الهادي الجويني..تونسي بروح إسبانية

ياسر ثابت

لحّن "الهادي الجويني" ما يقارب الـ«600» عمل تنوعت ما بين الأدوار والموشحات والأناشيد الوطنية والأغاني الخفيفة والشعبية بالإضافة للأوبريتات وموسيقى الأفلام.

صوته مصفاةٌ للقلوب المتعَبة، وأداؤه رسول العصافير، التي تعرف الطريق إلى أشجار تونس الخضراء. إنه الهادي الجويني (1909-30 نوفمبر 1990) فنان تونس الرقيق، الذي بقيت أغانيه متداولة على أفواه الناس تُعبّر عن رقة الوجدان بكلمات مختارة وراقية.

وُلِد في غُرّة نوفمبر 1909، بحي بطحاء سيدي المشرف بمنطقة الحجامين بالمدينة العتيقة في تونس، حيث حفظ بالروضة القرآنية ما تيسر من آيات الذكر الحكيم. كانت تلك الساحة تقع على مرمى حجر من حي المركاض الذي كانت تقطنه الجالية الإسبانية باعتبار أن المركاض هو مصطلح إسباني تحرّف في التداول اليومي فتحوّل من مكاردس إلى مركاض، أيْ السوق.

ولمّا أخفق الهادي الجويني في نيل الشهادة الابتدائية بالفرع الصادقي أدخله والده عبدالسلام بن حسين دُكّان صديقه، حيث أتقن صناعة الفضة التي كان يصنع من مادتها أدوات الزينة والقيافة، مثل المشط الفضي وعلب التجميل للغبراء البيضاء والحمراء التي كانت عنصرًا أساسيًّا من معدّات جهاز العروس.

كان الشاب الجويني يتابع إثر عمله صناعيًّا في الصاغة والمجوهرات، السهرات الليلية التي كانت تحييها الجالية الإسبانية التي تعرف بالسيرينادا في حي المركاض الذي يصل حي باب الجديد بحي رأس الدرب. فلا عجب في أن يفتتن بجمال الغانيات من الغجريات الفاتنات في رقصهن الموقَّع طرقًا بالأقدام على الأرض ورنين الصنوج الموصولة بأصابعهن (كاستنيات). وهكذا كان الجويني، يتردّد على تلك السهرات حتّى تأثر بالفلامنكو الذي تنحدر جذوره من الحضارة العربية الإسلامية لكون زرياب هو الذي أدخله إلى الأندلس. فمصطلح فلامنكو هو اختصار للمصطلح العربي فلا منكم، أيْ (فلا حُرمنا منكم). أمّا سمّار تلكم الليالي فلا يتردّدون في إطلاق صيحة العجب العجاب (أولي) أيْ (اللّه اللّه) بالعربية التي يطلقها المستمعون العرب طربًا وإعجابًا.

يعتبر الهادي الجويني، المبدع التونسي الوحيد دون منازع الذي طوّر نمطية الفلامنكو، ذلك الإرث الحضاري العربي الإسباني، فصاغه في مقامَي النهاوند والكرد مع الحفاظ على إيقاعاته الموزونة على رنين الصنوج الإسبانية.

 

 

تلقّى الجويني تكوينًا عصاميًّا؛ إذ أخذ ينهل من الفن ومناهل العرفان، حتّى حذق أسرار العزف على العود من صديقه زين العابدين السبعي، بعد أن كان يعزف الماندلين، التي أخذ طريقة عزفها على العود من اليهودي موني الجبالي، والد الفنان الراحل موريس ميمون، المشهور باسم ميمون التونسي. وقيل إنه حضر أمسية موسيقية للعزف على العود للملحن اللبناني فريد غصن، أقيمت على المسرح البلدي في تونس، ليبدأ عشقه للعود ويمضي ليالي طويلة يتعلم فيها العزف على هذه الآلة.

أخذ الجويني أيضًا عزف الآلات النحاسيّة عن الهادي الشنوفي (1893-1967) مثل آلة البسطون، وبعض الآلات الهوائيّة بجمعية الناصريّة نسبة إلى محمّد الناصر باي. ومعلوم أن تلك الفرق النحاسيّة كانت تعرف بالحسينيّة نسبة إلى الدولة الحسينيّة. انضم الجويني إلى تلك الفرق المعروفة باسم فنفار المحرّف عن العربية «أنفار» التي كانت تحيي حفلات الختان (الطهور) مع فرق الهلالو من تلاميذ الكتاتيب (الرياض القرآنية).

