الخليل بن أحمد الفراهيدي.. واضع علم العروض
شهدت العراق في زمن الدولة العباسية استقرارا وازدهارا منقطع النظير، إذ توفرت لها كل ركائز الحضارة والمدنية وهي المال والعلم والإنسان، وقد كانت البصرة مركزا اقتصاديا مهما، فهي قلب العراق النابض، وتضج أسواقها بحلقات الشعر والأدب.
وامتدت أذرع البلاد في التجارة غربا وشرقا لا سيما الهند، حتى أطلق على البصرة آنذاك ثغر الهند. وقد أدى هذا الرخاء الاجتماعي والاقتصادي إلى ظهور حركة فكرية وحضارية نشطة في المدينة، كما أسهمت الوفود القادمة من بلاد عريقة كفارس والهند في نهضة البلاد وتطورها.
ولم يدُر في خلد هذه المدينة الصاخبة أو يخطر ببال ساكنيها، أنها ستستقبل يوما علامة فارقة في تاريخ اللغة العربية وواحدا من أشهر أئمتها، إنه الخليل بن أحمد الفراهيدي، المنتسب إلى بطن فرهود من قبيلة الأزد العُمانية.
نتعرف في هذا الفيلم الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية ضمن سلسلة “علماء المسلمين” على الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي ولد عام 100 هـ، ثم انتقل إلى البصرة شابا صغيرا، وتتلمذ على يد علمائها إلى أن صار شيخها وإمامها، وتميز الخليل عن شيوخه باعتماده على الاستقراء العلمي كمنهج له، بغية الوصول إلى علوم لغوية مبتكرة يحصر من خلالها ألفاظ اللغة العربية.
ظاهرة التباديل والتوافيق.. قاعدة رياضية في خدمة العربية
لم تألف العقلية العربية في ذلك الوقت وجود كتاب المعجم، فقد كان هناك بعض كتب المعاني ككتاب الخيل للأصمعي، وكانت الكتب التي تجمع أسلحة الحرب وغيرها، وتسمى دواوين أو معاجم المعاني.
لكن الفراهيدي عمل نظاما للعربية جمع فيه كل مفرداتها بطريقة رياضية حاصرة، فقد تمتع بعقلية حسابية، وأنتج معجم العين معتمدا على ظاهرة التباديل والتوافيق ورد الكلمات إلى جذورها وهو من وضع فكرة الجذر، فمثلا الفعل “كتب” يضع له صيغا افتراضية هي بكت وتكب وبتك، ثم يقوم بعرض الصيغ على اللغة العربية المتمثلة بالقرآن والشعر العربي الجاهلي حتى العصر الأموي، ويقرر على هذا الأساس إن كانت الصيغة مستعملة أم مهملة، فما كان مهملا أهمله، وما كان مستعملا أثبته.
وبهذه الطريقة الحسابية الميسرة استطاع استحضار جميع كلمات اللغة العربية متدرجة من الأصول الثلاثية والرباعية، ومن ثم الخماسية.
أواني الفخار.. آلات تصنع بذرة علم الصوتيات
اتخذ الخليل بن أحمد التقسيم الصوتي معيارا وأساسا، فبنى عليه ترتيب مادته اللغوية، وبذلك يكون قد مهد لعلم الصوتيات (الفونتكس)، ويعتبر معجم العين بداية حقيقة لهذا العلم، إذ كان العلماء يهتمون بطريقة النطق وليس بمخرج الحرف، مما أعان على قراءة القرآن بطريقة صحيحة.
أما الخليل فقد اهتم بمخرج الحرف، لأن كل صوت له مخرج وله صفة، فالمخرج هو مكان توقف الهواء توقفا كاملا أو محدودا، لذلك وجدت الأصوات الرخوة والممتدة والشديدة.
وقد اعتمد الخليل على التقسيم الصوتي للحروف، ووجد أن حرف العين ثالث أبعد هذه الحروف مخرجا بعد الهمزة والهاء، فاختاره لاسم معجمه “العين” ثم تلا العين حرف الحاء، حتى وصل إلى الميم الذي يبدأ بالشفة، ثم وضع لكل حرف بابا، ووضع الكلمات التي تندرج في هذا الإطار.
كما اعتمد على صدى الصوت ليحدد المخرج الحقيقي للصوت مستخدما بذلك أواني الفخار ليرتب حروف معجمه العين، فكان بذلك واسطة العقد والبداية الحقيقية للمنهج العلمي في الفكر العربي الإسلامي.
