أطاح بهويتها الحضارية والعمرانية، وباتت في غربة عن ذاتها وعن أبنائها وعن السياق التاريخي السياسي والاجتماعي الذي كان جوهر أحلام أجيال سورية منذ “الجلاء”.

لم يكن لنبيل المالح موقف من النظام السياسي الناشئ وقت إنتاج فيلم "الفهد" (1972)
نبيل المالح لم يتخذ موقفا من النظام السياسي الناشئ إلا حين إنتاج فيلم “الفهد” (1972)

 

“الوشم السابع”.. مراجعات سياسية غيبتها يد القدر

وعلى رغم عدم انتسابه للمعارضة السورية التي جرى تركيبها عربياً وإقليمياً وبإرادات قوى دولية إثر انفجار الأوضاع في سوريا في العام 2011، وعلى رغم احتفاظه بمسافة نقدية من القوى كافة نظاماً وموالاة ومعارضات بمختلف أنواعها؛ فإن نبيل المالح اختار الحفاظ على معارضته التي صاحبته طيلة مسيرة حياته، وفياً لمكوناته الثقافية، محافظاً على رؤيته، متمسكاً بمواقفه، ولم يمنعه هذا التمسك من إجراء بعض المراجعات، إذ ظهر ذلك في كتابته معالجة مشروع فيلمه “الوشم السابع” الذي رحل قبل أن يتمكّن من تحقيقه.

قلنا في مفتتح الكلام لعل نبيل المالح الأكثر تمثلاً للثقافة السورية الحديثة، والحقيقة أنه برحيله في المنفى غريباً وحيداً أعاد للثقافة أسئلتها ومهماتها الأولى، وهي التي تبدو اليوم على بوابة رياح شديدة العصف، ترسف في قيد المجهول الذي تقيدها به قوى ظلامية ونكوصية تاريخية وفوضى واستبداد وصراع مصالح وقوى لا ترحم.