“ملك الاستنساخ”.. حملات تلاحق الرجل الذي استنسخ الكائنات الحية

يجلس “فورست غامب” على مقعد ما في ضاحية ما من مدينة سافانا بجورجيا في الرائعة السينمائية الأمريكية “فورست غامب” (Forrest Gump)، ثم تصل إليه ريشة يتأملها ويأخذ في سرد قصته المؤثرة، وفي نهاية الفيلم يلقي بالريشة لتذروها الرياح من جديد.

الفكرة التي يدافع عنها الفيلم هي أننا مهما حاولنا التحكم في مصائرنا، فلا يمكننا أن نسيطر على أقدارنا تماما. فما نحن سوى أجسام تحرّكها الأقدار مهما كابرنا وادعينا العكس. وهذا ما تختزله العبارة العربية ببلاغة كبيرة “ريشة في مهب الرياح”.

ولم يكن “هوانغ وو سوك” الأستاذ المحاضر في جامعة سيول الوطنية موضوع فيلم “ملك الاستنساخ” (King of Clones) للمخرج “أديتيا ثايي” (2023) سوى هذه الريشة التي رفعتها رياح البحث العلمي إلى القمة، ثم رمت بها منها إلى الهوة، وحوّلتها فجأة من بطل قومي صاحب اكتشافات علمية باهرة إلى متحيّل ومدّعٍ يلاحقه القضاء، ثم إلى منفي عن بلده رغم أنفه.

مستنسخ الأبقار.. نجم كوري يوقظ شعور النخوة الوطنية

لم يكن نجاح الدكتور الباحث “هوانغ وو سوك” في استنساخ البقرة الحلوب “يوينغ رونغ إي” في تسعينيات القرن الماضي حدثا علميا فحسب، بل كان حدثا سياسيا أيقظ في الكوريين الجنوبيين شعور النخوة الوطنية، واستوجب لقاء مع رئيس البلاد آنذاك “كيم داي جونغ”، وحدثا اقتصاديا وعد بأن تكون قوة اقتصادية عظمى تتحكم في السوق العالمية للغذاء.

والحال أنها كانت حينئذ تواجه صعوبات جمّة في استيراد الأبقار، وكان ذلك يكلف اقتصادها كثيرا من المال، وحوّل ذلك الإنجاز الرجل من النسيان والإهمال الذي يعانيه في المخابر -شأن الباحثين عامّة- إلى بطل قومي له أتباع وأشياع، ونجم تلاحقه عدسات المصوّرين، فتتناقل وسائل الإعلام أخباره.

يستهلّ الفيلم بمشاهد للباحث الدكتور “هوانغ وو سوك”، وهو يجول بين الكلاب الأفغانية المستنسخة في خيلاء والنباح يتصاعد، ثم يفاجئنا بعدئذ بالخبر الصادم الذي تتناقله وكالات الأنباء عن الحكم عليه بالسجن سنة ونصفا مؤجلة التنفيذ، ثم بهجرته بعيدا عن الوطن ليشتغل في مركز أبحاث التكنولوجيا الحيوية في الإمارات العربية المتحدة، لتطوير سلالات الإبل المشاركة في سباقات الهجّن.

فإذن دلالة المشهد مزدوجة، بين ظاهر يحتفي بهذا النجاح، ويؤكّد التطلع إلى مستقبل للبلاد بفضل أبحاثه الفريدة، وبين خيبة الأمل اللاحقة التي تؤكد أنّ كل الصخب السابق لم يكن غير هذر لا معنى له، وأنّ المسألة يجب أن تطرح من زاوية صلة العلم بالأخلاق، لا بعالم الشهرة والنجومية والمال.

تقنية الاستنساخ.. بلسم ضد الفقد وتحقيق للحلم

يعرض الفيلم حكايات مؤثرة كان لـ”هوانغ وو سوك” الفضل في تحققها. أولها يتعلّق بالجمل “مبروكان” صاحب العلامة الكاملة في الجمال وعظمة القوام، ويقدر ثمنه في السوق بخمسة ملايين دولار، وكان يقدّر عند صاحبه بأكثر من ذلك بكثير، لذا رفض بيعه لأفراد العائلة المالكة بأربعة أضعاف سعره، لكن هذا “الديناصور” مات فجأة وترك لوعة في قلوب محبيه.