طَرق النحاس في السوق.. جرس صوتي يلهم واضع علم العروض
يعتبر الفراهيدي واضع علم العروض والقافية، إذ عرف بذائقته العالية للشعر وأذنه الموسيقية، وكان يستمع في بعض الأحيان لشعر لا يسير على الإيقاع العربي الذي تعود عليه، وهذا ما جعله يفكر بضبط الأوزان الشعرية لمعرفة الفاسد من الشعر.
كان يذهب إلى السوق ليستمع إلى طَرقات صانعي النحاس الذي يطرقونه بشكل منتظم، ويتتبع هذه الطرقات ليوحد بينها وبين إيقاعات اللغة، وبعد ذلك يذهب إلى بيته، ويبدأ بعملية لحصر الشعر العربي منذ العصر الجاهلي.
ولكون علم العروض علما جديدا، فقد كان واضعه بحاجة إلى تأسيس المصطلح، ولذلك استمد الفراهيدي تلك المصطلحات من بيئته الصحراوية وما يحدها من البحار، فالعروض هي العارضة التي تعترض الخيمة فتقام عليها، وهناك الوتد والسبب وكلها مستمدة من بيئته.
وقد أوجد الفراهيدي مستعينا بحاسته الموسيقية دون معلّم ما يسمى بالوحدة التي تتبادل فيها الحركة والسكون، هذه العلاقة أوجدها من خلال التقليب، ولازمته وعاشت معه وأنتج بها معجم العين وعلم العروض.
ونتيجة للتطور الفكري في ذلك العصر، ظهر الاهتمام بالفنون وأصبح الغناء شائعا، مما أدى إلى تطور مهم نتج عن الارتباط بين الغناء والموسيقى وموسيقى الشعر، وبقي هذا التطور مستمرا في العصور اللاحقة على الموسيقى العربية، وبدأ الاهتمام ينعكس حتى في مؤلفات وكتب مهمة صدرت في مراحل لاحقة عن طبقات القيان والمغنين.
حُداء الإبل.. علاقة وطيدة بين الغناء والشعر العربي
أدرك الخليل القواعد الإيقاعية المنظمة للشعر العربي، فالعروض هو النوتة الموسيقية للشعر، أما البداية الحقيقية فترتبط بما كان يعرف عند العرب بفن الحُداء، إذ كان الحادي يترنم بإيقاعات أثناء سير القافلة في رحلتها ليقطع حاجز الملل والصمت أثناء المسير الطويل وليُسرّي على الجِمال المسافرة.
وكانت معظم النماذج الغنائية للحداء من بحر الهزج (على الأهزاج تسهيلُ .. مفاعيلن مفاعيلُ)، مما شكل علاقة وطيدة بين الشعر والغناء، فكانت هناك علاقة بين الإيقاع والموسيقى الموجودة داخل الشعر والموسيقى التي تؤديها الآلات، وبذلك يصبح الشعر منغما.
كان الخليل موهبة فذة وكان ملما بعلم الموسيقى، وأدى ذلك إلى أن يكون الإيقاع النغمي أكثر وضوحا في أذنه، مما جعله يهتدي إلى الإيقاعات الوزنية أو النغمية لعلم العروض، فالقالب الذي وضعه الخليل لنظام العروض كان صالحا لمخاطبتنا وجدانيا، ويتماهى مع أذواقنا المعاصرة، وقد غنى كثير من المطربين المعاصرين قصائد شعرية تسير على الأوزان الخليلية المعروفة.
علم القافية.. طفرة موسيقية في عالم الشعر والغناء
أحدث الخليل طفرة لغوية بوضعه معجم العين، كما كان تحديده لعلمي القافية والعروض طفرة موسيقية للعلماء والنقاد والشعراء.
وعلم القافية مكمل لعلم العروض، وقد اتحدا كلاهما ليكمل أحدهما الآخر، فالقافية اصطلاحا تشير إلى آخر كل شيء، والجذر اللغوي للقافية يشير لمؤخر الأشياء، يقتفي أو يقفو، والذي يقفو أثر فلان لا بد أن يكون سائرا خلفه، أما في الشعر فالقافية هي آخر حرف في البيت، فالقافية السينية هي التي تنتهي بحرف السين.
