عبد القادر الجيلاني.. عالم بغداد وسيد الزهاد وإمام المتصوفين

يهتف مئات الملايين من المسلمين في أنحاء العالم، فيرونه “البازي الأشهب” الذي أنار تاريخ الإسلام، ونقل فقه التربية من أشواق الوجدان ومحاريب المساجد إلى حيوية الحياة، وصهوات التاريخ، وحقائب الأيام وضجيج الأسواق، وحمحمات خيل الفاتحين في أنحاء العالم الإسلامي.

إنه عبد القادر الجيلاني، وقد حمل لقبه من أرض طبرستان التي ولد فيها، ونسب إلى قريته جيلان، ويذهب مؤرخو سيرته بأنه شريف حسني تمتد سلسلة نسبه إلى سيدنا الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وأن أسلافه نزحوا إلى ذلك المنكب الشرقي من بلاد المسلمين في رحلة شتات وزعت آل البيت النبوي الشريف كما تتوزع النجوم والأقمار في أنحاء العالم، مطاردين بعسف الأنظمة التي كانت ترى في جاذبيتهم الدينية خطرا إستراتيجيا دائما.

بيت الزهد.. نشأة مشرقة في حياة مفعمة بالأنوار

وُلد الجيلاني في حدود 471 هـ في قرية جيلان لأسرة شريفة ذات تاريخ علمي عريق، وكان والده زاهدا عابدا كافا عن الدنيا، وكانت والدته النصف الثاني المكمل للأسرة الزاهدة التي يتأرج بيتها ببركات المتابعة النبوية.

وقد فتح الفتى الجيلاني عينيه على حياة مفعمة بالأنوار، فجاء زهرة فواحة بين غصنين “كانا من أهل الصلاح والديانة والشفقة على الخلق”، وفق ما حدّث هو نفسه عن والديه، وفي جيلان درس مبادئه الأولى من معارف الشريعة وقيم الإسلام، ثم تيمم بغداد سنة 488 هـ، ولسان حاله قول أبي العلاء المعري:

وإني تيممت العراق لغير ما
تيممه غيلان عند بلال

تتلمذ الشيخ عبد القادر الجيلاني على الشيخ أبي الوفاء علي بن عقيل الحنبلي حتى صار رأسا مقدما في المذهب

وفي بغداد درس على عدد من العلماء الأجلاء، واعتكف عند الشيخ أبي الوفاء علي بن عقيل الحنبلي، فأخذ عليه معارف الحنابلة، حتى صار رأسا مقدما في المذهب، ولم يكن ابن عقيل الشيخ الوحيد الذي أخذ عنه الجيلاني وإن كان أشهرهم، فقد درس أيضا على أساطين آخرين من الحنابلة منهم على سبيل المثال:

أبو سعيد المبارك بن علي المخرمي، شيخ الحنابلة في عصره، وقد خلفه تلميذه الشيخ عبد القادر في مدرسته وكرسي تعلميه وإفتائه، وحماد بن مسلم الدبّاس، وهو من أجلاء العلماء والمربين، وممن أثنى عليه وعلى تلميذه عبد القادر الجيلاني شيخ الإسلام ابن تيمية، حين يقول: فأمر الشيخ عبد القادر وشيخه حماد الدباس وغيرهما من المشايخ أهل الاستقامة -رضي الله عنهم- بأنه لا يريد السالك مرادا قطُّ، وأنه لا يريد مع إرادة الله عز وجل سواها، بل يجري فعله فيه فيكون هو مراد الحق.

“كدتُ أصافح الموت”.. أيام عصيبة في مجاعة بغداد

لم تكن رحلة الجيلاني في طلب العلم على طريق من الحرير ولا مفروشة بالورود، بل عانى فيها من المصاعب ما لا سقف له، ويظهر أنه مرت عليه في بغداد أيام مجاعة وغلاء، أكل فيها الناس ورق الشجر وعفن القمامة، وتسابق المعوزون إلى النفايات بحثا عما بقي من الطعام.