وثانيها حكاية الكلب الإيطالي “تشيلو”، وكان صاحبه الثري يجد فيه وفي ملامحه رفيقا برتبة إنسان. ومن الطرائف أنه كلّما تأخر في النوم لمشاهدة التلفزيون مثلا، أتاه وأخذه إلى فراشه كأم حانية، ولكن الكلب يصاب فجأة بسرطان الدم ويرحل سريعا.

ثم يعرض الفيلم طبيبا بيطريا وهو يحمل مهرا قائلا ببهجة: كنت أظن أن “مبروكان” قد مات منذ 11 سنة، وها هو الآن حي بين يدي من جديد.

كان لـ”هوانغ وو سوك” دور في وجود عشر نسخ أخرى من الجمل نفسه، فقد احتفظ هذا البيطري بخصيتي مبروكان أملا في استخراج الحيوانات المنوية منهما يوما، ثم أسعفه الحظ بتقنية الاستنساخ هذه، ليحصل الثري الإيطالي أيضا على نسخته من الكلب “تشيلو”، بعد أن سافرت خلاياه إلى إنجلترا ثم كوريا الجنوبية ومنها إلى الإمارات، بحثا عمن يعيد زرعها من جديد.

الباحث الدكتور “هوانغ وو سوك” ملك الاستنساخ

جليّ إذن أنّ الاستنساخ لا يخلو من نبل، فهو بلسم يعمل ضد الفقد، ويوفر لنا نسخا من الكائنات المميزة، بل إنه يمثّل -على نحو ما- تحقيقا لحلم الإنسان في الحدّ من أذى الموت الذي كتب فيه ما كتب. ولا يسعنا هنا إلا أن نتذكر رثاء المتنبي لجدته قائلا:

وكنتُ قُبَيلَ الموْتِ أستَعظِمُ الـنّـوَى
فقد صارَتِ الصُّغرى التي كانتِ العُظمى

هَبيني أخذتُ الثأرَ فيكِ منَ العِدَى
فكيفَ بأخذِ الثّأرِ فيكِ من الحُمّى

ولكن لم يمر هذا الحدث العلمي الكبير دون أن يحدث صخبا شديدا، ويثير حفيظة الدين والأخلاق والفلسفة معا.

قطع الغيار البشرية.. طموحات علاجية وتدخل في خلق الله

استنسخ “هوانغ وو سوك” عددا من الحيوانات في السنوات التالية لتجربته الأولى، واختير العالمَ الأفضلَ في كوريا، ومُنح ملايين الدولارات لتطوير أبحاثه، ولترسيخ هيمنة البلاد في مجال العلوم والتكنولوجيا، خاصّة أنّ العلماء الأمريكيين فشلوا في محاكاة منجزه.

وعلى الرغم من حماسة عامة الشعب له، فقد كانت الهيئات العلمية تشعر بالحرج إزاءه، إذ لم ينشر أبحاثا علمية تدعم مزاعمه حتى 2004. ثم نشر مقالين متكاملين في المجلة العلمية “العلوم” (Science) يشرح فيهما عملية تكوين أجنة بشرية عن طريق الاستنساخ، ويعلن أنه أنشأ -رفقة فريقه العلمي- 11 سلالة من الخلايا الجذعية الجنينية.

ويختزل الفيلم الأفق المنشود لعلم الخلايا الجذعية المعقد في توفير “قطع غيار بشرية” للذين يعانون من الأمراض المميتة، أو المصابين بشلل يعيق قدرتهم على الحركة العضوية من أجنة مُخَلَّقة، فيفتح باب الأمل لهم بالشفاء.

والمعضلة الأولى هنا دينية أخلاقية، فما يقترحه “هوانغ” هو تلاعب ببلازما الحياة، واستهانة بعملية خلق البشر، فإلى أي حدّ يمكننا أن نتدخّل فيما هو خَلقي؟ فالأمر يتعلّق بتخليق أجنة حاملة للحياة، وليس مجرد عملية تجميلية مثلا. وأكثر من ذلك، فإن ما يقترحه -وفق البعض- معارضة نظام الرب وسلطته في الخلق.