ومن الطرائف التي تُذكر عن الخليل أن أعرابيا قصده ينوي الإقامة معه، فلما أقام معه ردحا من الزمن ملازما له دون أن يبلغ مراده طلب منه الخليل أن يقطع البيت الشعري القائل:
إذا لم تستطع شيئا فدعه
وجاوزه إلى ما تستطيع
ففهم الرجل مراد الخليل ورحل، وهي رسالة أرادها الخليل أن تصل إلى كل من أراد أن يتعامل مع علمه.
والبحر في العروض هو الإطار الذي تسبح فيه الايقاعات الشعرية، وقد استنبط الخليل 15 بحرا (الوافر/البسيط/الطويل/الرجز/الرمل/الكامل/المتقارب/المديد/ الهزج/السريع/ المنسرح/ الخفيف/المضارع/ المقتضب/ المجتث)، وقد أضاف إليها تلميذه الأخفش الأوسط البحر الأخير وهو المتدارك لتصبح 16 بحرا، وكان الخليل يعلم هذا البحر لكنه كان يصفه بالبحر المهمل.
تطوير الكتابة.. آثار العبقرية بين ثنايا الحروف العربية
لم تقتصر إبداعات الخليل على وضع معجم العين وتأسيس علمي العروض والقافية، وإنما كان له دور بارز أيضا في تطوير الكتابة العربية، وتأسيس علم النحو الذي تبلور على يد تلميذه سيبويه.
فقد كانت الحروف العربية بداية بدون نقط ولا ضوابط، وكان على القارئ أن يتحقق من خلال فهم السياق، لأن العلم العربي كان علم رواية وليس علم دراية، ولكن مع دخول الأعاجم الإسلام كان لا بد من تيسير القراءة عليهم.
وأول من قام بضبط الإعراب هو أبو الأسود الدؤلي الذي ابتكر النقاط، وكان يقول لكاتبه إذا رأيتني أضم شفتي بالحرف فضع نقطة بجانب الحرف، وإذا رأيتني أفتحهما بالحرف فضع نقطة فوقه، وإذا رأيتني أكسر شفتي بالحرف فضع نقطة تحته، وإذا تبعت ذلك غنة فضع نقطتين.
بعد ذلك جاء نصر بن عاصم الليثي -وهو من تلاميذه- فاخترع النقاط التي تميز الحروف، أي إعجام الحروف وإزالة العجمة، وكانت النقاط بلونين، لكن الفراهيدي بعقليتيه العلمية وجد أن ذلك سيسبب لبسا ولغطا بسبب النقاط الكثيرة، فقام بوضع الشكل النهائي والمكتمل للكتابة العربية فوضع الكسرة والفتحة والضمة والشدة والسكون والهمزة وحرف المد. وبهذا الشكل أصبحت القراءة ميسرة وسهلة، وبعد ذلك جاء تلميذه النجيب سيبويه ليضع قواعد علم النحو لتنظيم الجملة العربية.
ولم يسبق سيبويه أحد في وضع كتاب للنحو العربي، وكان كتابه “الكتاب” فيه أثر للخليل إلى أبعد حد، فقد ذكر الخليل في 572 موضعا من “الكتاب”.
“لا حاجة لي إلى سليمان”.. زهد الصانع الأول لعلوم اللغة
رغم عقلية الفراهيدي الخلاقة وعبقريته المبتكرة والمجددة، فإنه كان زاهدا ورعا، وقد لا يوجد عالم اتفق المؤرخون على حسن خلقه وسماحة روحه مثلما اتفقوا على الخليل بن أحمد.
ولقد كانت لديه رغبة كبيرة بأن ينتقل علمه إلى تلاميذه. فقد جاء على لسان أحد العلماء الذين عاصروه: مات الخليل في خص من أخصاص البصرة وهو لا يجد ما يأكله، والناس يأكلون بعلمه الفالوذج.
وكان سليمان بن حبيب بن أبي صفرة والي فارس والأهواز يدفع إلى الخليل راتبا بسيطا يعينه على شؤون الحياة، وعندما أرسل إليه رسولا يدعوه إليه رفض القدوم إليه، وقدم لرسوله خبزا يابسا مما عنده، وقال ما دمت أجد هذا الخبز فلا حاجة لي إلى سليمان.
ويتفق اللغويون على أنه لا يوجد في علم العربية أحد يستحق لقب “أول” مثل الخليل فهو أول من وضع معجما، وهو أول من وضع قواعد علم العروض والقافية، وهو أول من وضع صورة مكتملة للكتابة العربية.
مات الفراهيدي وهو مستغرق في البحث والتأمل عام 173 من الهجرة، الموافق 789 من الميلاد، فسلام على روحه في الخالدين.