ويذكر الجيلاني نفسه بعض تلك المواقف، واصفا جزءا من معاناته في سبيل طلب العلم، إذ يقول: وكنت أقتات بخرنوب الشوك، وقمامة البقل، وورق الخس من جانب النهر والشط، وبلغت الضائقة في غلاء نزل ببغداد إلى أن بقيت أياما لم آكل فيها طعاما، بل كنت أتتبع المنبوذات أطعمها، فخرجت يوما من شدة الجوع إلى الشط لعلي أجد ورق الخس أو البقل، أو غير ذلك فأتقوّت به.

في غربته عن بلده، عاش عبد القادر الجيلاني حياة قاسية لم يكد فيها يجد الطعام

فما ذهبت إلى موضع إلا وغيري قد سبقني إليه، وإن وجدت أجد الفقراء يتزاحمون عليه فأتركه حُبّا، فرجعت أمشي وسط البلد لا أدرك منبوذا إلا وقد سُبقت إليه، حتى وصلت إلى مسجد ياسين بسوق الريحانيين ببغداد وقد أجهدني الضعف، وعجزت عن التماسك، فدخلت إليه وقعدت في جانب منه، وقد كدت أصافح الموت.

وتختم القصة المنسوبة إلى الرجل بكرامة طريفة، إذ جاء إلى المسجد شاب أعجمي يحمل شواء وخبزا فاخرا، وبدأ يأكل والجيلاني في غاية الجوع، ينتظر أن يدعوه الرجل إلى طعامه، وطال الانتظار حتى رق الرجل للجيلاني ودعاه، فامتنع ثم ألح إليه فقبل، وبعد أن تعارفا إذا الرجل رسول يبحث عن الجيلاني وقد جاءه بمال قليل بعثت به إليه أمه ليعينه على ظروف الإقامة العسيرة.

“ما رأيت بعده مثله”.. إمام انتهت إليه رئاسة بغداد

استقر الإمام عبد القادر الجيلاني في بغداد، وورث مدرسة شيخه المبارك بن علي المخرمي، وانهال التلاميذ إلى درسه وحضرته ينهلون من علمه وسمته، وسار ذكره في الأقطار، حتى وصفه تلميذه موفق الدين بن قدامة بأنه محيي الدين الذي انتهت إليه الرئاسة.

الإمام الشيخ عبد القادر الجيلاني تنتهي إليه الرئاسة في بغداد علما وعملا وحالا وإفتاء

يقول ابن قدامة: دخلنا بغداد سنة 561 هـ، فإذا الشيخ الإمام محي الدين عبد القادر ممن انتهت إليه الرئاسة بها علما وعملا وحالا وإفتاء، وكان يكفي طالبَ العلم عن قصده غيرَه، من كثرة ما اجتمع فيه من العلوم والصبر على المشتغلين وسعة الصدر، وكان ملء العين، وجمع الله فيه أوصافا جميلة وأحوالا عزيزة، وما رأيت بعده مثله، وكل الصيد في جوف الفراء.

وقد وضع الشيخ الجيلاني برنامجا للمحاضرات والدروس العلمية العامة موزعا على ثلاثة أيام من الأسبوع، واستمر على ذلك أربعين سنة من 521 إلى 561 هـ، أما التدريس والإفتاء فقد جلس له مدة 33 سنة، فصار شيخ بغداد بلا منازع، وكان ثالث دجلة والفرات، غير أن فورة علمه الفياض لا تغيض، وما زالت أمواج طريقته الصوفية تملأ الآفاق.