ويجد العلمانيون أنفسهم يقفون على الخط نفسه مع المتديّنين وإن من زاوية الفلسفة. فما يقترحه الباحث عندهم اعتداء على إنسانية الإنسان أولا، وتدخّل فيما يجب أن يكون عليه البشر خلقيّا. والسؤال هنا هو: من يملك الشرعية ليمنح “هوانغ” مثل هذه السلطة؟

تلفيق التقارير.. انقلاب من نبل العلم إلى دنس التجارة

في هذه الأجواء المليئة بالتردد والريبة، ظهرت معضلة جديدة نسفت مشروع “هوانغ وو سوك” في بلاده، فقد حامت شكوك حول كيفية حصوله على البويضات المعتمدة في التجارب، فما يعلنه “هوانغ” هو أنّ سيدات قد تطوعن ببويضاتهن له، وأنهن يفعلن ذلك إيمانا منهن بجدوى مشروعه. ولكنّ تقريرا وضع حماسة المتطوعات موضع الشكّ، وكشف أن الفريق قد اشترى البويضات المستخدمة في البحث بمقابل مالي.

“هوانغ وو سوك” اختار عددا من الحيوانات في السنوات التالية لتجربته الأولى، واختير العالمَ الأفضلَ في كوريا

وقد أكدت الصحافة الاستقصائية الكورية لاحقا مزاعمه، وقدّمت أدلة على انحراف خطير شابَ أبحاث الرجل.

وبعد هذه الضجّة، أعادت جامعة سيول الوطنية فحص بحوث “هوانغ”، وتحقّقت من أنه قد لفّق بيانات ورقته العلمية سنة 2005، مؤكدة أنّ البيانات تتعلق بـ”خليتين جذعيتين” من بين 11 خلية يدّعي الاشتغال بها. ثم اكتشفت لاحقا أنّ الخليتين المعتمدتين لا تعودان إلى المرأتين المذكورتين في الورقة.

وتأكد هذا التزوير في الشهر الأول من سنة 2006، وتحوّل إلى فضيحة علمية دفعت مساعده -منذ فترة طويلة- د. “جيرالد شاتن” من جامعة بيتسبرغ إلى إنهاء علاقته به، ولم يكن ذلك غير بداية لانهيار حلم وطن أمام جوع “هوانغ” للمال والشهرة.

احتجاجات المناصرين وحصار الحقائق.. بداية الانهيار

أثار بث البرنامج الاستقصائي احتجاجات واسعة النطاق من أتباع “هوانغ”، فقد رفضوا التسليم بما يذاع، واعتبروه تشويها لبطلهم وتشكيكا في إنجازاته. وكان البعض يفد من المدن البعيدة مكلّفين أبناءهم الصغار عبء السفر ومعاناة مرافقتهم في التظاهر، إيمانا منهم أنهم يناصرون قضية نبيلة، وشاركهم ذوو الاحتياجات الخاصة الآملين في التعافي مظاهراتهم، وانخرط فيها النجوم والمشاهير والمؤثرون في الرأي العام، وكان الجميع يتبنى حلم “هوانغ” باعتباره قضية وطنية أو إنسانية، أكثر مما هو بحث عن مجد شخصي.

ولكن الحقائق كانت تحاصر الرجل وتشكك في نزاهته، فضلا عن تجريد أبحاثه من جلالها العلمي، فقد رفعت المرأتان اللتان تبرعتا بالبويضات لاستنساخ أجنة بشرية دعوى قضائية تطالب بتعويض قدره 32 مليون دولار.

وللحدّ من وقع الضغط المسلط عليه بعد اتهامه بالاحتيال والاختلاس وانتهاك قانون أخلاقيات علم الأحياء، استقال “هوانغ” من منصبه في مركز الخلايا الجذعية العالمي الذي يقع مقرّه في مدينة سيول، ونشر اعتذارا عاما عما اقترفه من الأخطاء. ولكن ذلك لم يجد نفعا، ففي أبريل/ نيسان 2006 جُرّد من رخصته لإجراء أبحاث الخلايا الجذعية الجنينية، ثم حُكم عليه بالسجن لمدة عام ونصف العام مع وقف التنفيذ، ثم خُفف الحكم لاحقا إلى ستة أشهر.