تمكن الهادي الجويني من العزف المتقن على العود المشرقي لينخرط في فرقة الرّقي الوتريّة ثمّ في فرقة الموسيقار العميد محمّد التريكي (1899-1998) عازفًا على العود ومرافقًا، ورافق الفنّان علي الرياحي (1912-1970) في أول حفل يحييه سنة 1936، بقصر الجمعيات الثقافية دار الثقافة (ابن رشيق حاليًا). وقد كتب عنه الشاعر المصري بيرم التونسي.

انخرط الهادي الجويني، فضلاً عن ذلك، في «الجمعية الرشيديّة» أو ما يسمى «المعهد الرشيدي للموسيقى التونسية» غداة انبعاثها سنة 1934، على أيدي الفرسان الثلاثة مصطفى صفر، شيخ المدينة (1892-1941) والشيخ خميس الترنان (1890-1964) والعميد محمّد التريكي، وسميت بهذا الاسم نسبة إلى «محمد الرشيد باي» وهو أحد الأدباء والفنانين التونسيين الذين ظهروا في القرن الثامن عشر، وكان شاعرًا مهتمًّا بالموسيقى. كانت الغاية الأساسية من إنشاء هذه الجمعية هي عدم عزل تونس عن الثقافة العربية والإسلامية.

تعلّم الهادي الجويني في رحابها مبادئ الترقيم الموسيقي على يد الأستاذ الإيطالي بو نورا، ثمّ في المعهد الفرنسي التونسي الذي اشترط عليه مديره أن يُدرّس تلاميذ السنوات الأولى العزف على العود ومبادئ الطبوع التونسية وأصول المقامات الشرقية. فكانت بداية الجويني بتلحين حواريّة «شيري حبيتك» مع المطربة شافية رشدي (1989-1910)، كما أدّاها مع زوجته اليهودية نينات، وشهرتها «وداد». وهي ابنة الراقصة الشهيرة جولي لا مارسياز. فلا غرو في أن يلمع نجم الهادي الجويني في الحفلات التي كان يحييها في الكافيشانتا، أيْ قاعات الغناء، مثل مقهى شمنططّو، ومقهى الهناء بباب منارة ومقهى المرابط في سوق الترْكْ.

ولمّا انتقل بالسكنى إلى حي باب سويقة حيث سكن بساحة البيقة -واسمها محرّف عن الإسبانية لاس فيغاس- اختلط بجماعة «تحت السور»، فتعرّف إلى الأدباء عبدالرزاق كرباكة والهادي العبيدي ومصطفى خريف ومحمود بو رقيبة وعلي الدوعاجي ومحمّد العريبي، ولحّن لجميعهم ما جادت به قرائحهم، مثل دور العتاب لعلي الدوعاجي (1909-1949) وأغنية «اللّي تعدى وفات زعمة يرجع» للهادي العبيدي وأغنية «لاموني اللي غاروا منّي» للشاعر الليبي البشير فحيمة، وشهرته فهمي، و��غنية «سمراء يا سمراء» لجلال الدين النقاش و«يا محسونة قلي علاش» لمحيي الدين مراد بطل أول فيلم غنائي تونسي «مجنون القيروان»، وأغنية ليبية لحَّنها في اللون الطرابلسي لمحمّد العريبي بعنوان «هذي غناية جديدة» (1911-1946) ولحّن لعبدالرزاق كرباكة (1901-1945) أغنية «مكتوب يا مكتوب» ومن شعر جلال الدين النقاش (1910-1979) أغنية «تبعني نبنيو دنيا جديدة» ومن شعر محمود بورقيبة (1909-1956) أغنية «لو كان موش الصبر يطفي ناري”.

 

 

كما غنّت من ألحانه عدّة أصوات، منها حسيبة رشدي التي غنّت له رائعة «تحت الياسمينة في الليل» شعر السيّدة عزة، ولم يُذكر أن كتبت أغنية غيرها. ميزة هذه الأغنية ليست في جمال الصوت والكلمة واللحن فحسب، وإنما تمتلك أيضًا القدرة على جعل المستمع يتعايش مع صورة غنائية ساحرة.

غنت من ألحانه أيضًا زهيرة سالم في أغنية «كسرّت القلّة» من شعر فاضل حرحيرة، وفتحية خيري في أغنية «يا مغير حالي» كلمات المذيع محمّد الزليطني، وشهرته محمد حفظي، والسيّدة نعمة في أغنية «يا شاغلني وشاغل بالي»، وعليّة في موشح «اعطفي عدل قوامك» شعر محمود بيرم التونسي (1893-1961)، وكان من المنتظر أن تغنيها أم كلثوم.

سجل الهادي الجويني عدّة أغانٍ على أسطوانات شركة أم الحسن للبشير الرصايصي، منذ 1935، لكنها اندثرت، مثل أغنية المطربة فاطمة الهمامي، وشهرتها نورهان، «أهدتلي وردة».