حب السنة وبغض البدعة.. ثناء كبار العلماء

أثنى على الشيخ الجيلاني ابن تيمية وكبار العلماء وحتى أولئك المناوئون للصوفية الذين لم يجدوا بدا من الاعتراف له بالفضل والمكانة، فوصفه ابن تيمية بأنه من أعظم مشايخ زمانهم أمرا بالتزام الشرع والأمر والنهي، وتقديمه على الذوق والقدر، من أعظم المشايخ أمرا بترك الهوى والإرادة النفسية.

ابن تيمية يصف الجيلاني بأنه من أعظم مشايخ زمانه أمرا بالتزام الشرع والأمر والنهي

أما الإمام النووي فيحدث عن الجيلاني قائلا: كان جميل الصفات، شريف الأخلاق، كامل الأدب والمروءة، كثير التواضع، دائم البِشر، وافر العلم والعقل، شديد الاقتفاء لكلام الشرع وأحكامه، معظما لأهل العلم، مُكرِّما لأرباب الدين والسنة، مبغضا لأهل البدع والأهواء، محبا لمريدي الحق، مع دوام المجاهدة ولزوم المراقبة إلى الموت، وكان له كلام عال في علوم المعارف، شديد الغضب إذا انتهكت محارم الله سبحانه وتعالى، سخي الكف، كريم النفس على أجمل طريقة، وبالجملة لم يكن في زمنه مثله.

وإذا كان الجيلاني قد ابتدع طريقة صوفية نالتها لاحقا سهام كثير من العلماء، فقد كان تراثه العلمي زاخرا بموافقة ذلك المنهج السلفي، والسير على خطاهم في مباحثهم التقليدية في سبر العقيدة وتقسيمها، وفي تعريف الإيمان وفي الأسماء والصفات، وكان له خطه الذي امتاز به، وهو صناعة الرجال، وتهذيب الطبائع، وتأليف النفوس، وجذب أعنتها حتى تنقاد عن رغبة وشوق إلى رياض الصالحين.

“من صفا باطنه وظاهره بمتابعة الكتاب والسنة”

يعرف الجيلاني التصوف في كتابة “الغنية” بأنه “هو الصدق مع الحق، وحسن الخُلق مع الخَلْق”. ويحدد وظائف المتصوف في التقوى والطاعة في الظاهر والباطن، والمجاهدة والصبر على الطريق ورفاقها وأدلائها، ولم يكن يرى أن التصوف زيّ وشعار وعلامة تميز أثواب الناس، ويعرفون بها في الطرقات، بل رآه وهجا في القلب وحرارة في الشوق وصدقا في السير إلى الله.

كتاب “الغُنية لطالبي الحق والدين” لعبد القادر الجيلاني

فـالصوفيّ عنده هو “من صفا باطنه وظاهره بمتابعة كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، والصوفي الصادق في تصوّفه يصفو قلبه عن ما سوى مولاه عز وجل، وهذا شيء لا يجيء بتغيير الخرق، وتعفير الوجوه، وجمع الأكتاف، ولقلقة اللسان، وحكايات الصالحين، وتحريك الأصابع بالتسبيح والتهليل، وإنما يجيء بالصدق في طلب الحق عز وجل، والزهد في الدنيا، وإخراج الخلق من القلب، وتجرّده عن ما سوى مولاه عز وجل”.

وقد ترك الشيخ الجيلاني مؤلفات عدة، ونسبت إليه كتب كثيرة، ومن أشهرها:

إغاثة العارفين وغاية منى الواصلين. فتوح الغيب. آداب السلوك والتوصل إلى منازل السلوك. الغوث الأعظم. تحفة المتقين وسبيل العارفين.

ومن أشهر كتبه وأكثرها تعبيرا عن طريقته وهويته الصوفية، كتابا “الغنية لطالب طريق الحق”، و”الفتح الرباني والفيض الرحماني”.