منفى الإمارات.. صراع بين مشاعر الفخر والشكوى

يصوّر الفيلم “هوانغ وو سوك” منفيا عن بلاده، هائما وحيدا في صحاري أبو ظبي وطرقاتها الممدّة والقاحلة وقت الحر، تصاحبه أغنية كورية حزينة تقول كلماتها: “عندما تتكون الأحزان في قلبي، القطرة تلو القطرة، أتسلق الهضبة عند الصباح، سأذهب الآن إلى البراري القاحلة تاركا أحزاني خلفي..” ويؤكد هو نفسه أنه اتخذ هذه الموسيقى طقسا يوميا يختزل معاني حياته كلّها. ليعلق في النهاية قائلا: “إنها أشبه بمحاكمة لي”.

ويبدو ممزقا بين مشاعر الفخر والشكوى، يفخر فيؤكّد امتلاكه بالفعل لتكنولوجيا تخليق الأجنة لغايات إنسانية، ويحاول أن يؤكد أنه لا يزال فعّالا في البحث العلمي، عارضا إسهامه في استنساخ أكثر من 150 جملا في مركز أبحاث التكنولوجيا الحيوية في الإمارات العربية المتحدة، عارضا صلته بكبار رجالات الدولة، وهي تعرف كلّ شيء عن ماضيه، ولكنها تصفح عنه وتستفيد من علمه.

ولكن خلف الفخر تعرض ذاتٌ معذّبة ونفس شقية شكواها من بلادها، حين واجهت هذا المجد العلمي الذي “لا يمكن محوه أو نسيانه” بالنكران والجحود، وشوّهت الاستنساخ وأشاعت أنه تدخّل في الخلق، والحال أنّ كل ذلك مجافٍ للحقيقة، فهو لا يفعل غير نسخ الجينات وإعادة إنتاجها كما شاءت لها المشيئة الإلهية.

“فرانكشتاين” الجديد.. أسئلة حول الوحوش التي يخلقها العلم

يعرض الفيلم قصة “هوانغ وو سوك” المثيرة، ويحاول أن يجيب عن أسئلة طرحت على هامشها، فمساعده هو من بلّغ عن تجاوزاته، على الرغم من أنه كان يعامله كما يعامل الأب لابنه، وقد عد ذلك بمثابة الخيانة، وتعامل معه المتظاهرون على هذا الأساس، ووجهت له تهديدات بالقتل.

ولكن إن لم يخن معلّمه ألم يكن سيخون العلم نفسه؟ وهل ينتصر العالم إلى الحقيقة وإن كانت على حساب المصلحة الوطنية، أم ينتصر إلى هذه المصلحة وإن زيّف الحقيقة في سبيل ذلك؟

وإن شئنا أن نقلب السؤال على نحو مغاير تساءلنا عن وطن العالم؟ هل هو الرقعة الجغرافية المحدودة، أم الحقيقة المتحرّرة من كل الأعراق والأوطان والحدود؟ وما الحدود التي يجب أن يقف عندها العلم؟ فهل يجب عليه أن يذهب إلى ما لا نهاية في أحلامه، ويترك التحكم في النتائج إلى الضمير الأخلاقي الجمعي؟ وماذا فعل هذا الضمير إزاء الأسلحة النووية؟ ألم يجعل اليابان أول ضحاياه؟

ومن وراء هذه المغامرة كان الفيلم يطرح الأسئلة العميقة التي يواجهها إنسان اليوم. فينخرط في النقاش الدائر بين الأخلاقيين والعلماء نتيجة للتقدم التكنولوجي السريع الذي غالبا ما ينشأ عند المنجزات الكبيرة.

يورد الفيلم لقطات من فيلم الخيال العلمي “فرنكنشتاين” (Frankenstein). وعلى الرغم من محاولته طرح الأسئلة بحياد، فإنه ينخرط عبرها في النقاش، ويعلمنا أنّ الذهاب بالعلم إلى المدى البعيد يمكن أن يخلق الإنسان الوحش.