وأمّا في مجال المسرح، فقد انخرط الهادي الجويني في عدّة جمعيات مسرحية مثل «المستقبل التمثيلي» للبشير متهني و«الكوكب التمثيلي» لمحمّد الحبيب و«الفرقة البلدية» غداة انبعاثها على يدي المسرحي المصري زكي طليمات. لحنّ الجويني عدّة مسرحيات غنائيّة مثل «مجنون ليلى» لإبراهيم القباني وكان قد لحّنها الشيخ سلامة حجازي الذي كان زار تونس في مارس 1914 فطلب المتهني من الجويني تَوْنَسَتها، وتقاسم بطولتها شحرور الخضراء يوسف التميمي وفتحية خيري، كما لحّن الجويني مسرحية «بين نومين» تأليف علي الدوعاجي (1909-1949) وإخراج عبدالمجيد الأكحل، تقديم الفرقة البلدية بكامل عناصرها منهم الهادي السملالي ونرجس عطيّة وصالح الرحموني ومحمّد بن سليمان ومسرحية «عايشة القادرة» تأليف عبدالرزاق كرباكة وبطولة شافية رشدي (1910-1989). أمّا في مجال السينما فقد مثل الجويني عدّة أفلام لعلّ أبرزها شريط «الباب السابع» الذي كتب حواره نور الدين بن محمود، ثاني مدير للإذاعة التونسية وفيلم «المجنون» (1948) وفيلم «كتاب القدر» (1952). أمّا رحلاته الفنية فكانت كثيرة. فقد زار عدّة بلدان منها خاصة فرنسا والجزائر، حيث عمل بدار الأوبرا في وهران والعاصمة الجزائرية ومثّل بعض الأفلام في المغرب (1947).

التحق عام 1938 بالإذاعة الوطنية التونسية عند تأسيسها، وأغنى برامجها بألحانه وأغانيه علاوة على عمله كعازف وملحن ضمن الفرقة الموسيقية للإذاعة. ومن خلال الإذاعة أيضًا تقلد عدة مناصب، كما أنتج برنامجًا أنجز فيه مجموعة كبيرة من القصائد والأغاني الشعبية وتقاسيم على العود وعلى القانون. بدت الإذاعة التونسية وفرقتها محطة مهمة في مسيرة الجويني الفنية أهّلته لأن يكون من أبرز المطربين والملحنين في تونس في تلك الفترة.

لحّن ما يقارب الـ«600» عمل تنوعت ما بين الأدوار والموشحات والأناشيد الوطنية والأغاني الخفيفة والشعبية بالإضافة للأوبريتات وموسيقى الأفلام. لحَّن أيضًا العديد من المسرحيات الغنائية، وجرّب كل الأنماط والأشكال الموسيقية من «الديالوج» إلى «الموشح» مرورًا بـ«الدور» و«الطقطوقة». تعاون مع أهم الشعراء ولحّن لأشهر المطربين العرب.

 

 

ضرب الهادي الجويني بسهم صائب في عدّة مجالات فنية. فأبدع في الغناء والتلحين. وبرع في العزف. ولمع نجمه ممثلاً وعازفًا ومطربًا في عدّة أفلام سينمائية، فضلاً عن إسهامه في تطوير المسرح الغنائي والسينما إبداعًا وإمتاعًا وإشعاعًا. فلا غرو في أن يحظى بتكريم جدير بمقامه في مهرجان قرطاج الدولي سنة 1987، لكنّه تُوفّي دون أن يحقق أمنيته. وهي أن تتكرّم سيّدة الغناء العربي أم كلثوم بأن تؤدي له موشح «اعطفي عدل قوامك» رغم تدخل الموسيقار زكريا أحمد ورفيق دربه بيرم التونسي.

ألف ولحّن الهادي الجويني العديد من الأغاني المهمة، ومن بينها: «كي بغيت تطير يا حمامة»، «لو كان موش الصبر يطفي ناري»، «اللّي تعدّى وفات»، «حبّي يتبدّل يتجدد»، «لاموني اللّي غاروا منّي»، «مكتوب يا مكتوب»، «تبّعني نبني دنيا زينة»، «سمراء يا سمراء»، «يا اللّي نسيتك خالك»، «مفتون بخزرة عينيها»، «يا أم حسونة»، «قلبي معاك خذيتو»، «يا اللّي تعرف قل لي علاش»، «عفّي على المسكين يا خندودة»، «كريمة كرومة»، «عليك نغنّي».

مخزون جميل من الأغاني أيضًا قدمه الجويني يستحق بجدارة تسليط الضوء عليه، كونه كفيلاً بأن يكون مرجعًا للاطلاع على تراث الغناء التونسي وعلى تجربة مهمة في مسيرة الأغنية العربية.