مدرسة الجيلاني.. مؤسسة تقويم الاعوجاج وصناعة الرجال

أسس الشيخ عبد القادر الجيلاني مدرسته القادرية التي أقامها خارج سوق بغداد، بعد أن ضاقت مدرسته التي ورثها عن شيخه المبارك المخرمي، وقد أقبل الناس عليها إقبالا هائلا، فقد كانت دروسه في بغداد ذات تأثير غير مسبوق في إقامة سنوات من التوبة والإخبات، وكسر كثير من مظاهر الفسق والانحراف التي كانت سائدة.

بعد اكتمال بناء المدرسة القادرية في 528 هجرية جلس فيها الشيخ عبد القادر الجيلاني للتدريس حتى وفاته سنة 561 هـ

وقد سار الناس خلفه في مدرسته الجديدة، فجمعت الأغنياء المتبرعين والفقراء المقيمين والعلماء المدرسين والزهاد المربين، وكانت مؤسسة تربوية متكاملة تضم جامعا وجامعة وسكنا ورباطا.

وقد تبرع أهل بغداد لإقامة هذه المدرسة، حتى تقدمت النساء بمهورهن مساهمة في هذه المؤسسة العظيمة، وانتهجت برنامجا علميا تربويا صارما، ينهل فيه الطالب من المعارف الإسلامية التي تقيم اعوجاج نفسه، وتطلق لسانه بالحق، وتسرح قلبه في رياض الحقيقة، ليعود إلى قريته أو بلدته عالما عاملا ومربيا وسفيرا للقادرية، فقد كان الشيخ حريصا على أن يؤسس طلابه مدارس في بلدانهم، حتى يمتد الإشعاع وتتواصل المسيرة، وقد اكتمل بناء القادرية في حدود 528 هجرية، فجلس فيها الشيخ منذ ذلك التاريخ إلى وفاته سنة 561 هـ.

مدارس القادرية.. أغصان مثمرة تواصل عطاء الشجرة الجيلانية

تفرعت عن المدرسة القادرية مدارس ومراكز علمية كبيرة أسسها طلابه وطلاب أبنائه من بعده، وتبنت المنهج التربوي ذاته الذي قامت عليه المدرسة القادرية، ومن أشهرها المدرسة العدوية التي أسسها عدي بن مسافر الهكاري المتوفى سنة 557 هـ، والمدرسة القرشية التي أسسها عثمان بن مرزوق القرشي، وكان من أبرز الخصوم الفكريين للدولة الفاطمية، وكان صوتا داعما بقوة للأيوبيين الذين أسقطوها لاحقا، فحشد أنصاره وتلاميذه إلى صف الأمير نور الدين بن محمود زنكي.

المدرسة الكيلانية (الجيلانية) ببغداد

ومن المدارس القادرية الشهيرة المدرسة التي أسسها أبو السعود الحريمي كبير تلاميذ الشيخ عبد القادر ووارث المشورة والرئاسة من بعده، وقد نهل من علمه ودعوته كثير من العلماء، وارتبط به الفقراء الذين كان بيته ملاذا لهم.

وفي أصبهان أيضا أُسست المدرسة الجبائية على يد عبد الله الجبائي، وقد كان نصرانيا ثم أسلم، وأقام في مجلس الشيخ عبد القادر عشرين سنة صيرته عالما مدرسا ومربيا عظيما، قبل أن ينتقل إلى أصبهان، وهي التي نشر فيها علم ودعوة شيخه الجيلاني واتصلت منه أسانيد القادرية في بلاد ما وراء النهرين.

وقد انتشرت القادرية بعد ذلك في مختلف أنحاء العالم الإسلامي وتعددت أسماء فروعها وطرقها، وإليها ينتمي الآن ملايين المسلمين، وقد اشتهر علماؤها وقادتها بالامتياز العلمي، ونشر الإسلام، وبناء المدارس العلمية، وتأسيس الدول، وصناعة الزعامات الإسلامية، وقد ربطت القادرية ربطا وثيقا بين التربية والدولة وبين التصوف والجهاد، فحققت بذلك الغنية في الانتماء ونالت “فتوح الغيب”.